غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكۡمَةٖ ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مُّصَدِّقٞ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَٰلِكُمۡ إِصۡرِيۖ قَالُوٓاْ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (81)

81

التفسير : الغرض من هذه الآيات تعديد الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قطعاً لأعذارهم وإظهاراً لعنادهم من جملتها أخذ ميثاق النبيين . قال الزجاج : تقديره واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله . وقيل : واذكروا يا أهل الكتاب . وإضافة الميثاق إلى النبيين إما أن تكون من إضافة العهد إلى المعاهد منه ، أو من إضافة العهد إلى المعاهد كما تقول : ميثاق الله وعهد الله . أما الاحتمال الأول فيؤيده ما يشعر به ظاهر اللفظ من أن آخذ الميثاق هو الله والمأخوذ منهم النبيون وهو قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس . ثم على هذا القول ما نقل عن علي أنه ما بعث آدم ومن بعده من الأنبياء إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، والذي يدل على صحته ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعي " فهذا على سبيل الفرض والتقدير ، وهو أنهم لو كانوا أحياء لوجب عليهم الإيمان بمحمد وإلا فالميت لا يكون مكلفاً . وقيل : المراد أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف ، أو أمة النبيين فقد ورد كثيراً في القرآن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ويراد به الأمة كقوله { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء }[ الطلاق :1 ] وقيل : النبيون أهل الكتاب وقد ورد على زعمهم تهكماً بهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه وسلم لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون . ويؤكده قراءة أبي وابن مسعود { وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } .

وأما الاحتمال الثاني فالمعنى أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به ، ويؤكده أنه تعالى حكم بأنهم إن تولوا كانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء وإنما يليق بالأمم .

وروي عن ابن عباس أنه قيل له : إن أصحاب عبد الله يقرأون { وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } ونحن نقرأ { وإذا أخذ الله ميثاق النبيين } فقال : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم { لما آتيتكم } من قرأ بفتح اللام ففيه وجهان :

أحدهما : أن " ما " تكون موصولة واللام للابتداء وخبره { لتؤمنن } واللام فيه جواب القسم المقدر . والعائد على الموصول في { آتيتكم } محذوف وفي { جاءكم } ما يدل عليه { لما معكم } لأنه في معنى " ما آتيتكم " والتقدير للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق له والله لتؤمنن به - وثانيهما - واختاره سيبويه وغيره - كيلا يفتقر إلى تكلف الرابط أن يقال : أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف . و " ما " هي المتضمنة لمعنى الشرط وحينئذٍ يحتاج القسم إلى الجواب والشرط إلى الجزاء ، وليس ههنا ما يصلح لكل منهما إلا الإيمان والنصرة . فالأصح في هذا المقام أن يجعل المذكور جواباً للقسم ظاهراً ، ولهذا أدخل اللام والنون المؤكدة في " لتؤمنن " و " لتنصرن " وأدخل اللام في الشرط وتسمى موطئة لأنها تعين من أول الأمر وتمهد أن المذكور هو جواب القسم لا الشرط . ثم إن جواب الشرط يكون مستغنى عنه لأن جواب القسم يسد مسدّه . ومن قرأ بكسر اللام للتعليل ففيه أيضاً وجهان : أحدهما أن تكون " ما " مصدرية أي أخذ الله ميثاقهم لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم موافقاً لكم في الأصول لتؤمنن به ، لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء .

والثاني أن تكون " ما " موصولة وبيان الرابط كما مر . وعن سعيد بن جبير { لما } بالتشديد بمعنى " حين " . وقيل : أصله " لمن ما " أي لمن أجل ما آتيتكم . أدغمت النون في الميم فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفوا إحداها للتخفيف فيؤل المعنى إلى قراءة حمزة . وفي جميع القراءات قيل : لا بد من إضمار بأن يقال : وإذا أخذ الله ميثاق النبيين فقال مخاطباً لهم لما آتيتكم . قلت : هذا من باب الالتفات فلا حاجة إلى الإضمار فكأنه قيل : وإذ أخذت أو أخذنا . ولما في أخذ الميثاق من معنى القول . ومن العلماء من قدر الإضمار بنوع آخر واستحسنه في التفسير الكبير مع أنه متكلف فقال : وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه .

والنبيون عام وليس كلهم أصحاب كتاب ولكنه وصف الكل بوصف أشرفهم ، أو الكتاب لذوي الكتب والحكمة لغيرهم ، أو جعل الداعي إلى الكتاب وإلى العمل به كالذي أنزل عليه الكتاب . و " من " للبيان أو للتبعيض . وقوله : { ثم جاءكم } والرسول لا يجيء إلى النبيين وإنما يجيء إلى الأمم معناه أي في زمانكم وإن كان المراد من النبيين أولادهم أو أممهم فلا إشكال . والمراد بتصديقه لما معهم موافقته في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع . فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها فذاك في الحقيقة ليس بخلاف لأن جميع الأنبياء متفقون على أن الحق في زمان موسى ليس إلا شرعه عليه السلام وأن الحق في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا شرعه عليه السلام . ولو قلنا : إن المراد بالرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فالمراد إما ما ذكرنا أو أن نعته وصفته وأحواله مذكورة في الكتب المتقدمة ، فكان نفس مجيئه تصديقاً لما كان معهم . الظاهر أن المراد بهذا الميثاق هو التوصية بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقاً لما معهم . وقيل : يحتمل أن يكون الميثاق إشارة إلى ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب ، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولاً عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه ، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه . وقيل : المراد بأخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء المتقدمين ، فإذا صارت أحواله صلى الله عليه وسلم مطابقة لما جاء في الكتب الإلهية وجب الانقياد له صلى الله عليه وسلم ، وهذا إنما يصح لو كان المراد بالنبيين أولادهم أو أممهم أو ميثاق النبيين من الأمم أو ميثاق الله من النبيين على تقدير كونهم أحياء . أقول والله أعلم : يحتمل أن يراد بقوله { ثم جاءكم } المجيء في الزمان الماضي ، فيكون معنى الآية أن الله تعالى أخذ ميثاقه من كل نبي أوتي كتاباً وحكمة أن يؤمن بكل رسول كان قد جاء قبله موافقاً لما معه وينصر دينه بأن يظهر حقيته في وقته وأنه من عند الله سبحانه وأنه موافق له في أصول العقائد وفي قواعد مكارم الأخلاق ، فتكون هذه الآية تمهيداً لما يجيء بعد من قوله : { قل آمنا بالله } الآية . { قال } الله أو كل نبي لأمته مستفهماً بمعنى الأمر { أأقررتم } بالإيمان به والنصرة ؟ والإقرار في الشرع إخبار عن ثبوت حق سابق . وفي اللغة منقول بهمزة التعدية من قر الشيء يقر إذا ثبت ولزم مكانه { وأخذتم } أي قبلتم { على ذلكم أصري } عهدي . والأخذ بمعنى القبول كثير قال تعالى :

{ لا يؤخذ منها عدل }[ البقرة :48 ] أي لا يقبل . ويأخذ الصدقات أي يقبلها . سمي العهد أصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد .

ثم بعد المطالبة بالإقرار أكد ذلك بالإشهاد وقال : { فاشهدوا } أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار . وفي قوله : { وأنا معكم من الشاهدين } وأنه لا يخفى عليه خافية ، تذكير لهم وتوكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض . وقيل : فاشهدوا خطاب للملائكة . وقيل : معناه ليجعل كل أحد نفسه شاهداً على نفسه كقوله :{ وأشهدهم على أنفسهم }[ الأعراف : 172 ] وقيل : بينوا هذا الميثاق للخاص والعام حتى لا يبقى لأحد عذر في الجهل به . وأصله أن الشاهد هو الذي يبين تصديق الدعوى . وقيل : استيقنوا وكونوا كالمشاهد للشيء المعاين له ، أو يكون خطاباً للأنبياء بأن يكونوا شاهدين على الأمم .