الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكۡمَةٖ ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مُّصَدِّقٞ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَٰلِكُمۡ إِصۡرِيۖ قَالُوٓاْ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (81)

وقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ }[ آل عمران :81 ] . المعنى : واذكر يا محمَّد إذْ ، فيحتملُ أن يكون أخذ هذا الميثاق ، حين أَخرج بني آدم مِنْ ظَهْر آدم نَسَماً ، ويحتملُ أنْ يكون هذا الأخْذُ على كلِّ نبيٍّ في زمنه ، ووقت بعثه ، والمعنى : إنَّ اللَّه تعالى أخذ ميثاقَ كُلِّ نبيٍّ ، بأنه ملتزمٌ هو ومن آمَنَ به الإيمانَ بمَنْ أتى بعده من الرُّسُل ، والنَّصْرَ له ، وقال ابن عبَّاس : إِنما أخذ اللَّه ميثاقَ النَّبيِّين على قومهم ، فهو أخذ لميثاقِ الجميع ، وقال عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ ( رضي اللَّه عنه ) : لَمْ يبعثِ اللَّهُ نَبِيًّا آدَمَ فَمَنْ بعده ، إلا أخذ عليه العَهْدَ في محمَّد صلى الله عليه وسلم لَئِنْ بُعثَ ، وهو حيٌّ ، لَيُؤْمِنَنَّ به ، ولينصُرَنَّه ، وأمره بأخذه على قومه ، ثم تلا هذه الآيةَ ، وقاله السُّدِّيُّ .

وقرأ حمزةُ : ( لِمَا ) بكسر اللام ، وهي لامُ الجَرِّ ، والتقديرُ لأجْلِ ما آتيناكم ، إذْ أنتم القادَةُ ، والرؤوس ، ومَنْ كان بهذه الحال ، فهو الذي يُؤْخَذُ ميثاقُهُ ، و ( ما ) في هذه القراءةِ بمعنَى ( الَّذِي ) ، والعائدُ إلَيْها من الصِّلَة ، تقديره : آتيناكموه ، و ( مِنْ ) : لبيانِ الجنسِ ، و{ ثُمَّ جَاءَكُمْ . . . } الآية : جملةٌ معطوفةٌ على الصِّلة ، ولا بُدَّ في هذه الجملة مِنْ ضميرٍ يعودُ على الموصُول ، وإنما حذف ، تخفيفاً لطول الكلام ، وتقديره عند سيبويه : رَسُولٌ بِهِ

( مصَدِّقٌ لِمَا معَكُمْ ) واللامُ فِي : ( لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ) هي اللامُ المتلقِّية للقَسَمِ ، الذي تضمَّنه أخْذُ الميثاقِ ، وفصل بَيْن القَسَم والمُقْسَم عليه بالجارِّ والمجرورِ ، وذلك جائِزٌ ، وقرأ سائِرُ السَّبْعة ( لَمَا ) بفتح اللام ، وذلك يتخرَّج على وجهين :

أَحدهما : أنْ تكون ( مَا ) موصولةً في مَوْضع رفع بالابتداء ، واللاَّمُ لامُ الابتداء ، وهي متلقِّية لما أُجْرِيَ مُجْرَى القَسَم ، من قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين } ، وخَبَرُ الابتداءِ قولُهُ : { لَتُؤْمِنُنَّ } ، و( لَتُؤْمِنُنَّ ) : متعلِّق بقَسَمٍ محذوفٍ بالمعنى : واللَّهِ لَتُؤْمِنُنَّ ، قاله أبو عَلِيٍّ وهو متَّجِه ، بأنَّ الحَلِفَ يقع مرَّتين .

والوجْهُ الثاني : أنْ تكونَ ( ما ) للجزاءِ شرْطاً ، فتكون في موضع نصبٍ بالفعلِ الذي بعْدَهَا ، وهو مجزومٌ ، و( جَاءَكُمْ ) معطوفٌ في موضع جزمٍ ، واللام الداخلَةُ على ( مَا ) ليسَتِ المتلقِّية للقَسَمِ ، ولكنها الموطِّئةُ المُؤْذِنَةُ بمجيءِ لامِ القَسَم ، فهي بمَنْزِلَة اللاَّم في قوله تعالى : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون }

[ الأحزاب :66 ] لأنها مؤذِنَةٌ بمجيء المتلقِّية للقسم في قوله : { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } [ الأحزاب : 60 ] وكذلك هذه مؤذنةٌ بمجيء المتلقِّية للقَسَمِ في قوله : ( لَتُؤْمِنُنَّ ) .

وقرأ نافعٌ وحْده : ( آتَيْنَاكُمْ ) بالنُّون ، وقرأ الباقون : ( آتَيْتُكُمْ ) ، بالتاء ، و( رَسُول ) ، في هذه الآية : اسمُ جنسٍ ، وقال كثيرٌ من المفَسرين هو نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم .

وقوله تعالى : { قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي . . . }[ آل عمران :81 ] .

هذه الآية : هي وصْفُ توقيفِ الأنبياء -عليهم السلام- على إِقرارهم بهذا الميثاق ، والتزامهم له ، { وَأَخَذْتُمْ } ، في هذه الآية : عبارةٌ عمَّا تحصَّل لهم من إيتاء الكُتُبِ ، والحِكْمة ، فَمِنْ حيْثُ أخذ عليهم ، أخذوا هم أيضًا ، وقال الطَّبَرِيُّ : { أَخَذْتُمْ } ، في هذه الآية : معناه قَبِلْتُمْ ، و( الإصْر ) : العَهْد لا تَفْسِير له في هذا الموضع إلا ذَلِكَ .

وقوله تعالى : { فاشهدوا } يحتملُ معنَيَيْنِ :

أحدهما : فاشهدوا على أممكم المؤمنينِ بكُمْ ، وعلى أنْفُسِكُمْ بالتزام هذا العَهْد ، قاله الطَّبَرِيُّ ، وجماعة ، والمعنى الثاني : بُثوا الأمْرَ عنْد أممكم ، واشهدوا به ، وشهادةُ اللَّهِ على هذا التأويل هي إعطاء المُعْجَزَاتِ ، وإقرارُ نُبُوءاتهم ، هذا قَوْلُ الزَّجَّاج وغيره .

وقال ( ع ) : فتأمَّل أنَّ القول الأول هو إيداعُ الشهادةِ واستحفاظها ، والقولُ الثَّانِي هو الأمر بأدائها ، وحَكَمَ الله تعالى بالفِسْقِ على مَنْ تولى مِنَ الأمم بَعْدَ هذا الميثاق ، قاله عليُّ بْنُ أبي طَالِبٍ ، وغيره ، وقرأ أبو عَمرٍو : ( يَبْغُونَ ) ، بالياء مِنْ أَسْفَلُ مفْتُوحَة ، و( تَرْجِعُونَ ) بالتَّاء من فوقُ مضمومةً ، وقرأ عاصمٌ بالياءِ من أسفَلُ فيهما ، وقرأ الباقُون بالتَّاء فيهما ، ووجوه هذه القراءاتِ لا تخفى بأدنى تأمُّل .

و{ تَبْغُونَ } معناه : تَطْلُبُونَ .