قوله تعالى : { قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا } ، إن عبدناه .
قوله تعالى : { ولا يضرنا } ، إن تركناه ، يعني : الأصنام ليس إليها نفع ولا ضر .
قوله تعالى : { ونرد على أعقابنا } ، إلى الشرك مرتدين .
قوله تعالى : { بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين } . أي : يكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين ، أي : أضلته .
قوله تعالى : { في الأرض حيران } ، قال ابن عباس : كالذي استغوته الغيلان في المهامه ، فأضلوه فهو حائر بائر ، والحيران : المتردد في الأمر ، لا يهتدي إلى مخرج منه .
قوله تعالى : { له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا } ، هذا مثل ضربه الله تعالى لمن يدعو إلى الآلهة ولمن يدعوا إلى الله تعالى ، كمثل رجل في رفقة ، ضل به الغول عن الطريق ، يدعوه أصحابه من أهل الرفقة هلم إلى الطريق ، ويدعوه الغول فيبقى حيران لا يدري أين يذهب ، فإن أجاب الغول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة ، وإن أجاب من يدعوه إلى الطريق اهتدى .
قوله تعالى : { قل إن هدى الله هو الهدى } ، يزجر عن عبادة الأصنام ، كأنه يقول : لا تفعل ذلك فإن الهدى هدى الله ، لا هدى غيره .
قوله تعالى : { وأمرنا لنسلم } ، أي : أن نسلم .
قوله تعالى : { لرب العالمين } ، والعرب تقول : أمرتك لتفعل ، وأن تفعل ، وبأن تفعل .
هذا الإيقاع القوي بحقيقة الألوهية وخصائصها ؛ وباستنكار الشرك والعودة إليه بعد الهدى ؛ وبمشهد الذي يرجع القهقري مرتدا عن دين الله ؛ وحيرته في التيه بلا اتجاه ؛ وبتقرير أن هدى الله وحده هو الهدى . . هذا الإيقاع يختم برنة عالية عميقة مدوية . عن سلطان الله المطلق ، في الأمر والخلق ؛ وعن انكشاف هذا السلطان وتفرده بالظهور - حتى للمنكرين المطموسين - ( يوم ينفخ في الصور ) ويبعث من في القبور ؛ ويستيقن من لم يكن يستيقن أن الملك لله وحده ، وأن إليه المصير :
( قل : أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ، ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، كالذي استهوته الشياطين في الأرض ، حيران ، له أصحاب يدعونه إلى الهدى . ائتنا . قل : إن هدى الله هو الهدى ، وأمرنا لنسلم لرب العالمين . وأن أقيموا الصلاة واتقوه ) . .
( قل ) . . الإيقاع القوي المتكرر في السورة ؛ الذي يوحي بأن هذا الأمر لله وحده ، وأن الرسول [ ص ] إنما هو منذر ومبلغ ؛ والذي يوحي بجلال هذا الأمر وعلويته ورهبته ؛ وأن الرسول [ ص ] إنما هو مأمور به من ربه .
( قل : أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ؟ ) . .
قل لهم يا محمد ما هم عليه من دعوة غير الله والاستعانة به وإسلام مقادهم لهؤلاء الذين يدعونهم من دونه ، وهم لا يملكون نفعا ولا ضرا . سواء كان ما يدعونه وثنا أو صنما ، حجرا أو شجرا ، روحا أم ملكا ، شيطانا أم إنسانا . . فكلهم سواء في أنهم لا ينفعون شيئا ولا يضرون . فهم أعجز من النفع والضر . وكل حركة إنما تجري بقدر من الله . فما لم يأذن به الله لا يكون ، ولا يكون إلا قدره وما جرى به قضاؤه من الأمور . .
قل لهم مستنكرا دعوة غير الله ، وعبادة غير الله ، والاستعانة بغير الله ، والخضوع لغير الله . وسخف هذا التصرف وهذا الاتجاه . . وسواء كان ذلك ردا على ما كان يقترحه المشركون على النبي [ ص ] من مشاركتهم عبادة آلهتهم ليشاركوه عبادة ربه ! أو كان ذلك استنكارا مبتدأ لما عليه المشركون ، وإعلانا للمفارقة والمفاصلة فيه من جانب النبي [ ص ] والمؤمنين . . فإن المؤدى في النهاية واحد ؛ وهو استنكار هذا السخف الذي يرفضه العقل البشري ذاته متى عرض له في النور ؛ بعيدا عن الموروثات الراسبة ، وبعيدا كذلك عن العرف السائد في البيئة !
ولتجسيم السخف وتضخيم الاستنكار يعرض هذه المعتقدات في ضوء ما هدى الله المسلمين إليه من عبادته وحده ، واتخاذه وحده إلها ، والدينونه له وحده بلا شريك : 1 ( قل : أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا ؟ . .
فهو ارتداد على الأعقاب ؛ ورجوع إلى الوراء ؛ بعد التقدم والارتقاء . .
ثم هذا المشهد الشاخص المتحرك الموحي المثير :
( كالذي استهوته الشياطين في الأرض ) ( . . حيران . . له أصحاب يدعونه إلى الهدى : ائتنًا ) . .
إنه مشهد حي شاخص متحرك للضلالة والحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد ، ومن يتوزع قلبه بين الإله الواحد ، والآلهة المتعددة من العبيد ! ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال ، فيذهب في التيه . . إنه مشهد ذلك المخلوق التعيس : ( الذي استهوته الشياطين في الأرض )- ولفظ الاستهواء لفظ مصور بذاته لمدلوله - ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه ، فيكون له اتجاه صاحب القصد الموحد - ولو في طريق الضلال ! -
ولكن هناك ، من الجانب الآخر ، أصحاب له مهتدون ، يدعونه إلى الهدى ، وينادون ( ائتنا )- وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء( حيران ) لا يدري أين يتجه ، ولا أي الفريقين يجيب !
إنه العذاب النفسي يرتسم ويتحرك ، حتى ليكاد يحس ويلمس من خلال التعبير !
ولقد كنت أتصور هذا المشهد وما يفيض به من عذاب الحيرة والتأرجح والقلقلة كلما قرآت هذا النص . . ولكن مجرد تصور . . حتى رأيت حالات حقيقية ، يتمثل فيها هذا الموقف ، ويفيض منها هذا العذاب . . حالات ناس عرفوا دين الله وذاقوه - أيا كانت درجة هذه المعرفة وهذا التذوق - ثم ارتدوا عنه إلى عبادة الآلهة الزائفة ، تحت قهر الخوف والطمع . . ثم إذا هم في مثل هذا البؤس المرير . . وعندئذ عرفت ماذا تعني هذه الحالة ، وماذا يعني هذا التعبير !
وبينما ظل المشهد الحي الشاخص المتحرك الموحي ، يغمر النفس بالوجل من هذا المصير التعيس . . يأتي التقرير الحاسم بالاتجاه الثابت المستقيم :
( قل : إن هدى الله هو الهدى ، وأمرنا لنسلم لرب العالمين ، وأن أقيموا الصلاة واتقوه )
إنه التقرير الحاسم في الظرف النفسي المناسب ، فالنفس التي ترتسم لها صورة الحيرة الطاغية ، والعذاب المرير من هذه الحيرة التي لا تستقر على قرار ، تكون أقرب ما تكون إلى استقبال القرار الحاسم بالراحة والتسليم . .
ثم إنه الحق في ذلك التقرير الحاسم :
( قل : إن هدى الله هو الهدى ) . .
هو وحدة الهدى - كما يفيد التركيب البياني للجملة - وإنه لكذلك عن يقين . .
وإن البشرية لتخبط في التيه ، كلما تركت هذا الهدى ، أو انحرفت عن شيء منه واستبدلت به شيئا من تصوراتها هي ومقولاتها ، وأنظمتها وأوضاعها ، وشرائعها وقوانينها ، وقيمها وموازينها ، بغير( علم )ولا( هدى )ولا ( كتاب منير ) . .
إن " الإنسان " موهوب من الله القدرة على تعرف بعض نواميس الكون وبعض طاقاته وقواه ، للانتفاع بها في الخلافة في الأرض ، وترقية هذه الحياة . . ولكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على استكناه الحقائق المطلقة في هذا الكون ، ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب ، ومنها غيب عقله هو وروحه ، بل غيب وظائف جسمه والأسباب الكامنة وراء هذه الوظائف ، والتي تدفعها للعمل هكذا ، وبهذا الانتظام ، وفي هذا الاتجاه .
ومن ثم يحتاج هذا " الإنسان " إلى هدى الله في كل ما يختص بكينونته وحياته من عقيدة وخلق ، وموازين وقيم ، وأنظمة وأوضاع ، وشرائع وقوانين تحكم هذه الكينونة وتنظم لها واقع الحياة . .
وكلما فاء هذا " الإنسان " إلى هدى الله اهتدى . لأن هدى الله هو الهدى . وكلما بعد كلية عنه ، أو انحرف بعض الانحراف واستبدل به شيئا من عنده ضل . لأن ما ليس من هدى الله فهو ضلال . . إذ ليس هنالك نوع ثالث ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ ) .
ولقد ذاقت البشرية من ويلات هذا الضلال - وما تزال كلها تذوق - ما هو " حتمي " في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله . . فهذه هي " الحتمية التاريخية " الوحيدة المستيقنة لأنها من أمر الله ، ومن خبر الله ، لا تلك الحتميات المدعاة ! والذي يريد أن يتملى شقاء البشرية في انحرافها عن هدى الله ، لا يحتاج أن ينقب ، فهو حوله في كل أرض تراه الأعين وتلمسه الأيدي ، ويصرخ منه العقلاء في كل مكان .
ومن ثم يستطرد السياق في الآية ليقرر ضرورة الاستسلام لله وحده ، وعبادته وحده ، ومخافته وتقواه : ( وأمرنا لنسلم لرب العالمين ، وأن أقيموا الصلاة واتقوه ) . .
قل يا محمد وأعلن أن هدى الله هو الهدى ؛ وأننا - من ثم - أمرنا أن نسلم لرب العالمين . فهو وحده الذي يستسلم له العالمون . فالعوالم كلها مستسلمة له ، فماذا الذي يجعل الإنسان وحده - من بين العالمين - يشذ عن الاستسلام لهذه الربوبية الشاملة التي تستسلم لها العوالم في السماوات والأرضين ؟
إن ذكر الربوبية للعالمين هنا له موضعه . . إنه يقرر الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها وهي استسلام الوجود كله ، وما فيه من عوالم مشهودة ومغيبة ، للنواميس التي وضعها الله لها ؛ وهي لا تملك الخروج عليها ، والإنسان - من ناحية تركيبه العضوي - يستسلم كذلك لهذه النواميس كرها ، ولا يملك الخروج عليها . . فلا يبقى إلاأن يستسلم في الجانب الذي ترك له الخيار فيه ليبتلى فيه ، وهو جانب الاختيار . . اختيار الهدى أو الضلال . . ولو استسلم فيه استسلام كيانه العضوي ، لاستقام أمره ، وتناسق تكوينه وسلوكه ، وجسمه وروحه ، ودنياه وآخرته
وفي إعلان الرسول [ ص ] والمسلمين معه ، أنهم أمروا بالاستسلام فاستسلموا ، إيحاء مؤثر لمن يفتح الله قلبه للتلقي والاستجابة على مدى الزمان .
قال السُّدِّي : قال المشركون للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا ، واتركوا دين محمد ، فأنزل الله ، عَزَّ وجل : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا } أي : في الكفر { بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ } فيكون مثلُنا مثل الذي { اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ [ حَيْرَانَ ] }{[10834]} يقول : مثلكم ، إن كفرتم بعد الإيمان ، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق ، فضل الطريق ، فحيرته الشياطين ، واستهوته في الأرض ، وأصحابه على الطريق ، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون : " ائتنا فَإنَّا على الطريق " ، فأبى أن
يأتيهم . فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق ، والطريق هو الإسلام . رواه ابن جرير .
وقال قتادة : { اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ } أضلته في الأرض ، يعني : استهوته{[10835]} مثل قوله : { تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا } الآية . هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها ، والدعاة الذين يدعون إلى الله ، عَزَّ وجل ، كمثل رجل ضل عن طريق تائها ضالا إذ ناداه مناد : " يا فلان بن فلان ، هلم إلى الطريق " ، وله أصحاب يدعونه : " يا فلان ، هلم إلى الطريق " ، فإن اتبع الداعي الأول ، انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة{[10836]} وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى ، اهتدى إلى الطريق . وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان ، يقول : مثل من يعبد هذه الآلهة من دون الله ، فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت ، فيستقبل الهلكة والندامة . وقوله : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ } هم " الغيلان " ، يدعونه باسمه واسم أبيه وجده ، فيتبعها وهو يرى أنه في شيء ، فيصبح وقد ألقته في هلكة ، وربما أكلته - أو تلقيه في مضلة من الأرض ، يهلك فيها عطشا ، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله ، عَزَّ وجل . رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ } قال : رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق ، وذلك مثل من يضل بعد أن هدي .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس ، قوله : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ } هو الذي لا يستجيب لهدى الله ، وهو رجل أطاع الشيطان ، وعمل في الأرض بالمعصية ، وجار{[10837]} عن الحق وضل عنه ، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ، ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى ، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس ، يقول [ الله ]{[10838]} { إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } والضلال ما يدعو إليه الجن . رواه ابن جرير ، ثم قال : وهذا يقتضي أن أصحابه يدعونه إلى الضلال ، ويزعمون أنه هدى . قالت : وهذا خلاف ظاهر الآية ؛ فإن الله أخبر أن أصحابه يدعونه إلى الهدى ، فغير جائز أن يكون ضلالا وقد أخبر الله أنه هدى .
وهو كما قال ابن جرير ، وكان{[10839]} سياق الآية يقتضي أن هذا الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ، وهو منصوب على الحال ، أي : في حال حيرته وضلاله وجهله وجه المحجة ، وله أصحاب على المحجة سائرون ، فجعلوا يدعونه إليهم وإلى الذهاب معهم على الطريقة المثلى . وتقدير الكلام : فيأبى عليهم ولا يلتفت إليهم ، ولو شاء الله لهداه ، ولرد به إلى الطريق ؛ ولهذا قال : { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى }
كما قال : { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ }{[10840]} [ الزمر : 37 ] ، وقال : { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [ النحل : 37 ] ، وقوله { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : نخلص له العباد{[10841]} وحده لا شريك له .
{ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هانا الله }
استئناف ابتدائي لتأييس المشركين من ارتداد بعض المسلمين عن الدين ، فقد كان المشركون يحاولون ارتداد بعض قرابتهم أو من لهم به صلة . كما ورد في خبر سعيد بن زيد وما لَقي من عُمر بن الخطاب . وقد روي أنّ عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق دعا أباه إلى عبادة الأصنام ، وأنّ الآية نزلت في ذلك ، ومعنى ذلك أنّ الآية نزلت مشيرة إلى ذلك وغيره وإلاّ فإنّ سورة الأنعام نزلت جملة واحدة . وحاول المشركون صرف النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الإسلام وهم يُرْضُونه بما أحبّ كما ورد في خبر أبي طالب .
والاستفهام إنكار وتأييس ، وجيء بنون المتكلّم ومعه غيره لأنّ الكلام من الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه وعن المسلمين كلّهم . و { من دون الله } متعلّق ب { ندعوا } . والمراد بما لا ينفع ولا يضرّ الأصنامُ ، فإنَّها حجارة مشاهد عدمُ نفعها وعجزُها عن الضرّ ، ولو كانت تستطيع الضرّ لأضرّت بالمسلمين لأنَّهم خلعوا عبادتها وسفَّهوا أتباعها وأعلنوا حقارتها ، فلمَّا جعلوا عدَم النفع ولا الضرّ علَّة لنفي عبادة الأصنام فقد كنّوا بذلك عن عبادتهم النافع الضارّ وهو الله سبحانه .
وقوله : { ونُردّ على أعقابنا } عطف على { ندعوا } فهو داخل في حيّز الإنكار . والردّ : الإرجاع إلى المكان الذي يؤتى منه ، كقوله تعالى : { رُدّوها عليّ } [ ص : 33 ] .
والأعقاب جمع عَقِب وهي مؤخّر القدم . وعقب كلّ شيء طَرفه وآخره ويقال : رجع على عَقِبه وعلى عَقِبَيْه ونكص على عقبيه بمعنى رجع إلى المكان الذي جاء منه لأنَّه كان جاعلاً إيَّاه وراءه فرَجَع .
وحرف ( على ) فيه للاستعلاء ، أي رجع على طريق جهة عقبه ، كما يقال : رجع وراءه ، ثم استعمل تمثيلاً شائعاً في التَّلبّس بحالة ذميمة كان فارقها صاحبُها ثم عاد إليها وتلبّس بها ، وذلك أنّ الخارج إلى سفر أو حاجة فإنَّما يمشي إلى غرض يريده فهو يمشي القُدُمية فإذا رجع قبل الوصول إلى غرضه فقد أضاع مشيَه ؛ فيمثّل حاله بحال من رجع على عقبيه . وفي الحديث : « اللهمّ أمْض لأصحابي هِجْرتهم ولا تَرُدّهم على أعقابهم » فكذلك في الآية هو تمثيل لحال المرتدّ إلى الشرك بعد أن أسلَم بحال من خرج في مهمّ فرجع على عقبيه ولم يقض ما خرج له . وهذا أبلغ في تمثيل سوء الحالة من أن يُقال : ونرجعُ إلى الكفر بعد الإيمان .
وقد أضيف ( بعد ) إلى { إذْ هدانا } وكلاهما اسم زمان ، فإنّ ( بعد ) يدلّ على الزمان المتأخِّر عن شيء كقوله : { ومن بعد صلاة العشاء } [ النور : 58 ] و ( إذا ) يدلّ على زمان معرّف بشيء ، ف ( إذا ) اسم زمن متصرّف مراد به الزمان وليس مفعولاً فيه . والمعنى بعدَ الزمن الذي هدانا الله فيه ، ونظيره { ربّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } في سورة [ آل عمران : 8 ] .
{ كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا }
ارتقى في تمثيل حالهم لو فُرض رجوعهم على أعقابهم بتمثيل آخر أدقّ ، بقوله : { كالذي استهوته الشياطين في الأرض } ، وهو تمثيل بهيئة متخيّلة مبنيّة على اعتقاد المخاطبين في أحوال الممسُوسينَ . فالكاف في موضع الحال من الضمير في { نُردّ على أعقابنا } ، أي حال كوننا مشْبهينَ للذي استهوته الشياطين فهذه الحال مؤكّدة لما في { نردّ على أعقابنا } من معنى التَمثيل بالمرتدّ على أعقابه .
والاستهواء استفعال ، أي طلب هَوى المرء ومحبّتِه ، أي استجلاب هَوى المرء إلى شيء يحاوله المستجلِب . وقرّبه أبو علي الفارسي بمعنى همزة التعدية . فقال : استهواه بمعنى أهواه مثل استزلّ بمعنى أزلّ . ووقع في « الكشَّاف » أنَّه استفعال من هَوَى في الأرض إذا ذهب فيها ، ولا يعرف هذا المعنى من كلام أئمَّة اللغة ولِم يذكره هو في « الأساس » مع كونه ذكر { كالذي استهوته الشياطين } ولم ينبِّه على هذا مَن جاء بعده .
والعرب يقولون : استهوته الشياطين ، إذا اختطفت الجنّ عقله فسيَّرتْه كما تريد . وذلك قريب من قولهم : سَحَرتْه ، وهم يعتقدون أنّ الغيلان هي سحرة الجنْ ، وتسمَّى السعالي أيضاً ، واحدتُها سَعْلاة ، ويقولون أيضاً : استهامته الجنّ إذا طلبت هُيامه بطاعتها .
وقوله : { في الأرض } متعلّق ب { استهوته } ، لأنَّه يتضمَّن معنى ذهبت به وضلّ في الأرض . g وذلك لأنّ الحالة التي تتوهَّمها العرب استهواء الجنّ يصاحبها التوحّش وذهاب المجنون على وجهه في الأرض راكباً رأسه لا ينتصح لأحد ، كما وقع لكثير من مجانينهم ومَن يزعمون أنّ الجنّ اختطفتهم . ومن أشهرهم عَمْرو بن عَدي الأيادي اللخمي ابن أخت جُذيمة بن مالك ملك الحيرة . وجوّز بعضهم أن يكون { في الأرض } متعلِّقاً ب { حَيْران } ، وهو بعيد لعدم وجود مقتض لتقديم المعمول .
و { حَيْرانَ } حال من { الذي استهوتْه } ، وهو وصف من الحَيْرة ، وهي عدم الاهتداء إلى السبيل . يقال : حارَ يحَار إذ تاهَ في الأرض فلم يعلم الطريق . وتطلق مجازاً على التردّد في الأمر بحيث لا يعلم مخرجه ، وانتصب { حيران } على الحال من { الذي } .
وجملة : { له أصحاب } حال ثانية ، أي له رفقة معه حين أصابه استهواء الجنّ . فجملة { يدعونه } صفة ل { أصحاب } .
والدعاء : القول الدالّ على طلب عمل من المخاطب . والهدى : ضدّ الضلال . أي يدعونه إلى ما فيه هدَاه . وإيثارُ لفظ { الهُدى } هنا لما فيه من المناسبة للحالة المشبَّهة . ففي هذا اللفظ تجريد للتمثيلية كقوله تعالى : { فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } في سورة [ البقرة : 17 ] . ولذلك كان لتعقيبه بقوله : قل إنّ هدى الله هو الهدى } وقع بديع . وجوّز في « الكشاف » أن يكون الهدى مستعاراً للطريق المستقيم .
وجملة : { ائتنا } بيان ل { يدعونه إلى الهدى } لأنّ الدعاء فيه معنى القول . فصحّ أن يبيّن بما يقولونه إذا دعَوه ، ولكونها بياناً فُصلت عن التي قبلها ، وإنَّما احتاج إلى بيان الدعاء إلى الهدى لتمكِين التمثيل من ذهن السامع ، لأنّ المجنون لا يخاطب بصريح المقصد فلا يدعى إلى الهدى بما يَفهم منه أنَّه ضالّ لأنّ من خُلق المجانين العناد والمكابرة ، فلذلك يدعونه بما يفهم منه رغبتُهم في صحبته ومحبتُهم إيَّاه ، فيقولون : ايتنا ، حتَّى إذا تمكَّنوا منه أوثقوه وعادوا به إلى بيته .
وقد شبّهت بهذا التمثيل العجيب حالة من فُرض ارتدادُه إلى ضلالة الشرك بعد هدى الإسلام لدعوة المشركين إيَّاه وتركه أصحابه المسلمين الذين يصدّونه عنه ، بحَال الذي فسد عقله باستهواء من الشياطين والجنّ ، فتاه في الأرض بعد أن كان عاقلاً عارفاً بمسالكها ، وترك رفقته العقلاء يدعونه إلى موافقتهم ، وهذا التركيب البديع صالح للتفكيك بأن يشبّه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بها ، بأن يشبه الارتداد بعد الإيمان بذهاب عقل المجنون ، ويشبّه الكفر بالهُيام في الأرض ، ويشبّه المشركون الذين دعَوْهم إلى الارتداد بالشياطين وتُشَبّه دعوة الله الناس للإيمان ونزولُ الملائكة بوحيه بالأصحاب الذين يدعون إلى الهدى . وعلى هذا التفسير يكون { الذي } صادقاً على غير معيّن ، فهو بمنزلة المعرّف بلام الجنس . وروي عن ابن عباس أنّ الآية نزلت في عبد الرحمان بن أبي بكر الصدّيق حين كان كافراً وكان أبوه وأمّه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى ، وقد أسلم في صلح الحديبية وحسن إسلامه .
{ قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين }
جملة : { قل إنّ هدى الله هو الهدى } مستأنفة استئنافَ تكرير لِما أمِر أن يقوله للمشركين حين يدعون المسلمين إلى الرجوع إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ، وقد روي أنَّهم قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم اعْبُد آلهتنا زمناً ونعبُدُ إلهك زمناً . وكانوا في خلال ذلك يزعمون أنّ دينهم هدى فلذلك خوطبوا بصيغة القصر . وهي { إنّ هدى الله هو الهدى } فجيء بتعريف الجزأيْن ، وضمير الفصل ، وحرف التوكيد ، فاجتمع في الجملة أربعة مؤكّدات ، لأنّ القصر بمنزلة مؤكِّدَيْن إذ ليس القصر إلاّ تأكيداً على تأكيد ، وضمير الفصل تأكيد ، و ( إنّ ) تأكيد ، فكانت مقتضَى حال المشركين المنكرين أنّ الإسلام هدى .
وتعريف المسند إليه بالإضافة للدلالة على الهدى الوارد من عند الله تعالى ، وهو الدين المُوصى به ، وهو هنا الإسلام ، بقرينة قوله { بعد إذْ هدانا الله } . وقد وصف الإسلام بأنَّه { هُدى الله } في قوله تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتَّى تتّبع ملَّتهم قل إنّ هدى الله هو الهدى } في سورة [ البقرة : 120 ] ، أي القرآن هو الهدى لا كُتُبُهم .
وتعريف المسند بلام الجنس للدلالة على قصر جنس الهدى على دين الإسلام ، كما هو الغالب في تعريف المسند بلام الجنس ، وهو قصر إضافي لأنّ السياق لردّ دعوة المشركين إيَّاهم الرجوع إلى دينهم المتضمِّنة اعتقادهم أنَّه هدى ، فالقصر للقلب إذ ليسوا على شيء من الهدى ، فلا يكون قصر الهدى على هدى القرآن بمعنى الهدى الكامل ، بخلاف ما في سورة البقرة .
وجملة : وأمِرْنا لِنُسْلِم } عطف على المقول . وهذا مقابل قوله { قل إنِّي نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } [ الأنعام : 56 ] ، وقوله { قل أندعو من دون الله } الآية .
واللام في { لِنُسْلِم } أصلها للتعليل وتنوسي منها معنى التعليل فصارت لمجرّد التأكيد . وهي اللام التي يكثر ورودها بعد مادّة الأمر ومادّة الإرادة . وسمَّاها بعضهم لام أنْ بفتح الهمزة وسكون النون قال الزجَّاج : العرب تقول : أمَرْتُك بأنْ تفعل وأمرتُك أن تفعل وأمرتك لِتَفعل . فالباء للإلصاق ، وإذا حذفوها فهي مقدّرة مع ( أنْ ) . وأمَّا أمرتك لتفعل ، فاللام للتعليل ، فقد أخبر بالعلَّة التي لها وقَع الأمر . يعني وأغنت العلَّة عن ذكر المعلّل . وقيل : اللام بمعنى الباء ، وقيل : زائدة ، وعلى كلّ تقدير ف ( أنْ ) مضرة بعدها ، أي لأجل أن نُسْلِمَ . والمعنى : وأمرنا بالإسلام ، أي أمرنا أن أسلموا . وتقدّم الكلام على هذه اللام عند قوله تعالى : { يريد الله ليُبيّن لكم } في سورة [ النساء : 26 ] .
واللام في قوله : { لربّ العالمين } متعلِّقة ب { نسلم } لأنَّه معنى تخلّص له ، قال : { فقل أسلمت وجهي لله } . وقد تقدّم القول في معنى الإسلام عند قوله تعالى : { إذ قال له ربّه أسْلِم قال أسلمت لربّ العالمين } في سورة [ البقرة : 131 ] .
وفي ذكر اسم الله تعالى بوصف الربوبية لجميع الخلق دون اسمه العَلَم إشارة إلى تعليل الأمر وأحقِّيّته .