معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّـٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمٗا} (127)

قوله تعالى : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن } ، الآية . قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في بنات أم كحة وميراثهن عن أبيهن ، وقد مضت القصة في أول السورة ، وقالت عائشة رضي الله عنها : هي اليتيمة ، تكون في حجر الرجل ، وهو وليها ، فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سنة صداقها ، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركها ، وفي رواية : هي اليتيمة ، تكون في حجر الرجل ، قد شركته في ماله ، فيرغب عنها أن يتزوجها لدمامتها ، ويكره أن يزوجها غيره ، فيدخل عليه في ماله ، فيحبسها حتى تموت ، فيرثها ، فنهاهم الله عن ذلك .

قوله تعالى : { ويستفتونك }أي : يستخبرونك .

قوله تعالى : { في النساء قل الله يفتيكم فيهن } .

قوله تعالى : { وما يتلى عليكم في الكتاب } ، قيل معناه : ويفتيكم في ما يتلى عيكم ، وقيل : معناه : نفتيكم ما يتلى عليكم ، يريد الله يفتيكم فيهن . وكتابه يفتيكم فيهن ، قوله عز وجل : { وآتوا اليتامى أموالهم } .

قوله تعالى : { في يتامى النساء } ، هذا إضافة الشيء إلى نفسه ، لأنه أراد باليتامى النساء .

قوله تعالى : { اللاتي لا تؤتونهن } ، أي : لا تعطونهن .

قوله تعالى : { ما كتب لهن } ، من صداقهن .

قوله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } . أي في نكاحهن ، لمالهن وجمالهن بأقل من صداقهن ، وقال الحسن وجماعة : أراد لا تؤتونهن حقهن من الميراث ، لأنهم كانوا لا يورثون النساء .

قوله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } . أي : عن نكاحهن لدمامتهن .

قوله تعالى : { والمستضعفين من الولدان } . يريد : ويفتيكم في المستضعفين من الولدان وهم الصغار ، أن تعطوهم حقوقهم ، لأنهم كانوا لا يورثون الصغار . يريد : ما يتلى عليكم في باب اليتامى من قوله { وآتوا اليتامى أموالهم } يعني بإعطاء حقوق الصغار .

قوله تعالى : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } أي : ويفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط بالعدل في مهورهن ، ومواريثهن .

قوله تعالى : { وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليماً } ، يجازيكم عليه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّـٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمٗا} (127)

علاج رواسب الجاهلية فيما يختص بالمرأة والأسرة هذا الدرس تكمله لما بدأت به السورة من علاج رواسب المجتمع الجاهلي ، فيما يختص بالمرأة والأسرة ؛ وفيما يختص بمعاملة الضعاف في المجتمع كاليتامى والأطفال . وتنقية المجتمع المسلم من هذه الرواسب ؛ من الجاهلية ، وإشفاق من كل ما كان فيها من تقاليد وعادات وأوضاع وأحكام . مع شدة إحساسهم بقيمة هذا التغيير الكامل الذي أنشأه الإسلام في حياتهم . أو بتعبير أدق بقيمة هذا الميلاد الجديد الذي ولدوه على يدي الإسلام .

وهنا نجد جزاء تطلعهم لله ، وجزاء حرارتهم ، وصدق عزيمتهم على الاتباع . . نجد جزاء هذا كله عناية من الله ورعاية . . بأنه سبحانه - بذاته العلية - يتولى إفتاءهم فيما يستفتون فيه :

( ويستفتونك في النساء . قل الله يفتيكم فيهن . . . ) . .

فهم كانوا يستفتون الرسول [ ص ] والله - سبحانه - يتفضل فيقول للنبي [ ص ] قل : إن الله يفتيكم فيهن وفي بقية الشؤون التي جاء ذكرها في الآية . وهي لفتة لها قيمتها التي لا تقدر ، في عطف الله سبحانه ، وتكريمه للجماعة المسلمة ؛ وهو يخاطبها بذاته ؛ ويرعاها بعينه ؛ ويفتيها فيما تستفتي ، وفيما تحتاج إليه حياتها الجديدة .

وقد تناولت الفتوى هنا تصوير الواقع المترسب في المجتمع المسلم من الجاهلية التي التقطه المنهج الرباني منها . كما تناولت التوجيه المطلوب ، لرفع حياة المجتمع المسلم وتطهيرها من الرواسب .

( قل الله يفتيكم فيهن ؛ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ، وترغبون أن تنكحوهن . والمستضعفين من الولدان . وأن تقوموا لليتامى بالقسط . . ) .

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية : كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه . فإذا فعل ذلك فلم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا . وإن كانت جميلة وهويها تزوجها ، وأكل مالها . وإن كانت دميمة منعها الرجال أبد حتى تموت . فإذا ماتت ورثها . فحرم الله ذلك ونهى عنه . . وقال في قوله : ( والمستضعفين من الولدان ) كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات . وذلك قوله : لا تؤتونهن ما كتب لهن . . فنهى الله عن ذلك ؛ وبين لكل ذي سهم سهمه فقال : للذكر مثل حظ الأنثيين ، صغيرا أو كبيرا . .

وقال سعيد بن جبير في قوله : ( وأن تقوموا لليتامى بالقسط ) . . كما إذا كانت ذات جمال وقال نكحتها واستأثرت بها ، كذلك وإذا لم تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها واستأثر بها .

وعن عائشة - رضي الله عنها - : ويستفتونك في النساء . قل الله يفتيكم فيهن . - إلى قوله : ( وترغبون أن تنكحوهن ) قالت عائشة : هو الرجل تكون عنده اليتيمة ، هو وليها ووارثها ، فأشركته في ماله ، حتى في العذق ، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته ، فيعضلها فنزلت الآية [ أخرجه البخاري ومسلم ] .

وقال ابن أبي حاتم : قرأت مع محمد بن عبدالله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير قالت عائشة : " ثم إن الناس استفتوا رسول الله [ ص ] بعد هذه الآية فيهن . فأنزل الله : ( ويستفتونك في النساء قل : الله يفتيكم فيهن ، وما يتلى عليكم في الكتاب ) . . . الآية . . قالت . والذي ذكر الله أنه يتلى في الكتاب : الآية الأولى التي قال الله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء . . . ) . وبهذا الإسناد عن عائشة قالت : " وقول الله عز وجل :

( وترغبون أن تنكحوهن ) . . رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال . فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء - إلا بالقسط - من أجل رغبتهم هن " .

وظاهر من هذه النصوص ، ومن النص القرآني . ما كان عليه الحال في الجاهلية ؛ فيما يختص بالفتيات اليتيمات . فقد كانت اليتيمة تلقى من وليها الطمع والغبن : الطمع في مالها ، والغبن في مهرها - إن هو تزوجها - فيأكل مهرها ويأكل مالها . والغبن إن لم يتزوجها كراهية لها لأنها دميمة . ومنعها أن تتزوج حتى لا يشاركه زوجها فيما تحت يده من مالها !

كذلك كان الحال في الولدان الصغار والنساء ، إذ كانوا يحرمونهم من الميراث لأنهم لا يملكون القوة التي يدفعون بها عن ميراثهم ؛ أو أنهم غير محاربين ، فلا حق لهم في الميراث ، تحت تأثير الشعور القبلي ، الذي يجعل للمحاربين في القبيلة كل شيء . ولا شيء للضعاف !

وهذه التقاليد الشائهة البدائية ، هي التي أخذ الإسلام يبدلها ، وينشى ء مكانها تقاليد إنسانية راقية لا تعد - كما قلنا - مجرد وثبة ، أو نهضة ، في المجتمع العربي . إنما هي في حقيقتها نشأة أخرى ، وميلاد جديد ، وحقيقة أخرى لهذه الأمة غير حقيقتها الجاهلية !

والمهم الذي يجب أن نسجله : هو أن هذه النشأة الجديدة ، لم تكن تطورا مسبوقا بأية خطوات تمهيدية له ؛ أو أنه انبثق من واقع مادي تغير فجأة في حياة هذا الشعب !

فالنقلة من إقامة حقوق الإرث والملك على أساس حق المحارب إلى إقامتها على أساس الحق الإنساني ، وإعطاء الطفل واليتيمة والمرأة حقوقهم بصفتهم الإنسانية ، لا بصفتهم محاربين ! هذه النقلة لم تنشأ لأن المجتمع قد انتقل إلى أوضاع مستقرة لا قيمة فيها للمحاربين . ومن ثم قضى على الحقوق المكتسبة للمحاربين ، لأنه لم يعد في حاجة إلى تمييزهم !

كلا ! فقد كان للمحاربين في العهد الجديد قيمتهم كلها ؛ وكانت الحاجة إليهم ماسة ! ولكن كان هناك . . الإسلام . . كان هناك هذا الميلاد الجديد للإنسان . الميلاد الذي انبثق من خلال كتاب ؛ ومن خلال منهج ؛ فأقام مجتمعا جديدا وليدا . على نفس الأرض . وفي ذات الظروف . وبدون حدوث انقلاب لا في الإنتاج وأدواته ! ولا في المادة وخواصها ! وإنما مجرد انقلاب في التصور هو الذي انبثق منه الميلاد الجديد . وحقيقة أن المنهج القرآني قد كافح . وكافح طويلا . لطمس ومحو معالم الجاهلية في النفوس والأوضاع ، وتخطيط وتثبيت المعالم الإسلامية في النفوس والأوضاع . . وحقيقة كذلك أن رواسب الجاهلية ظلت تقاوم ؛ وظلت تعاود الظهور في بعض الحالات الفردية ؛ أو تحاول أن تعبر عن نفسها في صور شتى . .

ولكن المهم هنا : هو أن المنهج المتنزل من السماء ، والتصور الذي أنشأة هذا المنهج كذلك ، هو الذي كان يكافح " الواقع المادي " ويعدله ويبدله . . ولم يكن قط أن الواقع المادي أو " النقيض " الكامن فيه ؛ أو تبدل وسائل الإنتاج . . أو شيء من هذا " الهوس الماركسي " ! هو الذي اقتضى تغيير التصورات ومناهج الحياة ، وأوضاعها ، لتلائم هذا التبدل الذي تفرضه وسائل الإنتاج !

كان هناك فقط شيء جديد واحد في حياة هذا الشعب . . شيء هبط عليه من الملأ الأعلى . . فاستجابت له نفوس ، لأنه يخاطب فيها رصيد الفطرة ، الذي أودعه الله فيها . . ومن ثم وقع هذا التغيير . بل تم هذا الميلادالجديد للإنسان . الميلاد الذي تغيرت فيه ملامح الحياة كلها . . في كل جانب من جوانبها . . عن الملامح المعهودة في الجاهلية ! ! !

ومهما يكن هناك من صراع قد وقع بين الملامح الجديدة والملامح القديمة . ومهما يكن هناك من آلام للمخاض وتضحيات . . فقد تم هذا كله . لأن هناك رسالة علوية ؛ وتصورا اعتقاديا ؛ هو الذي كان له الأثر الأول والأثر الأخير في هذا الميلاد الجديد . الذي لم تقتصر موجته على المجتمع الإسلامي ؛ ولكن تعدته كذلك إلى المجتمع الإنساني كله

ومن ثم ينتهي هذا النص القرآني الذي يفتي فيه الله المؤمنين ، فيما يستفتون فيه الرسول [ ص ] في أمر النساء ، ويقص عليهم حقوق اليتيمات ، وحقوق الولدان الضعاف . . ينتهي بربط هذه الحقوق وهذه التوجيهات كلها ، بالمصدر الذي جاء من عنده هذا المنهج :

وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليمًا . .

فهو غير مجهول ، وهو غير ضائع . . وهو مسجل عندالله . ولن يضيع خير سجل عند الله .

وهذا هو المرجع الأخير الذي يعود إليه المؤمن بعمله ، والجهة الوحيدة التي يتعامل معها في نيته وجهده . وقوة هذا المرجع ، وسلطانه ، هي التي تجعل لهذه التوجيهات ولهذا المنهج قوته وسلطانه في النفوس ، وفي الأوضاع وفي الحياة .

إنه ليس المهم أن تقال توجيهات ؛ وأن تبتدع مناهج ؛ وأن تقام أنظمة . . إنما المهم هو السلطان الذي ترتكن إليه تلك التوجيهات والمناهج والأنظمة . السلطان الذي تستمد منه قوتها ونفاذها وفاعليتها في نفوس البشر . . وشتان بين توجيهات ومناهج ونظم يتلقاها البشر من الله ذي الجلال والسلطان ، وتوجيهات ومناهج ونظم يتلقونها من العبيد أمثالهم من البشر ! ذلك على فرض تساوي هذه وتلك في كل صفة أخرى وفي كل سمة ؛ وبلوغهما معا أوجا واحدا - وهو فرض ظاهر الاستحالة . ألا إنه ليكفي أن أشعر ممن صدرت هذه الكلمة ، لأعطيها في نفسي ما تستحقه من مكان . . ولتفعل في نفسي ما تفعله كلمة الله العلي الأعلى . أو كلمة الإنسان ابن الإنسان !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّـٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمٗا} (127)

قال البخاري : حدثنا عبيد بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا هشام بن عروة ، أخبرني أبي{[8410]} عن عائشة : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } إلى قوله : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } قالت : هو الرجل تكون عنده اليتيمة ، هو وليها ووارثها قد شَرِكته في ماله ، حتى في العَذْق ، فيرغب أن ينكحها ، ويكره أن يزوِّجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها ، فنزلت هذه الآية .

وكذلك رواه مسلم ، عن أبي كُرَيب ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، كلاهما عن أبي أسامة{[8411]} .

وقال ابن أبي حاتم : قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير ، قالت عائشة : ثم إن الناس استفْتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم

بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } الآية ، قالت : والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله [ تعالى ]{[8412]} { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } [ النساء : 3 ] .

وبهذا الإسناد ، عن عائشة قالت : وقول الله عز وجل : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهن .

وأصله ثابت في الصحيحين ، من طريق يونس بن يزيد الأيْلي ، به{[8413]} .

والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها ، فتارة يرغب في أن يتزوجها ، فأمره الله عز وجل أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء ، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء ، فقد وسع الله عز وجل . وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة . وتارة لا يكون للرجل فيها رغبة لِدَمَامَتِهَا عنده ، أو في نفس الأمر ، فنهاه الله عز وجل أن يُعضِلها عن الأزواج خشية أن يَشْركوه في ماله الذي بينه وبينها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فِي يَتَامَى النِّسَاء [ اللاتي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ]{[8414]} } الآية ، فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة ، فيلقي عليها ثوبه ، فإذا فعل ذلك [ بها ]{[8415]} لم يقدر أحد أن يتَزَوّجها أبدًا ، فإن كانت جميلة وهويها تَزَوَّجَها وأكل مالها ، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت ، فإذا ماتت ورثها . فَحَرَّم الله ذلك ونهى عنه .

وقال في قوله : { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ } كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات ، وذلك قوله : { لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } فنهى الله عن ذلك ، وبيَّن لكل ذي سهم سهمه ، فقال : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ } [ النساء : 11 ] صغيرًا أو كبيرًا .

وكذا قال سعيد بن جبير وغيره ، قال سعيد بن جبير في قوله : { وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ } كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها ، كذلك إذا لم تكن ذات جمال ولا مال فأنكحها واستأثر بها .

وقوله : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا } تهييجًا{[8416]} على فعل الخيرات وامتثال الأمر{[8417]} وأن الله عز وجل عالم بجميع ذلك ، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه .


[8410]:في ر: "عن أبيه".
[8411]:صحيح البخاري برقم (5131) وصحيح مسلم برقم (3018).
[8412]:زيادة من أ.
[8413]:صحيح البخاري برقم (5064) وصحيح مسلم برقم (3018).
[8414]:زيادة من ر، أ.
[8415]:زيادة من أ.
[8416]:في ر: "تهييج".
[8417]:في أ: "الأوامر".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّـٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمٗا} (127)

عطف تشريع على إيمان وحكمة وعظة . ولعلّ هذا الاستفتاء حدث حين نزول الآيات السابقة . فذكر حكمه عقبها معطوفاً . وهذا الاستفتاء حصل من المسلمين بعد أن نزل قوله تعالى : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [ النساء : 3 ] الخ . وأحسن ما ورد في تفسير هذه الآية ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير أنّه سأل عائشة عن قول الله تعالى : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } قالت : يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشركه في ماله ويُعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوّجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيَها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنّتهنّ في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ .

وأنّ الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله تعالى : { ويستفتونك في النساء } . قالت عائشة : وقول الله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال ؛ قالت : فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلاّ بالقسط من أجْل رغبتهم عنهنّ إذا كنّ قليلات المال والجمال ، وكان الولي يرغب عن أن ينكحها ويكره أن يزوّجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها . فنزلت هذه الآية .

فالمراد : ويستفتونك في أحكام النساء إذ قد علم أنّ الاستفتاء لا يتعلّق بالذوات ، فهو مثل قوله : { حرّمت عليكم أمّهاتكم } [ النساء : 23 ] . وأخصّ الأحكام بالنساء : أحكام ولايتهنّ ، وأحكام معاشرتهنّ . وليس المقصود هنا ميراث النساء إذ لا خطور له بالبال هنا .

وقوله : { قل الله يفتيكم فيهن } وعد باستيفاء الإجابة عن الاستفتاء ، وهو ضرب من تبشير السائل المتحيّر بأنّه قد وجد طلبته ، وذلك مثل قولهم : على الخبير سقطت . وقوله تعالى : { سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً } [ الكهف : 78 ] . وتقديم اسم الجلالة للتنويه بشأن هذه الفتيا .

وقوله : { وما يتلى عليكم } عطف على اسم الجلالة ، أي ويفتيكم فيهنّ ما يتلى عليكم في الكتاب ، أي القرآن ، وإسناد الإفتاء إلى ما يُتلى إسناد مجازي ، لأنّ ما يتلى دالّ على إفتاء الله فهو سبب فيه ، فآل المعنى إلى : قل الله يفتيكم فيهنّ بما يتلى عليكم في الكتاب ، والمراد بذلك بما تلي عليهم من أوّل السورة ، وما سيتلى بعد ذلك ، فإنّ التذكير به وتكريره إفتاء به مرّة ثانية ، وما أتبع به من الأحكام إفتاء أيضاً . وقد ألّمت الآية بخلاصة ما تقدّم من قوله : { وآتوا اليتامى أموالهم } إلى قوله : { وكفى بالله حسيباً } [ النساء : 2 6 ] . وكذلك أشارت هذه الآية إلى فِقر ممّا تقدّم : بقوله هنا : { في يتامى النساء اللاتي لا تؤتوهنّ ما كُتب لهنّ } فأشار إلى قوله :

{ وإن خفتم أن لا تقسطوا } إلى قوله : { فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 3 ، 4 ] .

ولحذف حرف الجرّ بعد { ترغبون } هنا موقع عظيم من الإيجاز وإكثار المعنى ، أي ترغبون عن نكاح بعضهنّ ، وفي نكاح بعض آخر ، فإنّ فعْل رغب يتعدّى بحرف ( عن ) للشيء الذي لا يُحَبّ ؛ وبحرف ( في ) للشيء المحبوب . فإذا حذف حرف الجرّ احتمل المعنيين إن لم يكن بينهما تناف ، وذلك قد شمله قوله في الآية المتقدّمة { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا } [ النساء : 3 ] الخ . وأشار بقوله هنا { والمستضعفين من الولدان } إلى قوله هنالك { وآتوا اليتامى أموالهم إلى كَبيراً } [ النساء : 2 ] وإلى قوله : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } إلى قوله : { معروفاً } [ النساء : 5 ] .

وأشار بقوله : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } إلى قوله هنالك { وابتلوا اليتامى } إلى { حسيباً } [ النساء : 6 ] .

ولا شكّ أنّ ما يتلى في الكتاب هو من إفتاء الله ، إلاّ أنّه لمّا تقدّم على وقت الاستفتاء كان مغايراً للمقصود من قوله : { الله يفتيكم فيهنّ } ، فلذلك صحّ عطفه عليه عطف السبب على المسبّب . والإفتاء الأنف هو من قوله : { وإنِ امرأةٌ خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً } إلى { واسعاً حكيماً } [ النساء : 128 130 ] .

و ( في ) من قوله : { في يتامى النساء } للظرفية المجازية ، أي في شأنهن ، أو للتعليل ، أي لأجلهنّ ، ومعنى { كُتب لهنّ } فُرِض لهنّ إمّا من أموال من يرثْنَهم ، أو من المهور التي تدفعونها لهنّ ، فلا توفوهنّ مهور أمثالهنّ ، والكلّ يعدّ مكتوباً لهنّ ، كما دلّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها وعلى الوجهين يجيء التقدير في قوله : { وترغبون أن تنكحوهنّ } ولك أن تجعل الاحتمالين في قوله : { ما كتب لهنّ } وفي قوله : { وترغبون أن تنكحوهنّ } . مقصودين على حدّ استعمال المشترك في معنييه .

وقوله : { والمستضعفين } عطف على { يتامى النساء } ، وهو تكميل وإدماج ، لأنّ الاستفتاء كان في شأن النساء خاصّة ، والمراد المستضعفون والمستضعفات ، ولكنّ صيغة التذكير تغليبٌ ، وكذلك الولدان ، وقد كانوا في الجاهلية يأكلون أموال من في حجرهم من الصغار .

وقوله : { وأن تقوموا } عطف على { يتامى النساء } ، أي وما يتلى عليكم في القيام لليتامى بالعدل . ومعنى القيام لهم التدبير لشؤونهم ، وذلك يشمل يتامى النساء .