الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قُلۡ أَنَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰٓ أَعۡقَابِنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ كَٱلَّذِي ٱسۡتَهۡوَتۡهُ ٱلشَّيَٰطِينُ فِي ٱلۡأَرۡضِ حَيۡرَانَ لَهُۥٓ أَصۡحَٰبٞ يَدۡعُونَهُۥٓ إِلَى ٱلۡهُدَى ٱئۡتِنَاۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۖ وَأُمِرۡنَا لِنُسۡلِمَ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (71)

قوله تعالى : " قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا " أي ما لا ينفعنا إن دعوناه{[6476]} . " ولا يضرنا " إن تركناه ، يريد الأصنام . " ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله " أي نرجع إلى الضلالة بعد الهدى . وواحد الأعقاب عقب وهو مؤنث ، وتصغيره عقيبة . يقال : رجع فلان على عقبيه ، إذا أدبر . قال أبو عبيدة : يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها : قد رد على عقبيه . وقال المبرد : معناه تعقب بالشر بعد الخير . وأصله من العاقبة والعقبى وهما ما كان تاليا للشيء واجبا أن يتبعه ، ومنه " والعاقبة للمتقين{[6477]} " [ الأعراف : 128 ] . ومنه عقب الرجل . ومنه العقوبة ، لأنها تالية للذنب ، وعنه تكون .

قوله تعالى : " كالذي " الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف . " استهوته الشياطين في الأرض حيران " أي استغوته وزينت له هواه ودعته إليه . يقال : هوى يهوي إلى الشيء أسرع إليه . وقال الزجاج : هو من هوى يهوي ، من هوى النفس ، أي زين له الشيطان هواه . وقراءة الجماعة " استهوته " أي هوت به ، على تأنيث الجماعة . وقرأ حمزة " استهواه الشياطين " على تذكير الجمع . وروي عن ابن مسعود " استهواه الشيطان " ، وروي عن الحسن ، وهو كذلك في حرف أبي . ومعنى " ائتنا " تابعنا . وفي قراءة عبدالله أيضا " يدعونه إلى الهدى بينا " . وعن الحسن أيضا " استهوته الشياطون " . " حيران " نصب على الحال ، ولم ينصرف لأن أنثاه حيرى كسكران وسكرى وغضبان وغضبى . والحيران هو الذي لا يهتدي لجهة أمره . وقد حار يحار حيرا وحيرورة{[6478]} ، أي تردد . وبه سمي الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائرا ، والجمع حوران . والحائر الموضع الذي{[6479]} يتحير فيه الماء . قال الشاعر :

تخطو على بَرْدِيَّتَيْنِ غذاهما *** غَدِقٌ بساحة حائرٍ يَعْبُوبُ{[6480]}

قال ابن عباس : أي مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه فيصبح وقد ألقته في مضلة ومهلكة ، فهو حائر في تلك المهامه . وقال في رواية أبي صالح : نزلت في عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق ، كان يدعو أباه إلى الكفر وأبواه يدعوانه إلى الإسلام والمسلمون ، وهو معنى قوله : " له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى " فيأبى . قال أبو عمر : أمه أم رومان بنت الحارث بن غنم الكنانية ، فهو شقيق عائشة . وشهد عبدالرحمن بن أبي بكر بدرا وأحدا مع قومه وهو كافر ، ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه ليبارزه فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له{[6481]} ( متعني بنفسك ) . ثم أسلم وحسن إسلامه ، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية . هذا قول أهل السير . قالوا : كان اسمه عبدالكعبة فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه عبدالرحمن ، وكان أسن ولد أبي بكر . قال : إنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعة ولاء : أب وبنوه إلا أبا قحافة وابنه أبا بكر وابنه عبدالرحمن بن أبي بكر وابنه أبا عتيق محمد بن عبدالرحمن . والله أعلم .

71


[6476]:في ك: رجوناه.
[6477]:سيأتي في ص 263 من هذا الجزء.
[6478]:لم نجد هذا المصدر في كتب اللغة. وفي تفسير الفخر الرازي: ".... وزاد الفراء حيرانا وحيرورة".
[6479]:من ك.
[6480]:اليعبوب: الطويل.
[6481]:من ع و ز و ك.