قوله تعالى : { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو نعيم ، أنا إسرائيل عن مخارق ، عن طارق بن شهاب قال : سمعت ابن مسعود يقول : لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال : لا نقول كما قال قوم موسى عليه السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا ، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ، وبين يديك ، ومن خلفك ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه ، وسره ما قال . فلما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من مخالفتهم أمر ربهم ، وهمهم بيوشع وكالب ، غضب موسى عليه السلام ودعا عليهم .
( قالوا : يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها . فاذهب أنت وربك فقاتلا . إنا هاهنا قاعدون ) . .
وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون ؛ ويفزعون من الخطر أمامهم فيرفسون بأرجلهم كالحمر ولا يقدمون ! والجبن والتوقح ليسا متناقضين ولا متباعدين ؛ بل إنهما لصنوان في كثير من الأحيان . يدفع الجبان إلى الواجب فيجبن . فيحرج بأنه ناكل عن الواجب ، فيسب هذا الواجب ؛ ويتوقح على دعوته التي تكلفه ما لا يريد !
اذهب أنت وربك فقاتلا . إنا هاهنا قاعدون . .
هكذا في وقاحة العاجز ، الذي لا تكلفه وقاحة اللسان إلا مد اللسان ! أما النهوض بالواجب فيكلفه وخز السنان !
فليس بربهم إذا كانت ربوبيته ستكلفهم القتال !
لا نريد ملكا ، ولا نريد عزا ، ولا نريد أرض الميعاد . . ودونها لقاء الجبارين !
هذه هي نهاية المطاف بموسى عليه السلام . نهاية الجهد الجهيد . والسفر الطويل . واحتمال الرذالات والانحرافات والالتواءات من بني إسرائيل !
نعم ها هي ذي نهاية المطاف . . نكوصا عن الأرض المقدسة ، وهو معهم على أبوابها . ونكولا عن ميثاق الله وهو مرتبط معهم بالميثاق . . فماذا يصنع ؟ وبمن يستجير ؟
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون } وهذا نكول منهم عن الجهاد ، ومخالفة لرسولهم{[9538]} وتخلف عن مقاتلة{[9539]} الأعداء .
ويقال : إنهم لما نكلوا على الجهاد وعزموا على الانصراف والرجوع إلى بلادهم ، سجد موسى وهارون ، عليهما السلام ، قُدام ملأ من بني إسرائيل ، إعظاما لما هموا به ، وشَق " يوشع بن نون " و " كالب بن يوفنا " ثيابهما ولاما قومهما على ذلك ، فيقال : إنهم رجموهما . وجرى أمر عظيم وخطر جليل .
وما أحسن ما أجاب به الصحابة ، رضي الله عنهم{[9540]} يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير ، الذين جاءوا لمنع العِير الذي كان مع أبي سفيان ، فلما فات اقتناص العير ، واقترب منهم النفير ، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف ، في العُدة{[9541]} والبَيْض واليَلب ، فتكلم أبو بكر ، رضي الله عنه ، فأحسن ، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أشيروا عليَّ أيها المسلمون " . وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار ؛ لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ . فقال سعد بن معاذ [ رضي الله عنه ]{[9542]} كأنك تُعرض بنا يا رسول الله ، فوالذي{[9543]} بعثك بالحق لو اسْتَعرضْتَ بنا هذا البحر فخُضْتَه لخُضناه معك ، وما تخلَّف منا رجل واحد ، وما نَكْرَه أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصُبُر في الحرب ، صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تَقَرُّ{[9544]} به عينك ، فَسِرْ بنا على بركة الله فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونَشَّطه{[9545]} ذلك . {[9546]}
وقال أبو بكر بن مَرْدُويَه : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو حاتم الرازي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا حميد عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين ، فأشار إليه عمر ، ثم استشارهم فقالت الأنصار : يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالوا : إذًا لا نقول له كما قالت{[9547]} بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } والذي بعثك بالحق لو ضَرَبْت أكبادها إلى بَرْك الغمَاد لاتبعناك .
ورواه الإمام أحمد ، عن عبيدة{[9548]} بن حميد ، الطويل ، عن أنس ، به . ورواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن خالد بن الحارث ، عن حميد به ، ورواه ابن حبان عن أبي يعلى ، عن عبد الأعلى بن حماد ، عن مَعْمَر{[9549]} بن سليمان ، عن حميد ، به . {[9550]}
وقال ابن مَرْدُويه : أخبرنا عبد الله بن جعفر ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن شعيب ، عن الحسن{[9551]} بن أيوب ، عن عبد الله بن ناسخ ، عن عتبة بن عبد السلمي قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " ألا تقاتلون ؟ " قالوا : نعم ، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما{[9552]} مقاتلون . {[9553]}
وكان ممن أجاب{[9554]} يومئذ المقداد بن عمرو الكندي ، رضي الله عنه ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن مخارق بن عبد الله الأحْمَسِي ، عن طارق - هو ابن شهاب - : أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما{[9555]} مقاتلون .
هكذا رواه أحمد من هذا الوجه ، وقد رواه من طريق أخرى فقال :
حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا إسرائيل ، عن مخارق ، عن طارق بن شهاب قال : قال عبد الله - هو ابن مسعود - رضي الله عنه : لقد شهدت من المقداد مشهدًا لأن أكون أنا صاحبه أحب إليَّ مما عدل به : أتى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[9556]} وهو يدعو على المشركين ، فقال : والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ، ومن بين يديك ومن خلفك . فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك ، وسره{[9557]} بذلك . {[9558]}
وهكذا رواه البخاري " في المغازي " وفي " التفسير " من طرق عن مخارق ، به . ولفظه في " كتاب التفسير " عن عبد الله قال : قال المقداد يوم بدر : يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن{[9559]} [ نقول ]{[9560]} امض ونحن معك فكأنه سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم قال البخاري : ورواه وَكِيع ، عن سفيان ، عن مخارق ، عن طارق ؛ أن المقداد قال للنبي صلى الله عليه وسلم . {[9561]}
وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحُدَيبية ، حين صَدّ المشركون الهَدْي وحِيلَ بينهم وبين مناسكهم : " إني ذاهب بالهَدْي فناحِرُه عند البيت " . فقال له المقداد بن الأسود : أما{[9562]} والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون . فلما سمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تتابعوا{[9563]} على ذلك . {[9564]}
وهذا . إن كان محفوظا يوم الحديبية ، فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ كما قاله يوم بَدْر .
ثم إن بني إسرائيل لجوا في عصيانهم وسمعوا من العشرة النقباء الجواسيس الذين خوفوهم أمر الجبارين ووصفوا لهم قوة الجبارين وعظم خلقهم فصمموا على خلاف أمر الله تعالى : و { قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون } وهذه عبارة تقتضي كفراً ، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى اذهب أنت وربك يعينك وأن الكلام معصية لا كفر .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقولهم { فقاتلا } يقطع بهذا التأويل ، وذكر النقاش عن بعض المفسرين أن المراد بالرب هنا هارون لأنه كان اسنّ من «موسى » وكان معظماً في بني إسرائيل محبباً لسعة خلقه ورحب صدره ، فكأنهم قالوا اذهب انت وكبيرك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل بعيد ، وهارون إنما كان وزيراً لموسى وتابعاً له في معنى الرسالة ، ولكنه تأويل يخلص بني إسرائيل من الكفر ، وذكر الطبري عن قتادة أنه قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم على قتال قريش في عام الحديبية ، جمع العسكر وكلم الناس في ذلك فقال له المقداد بن الأسود : لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون » لكنا نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون .
وذكر النقاش أن الأنصار قالت هذه المقالة للنبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وجميع هذا وهم ، غلط قتادة رحمه الله في وقت النازلة ، وغلط النقاش في قائل المقالة ، والكلام إنما وقع في غزوة بدر حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذفران فكلم الناس وقال لهم : أشيروا عليَّ أيها الناس ، فقال له المقداد هذه المقالة في كلام طويل ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، ثم تكلم من الأنصار سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى ولكن سبقه المقداد إلى التمثيل بالآية .
قال القاضي أبو محمد : وتمثل المقداد بها وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك يقتضي أن الرب إنما أريد به الله تعالى ، وُيؤنس أيضاً في إيمان بني إسرائيل ، لأن المقداد قد قال : اذهب أنت وربك فقاتلا ، وليس لكلامه معنى إلا أن الله تعالى يعينك ويقاتل معك ملائكته ونصره ، فعسى أن بني إسرائيل أرادت ذلك ، أي اذهب أنت ، ويخرجهم الله بنصره وقدرته من المدينة وحينئذ ندخلها ، لكن قبحت عبارتهم لاقتران النكول بها ، وحسنت عبارة المقداد لاقتران الطاعة والإقدام بها .