قوله تعالى : { وبشر الذين آمنوا } . أي أخبر ، والبشارة : كل خبر صدق تتغير به بشرة الوجه ، ويستعمل في الخير والشر ، وفي الخير أغلب .
قوله تعالى : { وعملوا الصالحات } . أي الفعلات الصالحات ، يعني المؤمنين الذين من أهل الطاعات قال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه : ( وعملوا الصالحات ) أي أخلصوا الأعمال ، كما قال : ( فليعمل عملاً صالحاً ) أي خالياً عن الرياء . قال معاذ : العمل الصالح الذي فيه أربعة أشياء : العلم ، والنية ، والصبر ، والإخلاص . قوله تعالى : { أن لهم جنات } . جمع الجنة ، والجنة البستان الذي فيه أشجار مثمرة ، سميت بها لاجتنانها وتسترها بالأشجار . وقال الفراء : الجنة ما فيه النخيل ، والفردوس ما فيه الكرم .
قوله تعالى : { تجري من تحتها } . أي من تحت أشجارها ومساكنها .
قوله تعالى : { الأنهار } . أي المياه في الأنهار لأن النهر لا يجري ، وقيل من تحتها أي بأمرهم ، لقوله تعالى حكاية عن فرعون ( وهذه الأنهار تجري من تحتي ) أي بأمري ، والأنهار جمع نهر ، سمي به لسعته وضيائه . ومنه النهار . وفي الحديث " أنهار الجنة في غير أخدود " .
قوله تعالى : { كلما } . متى ما .
قوله تعالى : { رزقوا } . أطعموا .
قوله تعالى : { منها } . أي من الجنة .
قوله تعالى : { من ثمرة } . أي ثمرة ومن صلة .
قوله تعالى : { رزقاً } . طعاماً .
قوله تعالى : { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } . وقبل رفع على الغاية . قال الله تعالى : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) قيل : من قبل في الدنيا وقيل : الثمار في الجنة متشابهة في اللون ، مختلفة في الطعم ، فإذا رزقوا ثمرة بعد أخرى ظنوا أنها الأولى .
قوله تعالى : { وأتوا به } . رزقا .
قوله تعالى : { متشابهاً } . قال ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع : متشابهاً في الأوان ، مختلفاً في الطعوم . وقال الحسن وقتادة : متشابهاً . أي يشبه ثمر الدنيا غير أنها أطيب . وقيل متشابهاً في الاسم مختلفاً في الطعم . قال : ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي .
أخبرنا أبو حامد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الصفار ، أنا أحمد بن محمد بن عيسى البري ، أنا محمد ابن كثير ، أنا سفيان الثوري ، عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبزقون ، يلهمون الحمد والتسبيح ، كما تلهمون النفس ، طعامهم الجشاء ، ورشحهم المسك " .
قوله تعالى : { ولهم فيها } . في الجنان .
قوله تعالى : { أزواج } . نساء وجواري يعني من الحور العين .
قوله تعالى : { مطهرة } . من الغائط ، والبول ، والحيض ، والنفاس ، والبصاق ، والمخاط والمني ، والولد ، وكل قذر . قال إبراهيم النخعي : في الجنة جماع ما شئت ولا ولد . وقال الحسن هن عجائزكم الغمص العمش طهرن من قذرات الدنيا . وقيل : مطهرة عن مساوئ الأخلاق .
قوله تعالى : { وهم فيها خالدون } . دائمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها . أنا أبو عمرو وعبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو حامد أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف العزيزي ، أنا محمد بن إسماعيل البخاري ، أنا قتيبة بن سعيد ، أنا جرير عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة ، لا يبولون ولا يتغوطون ، ولا يتفلون ولا يتمخطون ، أمشاطهم الذهب ، ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين ، على خلق رجل واحد ، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أنا فضيل هو ابن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول زمرة من يدخل الجنة يوم القيامة صورة وجوههم مثل صورة القمر ليلة البدر ، والزمرة الثانية على لون أحسن الكواكب في السماء لكل رجل منهم زوجتان ، على كل زوجة سبعون حلة ، يرى مخ سوقهن دون لحومها ودمائها وحللها " .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي المروزي ، أنا أبو الحسن علي ابن عبد الله الطيسفوني ، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر ، أنا إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الهمذاني ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : " لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينهما ولملئت ما بينهما ريحاً ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها " . صحيح ، أخرجه محمد بن عبد الله بن محمد ، عن معاوية بن عمر ، عن أبي إسحاق ، عن حميد .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنا أبو محمد بن علي بن محمد ابن شريك الشافعي ، أنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، أنا أبو بكر الجوريدي ، أنا أحمد بن الفرج الحمصي ، أنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار ، أنا محمد ابن المهاجر ، عن الضحاك المعافري ، عن سليمان بن موسى ، حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا هل من مشمر للجنة ، وإن الجنة لا خطر لها وهي ، ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، ومقام أبد في دار سليمة ، وفاكهة خضرة ، وحبرة ، ونعمة في محلة عالية بهية ، قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها . قال : قولوا إن شاء الله . قال القوم : إن شاء الله " .
وروى عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أهل الجنة جرد مرد كحل ، لا يفنى شبابهم ، ولا تبلى ثيابهم " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي ، أنا الحاكم أبو الفضل الحدادي ، أنا أبو يزيد محمد بن يحيى ، أنا إسحاق الحنظلي ، أنا أبو معاوية ، أنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعيد ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة لسوقاً ليس فيه بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء ، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها ، إن فيها لمجتمع الحور العين ينادين ، بصوت لم يسمع الخلائق مثله : نحن الخالدات فلا نبيد أبداً ، ونحن الناعمات فلا نبأس أبداً ، ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً ، فطوبى لمن كان لنا وكنا له ونحن له " ورواه أبو عيسى عن هناد و أحمد بن منيع عن أبي معاوية مرفوعاً وقال : هذا حديث غريب .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج ، أنا أبو عثمان سعيد بن عبد الجبار البصري أنا حماد بن مسلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً ، فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً فيقول لهم أهلهم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً .
وفي مقابل ذلك المشهد المفزع يعرض المشهد المقابل . مشهد النعيم الذي ينتظر المؤمنين :
( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل ، وأتوا به متشابها ، ولهم فيها أزواج مطهرة ، وهم فيها خالدون ) . .
وهي ألوان من النعيم يستوقف النظر منها - إلى جانب الأزواج المطهرة - تلك الثمار المتشابهة ، التي يخيل إليهم أنهم رزقوها من قبل - أما ثمار الدنيا التي تشبهها بالاسم أو الشكل ، وأما ثمار الجنة التي رزقوها من قبل - فربما كان في هذا التشابه الظاهري والتنوع الداخلي مزية المفاجأة في كل مرة . . وهي ترسم جوا من الدعابة الحلوة ، والرضى السابغ ، والتفكه الجميل ، بتقديم المفاجأة بعد المفاجأة ، وفي كل مرة ينكشف التشابه الظاهري عن شيء جديد !
وهذا التشابه في الشكل ، والتنوع في المزية ، سمة واضحة في صنعة الباريء تعالى ، تجعل الوجود أكبر في حقيقته من مظهره . ولنأخذ الإنسان وحده نموذجا كاشفا لهذه الحقيقة الكبيرة . . الناس كلهم ناس ، من ناحية قاعدة التكوين : رأس وجسم وأطراف . لحم ودم وعظام وأعصاب . عينان وأذنان وفم ولسان . خلايا حية من نوع الخلايا الحية . تركيب متشابه في الشكل والمادة . . ولكن أين غاية المدى في السمات والشيات ؟ ثم أين غاية المدى في الطباع والاستعدادات ؟ إن فارق ما بين إنسان وإنسان - على هذا التشابه - ليبلغ أحيانا أبعد مما بين الأرض والسماء !
وهكذا يبدو التنوع في صنعة الباريء هائلا يدير الرؤوس : التنوع في الأنواع والأجناس ، والتنوع في الأشكال والسمات ، والتنوع في المزايا والصفات . . وكله . . كله مرده إلى الخلية الواحدة المتشابهة التكوين والتركيب .
فمن ذا الذي لا يعبد الله وحده ، وهذه آثار صنعته ، وآيات قدرته ؟ ومن ذا الذي يجعل لله اندادا ، ويد الإعجاز واضحة الآثار ، فيما تراه الأبصار ، وفيما لا تدركه الأبصار ؟
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به{[1386]} وبرسله من العذاب والنكال ، عَطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به{[1387]} وبرسله ، الذين صَدَّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة ، وهذا معنى تسمية القرآن " مثاني " على أصح أقوال{[1388]} العلماء ، كما سنبسطه في موضعه ، وهو أن يذكر الإيمان ويتبعه بذكر الكفر ، أو عكسه ، أو حال السعداء ثم الأشقياء ، أو عكسه . وحاصله ذكر الشيء ومقابله . وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه ، كما سنوضحه إن شاء الله ؛ فلهذا قال تعالى : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار ، كما وصف النار بأن وقودها الناس والحجارة ، ومعنى { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : من تحت أشجارها وغرفها ، وقد جاء في الحديث : أن أنهارها تجري من{[1389]} غير أخدود ، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ، ولا منافاة بينهما ، وطينها المسك الأذفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر ، نسأل الله من فضله [ وكرمه ]{[1390]} إنه هو البر الرحيم .
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على الربيع بن سليمان : حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن ثوبان ، عن عطاء بن قرّة ، عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنهار الجنة تُفَجَّر من تحت تلال - أو من تحت جبال – المسك »{[1391]} .
وقال أيضا : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله : أنهار الجنة تفجر من جبل مسك .
وقوله تعالى : { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مُرّة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } قال : إنهم أتوا بالثمرة في الجنة ، فلما نظروا إليها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل في [ دار ]{[1392]} الدنيا .
وهكذا قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ونصره ابن جرير .
وقال عكرمة : { قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } قال : معناه : مثل الذي كان بالأمس ، وكذا قال الربيع بن أنس . وقال مجاهد : يقولون : ما أشبهه به .
قال ابن جرير : وقال آخرون : بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا{[1393]} لشدة مشابهة بعضه بعضًا ، لقوله تعالى : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قال سُنَيْد بن داود : حدثنا شيخ من أهل المِصِّيصة ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : يؤتى أحدهم بالصحفة{[1394]} من الشيء ، فيأكل منها ثم يؤتى{[1395]} بأخرى فيقول : هذا الذي أوتينا به من قبل . فتقول الملائكة : كُلْ ، فاللون واحد ، والطعم مختلف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عامر{[1396]} بن يَسَاف ، عن يحيى بن أبي كثير قال : عشب الجنة الزعفران ، وكثبانها المسك ، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها{[1397]} ثم يؤتون بمثلها ، فيقول لهم أهل الجنة : هذا الذي أتيتمونا آنفا به ، فيقول لهم الولدان : كلوا ، فإن اللون واحد ، والطعم مختلف . وهو قول الله تعالى : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا }
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قال : يشبه بعضه بعضًا ، ويختلف في الطعم .
وقال ابن أبي حاتم : ورُوي عن مجاهد ، والربيع بن أنس ، والسدي نحو ذلك .
وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مُرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ، في قوله تعالى : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } يعني : في اللون والمرأى ، وليس يشتبه{[1398]} في الطعم .
وقال عكرمة : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قال : يشبه ثمر الدنيا ، غير أن ثمر الجنة أطيب .
وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي ظِبْيان ، عن ابن عباس ، لا يشبه شَيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء ، وفي رواية : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء . رواه ابن جرير ، من رواية الثوري ، وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش ، به .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قال : يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا : التفاح بالتفاح ، والرمان بالرمان ، قالوا في الجنة : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا ، وأتوا به متشابها ، يعرفونه وليس هو مثله في الطعم .
وقوله تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : مطهرة من القذر والأذى .
وقال مجاهد : من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد .
وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمأثم . وفي رواية عنه : لا حيض ولا كلف . وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك .
وقال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، قال : المطهرة التي لا تحيض . قال : وكذلك خلقت حواء ، عليها السلام ، حتى عصت ، فلما عصت قال الله تعالى : إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة . وهذا غريب .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثني جعفر بن محمد بن حرب ، وأحمد بن محمد الجُوري{[1399]} قالا حدثنا محمد بن عبيد الكندي ، حدثنا عبد الرزاق بن عمر البَزيعيّ ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } قال : «من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق »{[1400]} .
هذا حديث غريب . وقد رواه الحاكم في مستدركه ، عن محمد بن يعقوب ، عن الحسن بن علي بن عفان ، عن محمد بن عبيد ، به ، وقال : صحيح على شرط الشيخين .
وهذا الذي ادعاه فيه نظر ؛ فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي{[1401]} هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان البُسْتي : لا يجوز الاحتجاج به{[1402]} .
قلت : والأظهر أن هذا من كلام قتادة ، كما تقدم ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } هذا{[1403]} هو تمام السعادة ، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء ، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام ، والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم ، إنه جواد كريم ، بر رحيم .
{ وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات } عطف على الجملة السابقة ، والمقصود عطف حال من آمن بالقرآن العظيم ووصف ثوابه ، على حال من كفر به ، وكيفية عقابه على ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب ، تنشيطا لاكتساب ما ينجي ، وتثبيطا عن اقتراف ما يردي ، لا عطف الفعل نفسه حتى يجب أن يطلب له ما يشاكله من أمر أو نهي فيعطف عليه أو على فاتقوا ، لأنهم إذا لم يأتوا بما يعارضه بعد التحدي ظهر إعجازه ، وإذا ظهر ذلك فمن كفر به استوجب العقاب ، ومن آمن به استحق الثواب ، وذلك يستدعي أن يخوف هؤلاء ويبشر هؤلاء ، وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو عالم كل عصر ، أو كل أحد يقدر على البشارة بأن يبشرهم . ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة ، تفخيما لشأنهم وإيذانا بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنأوا بما أعد لهم .
وقرئ { وبشر } على البناء للمفعول عطفا على أعدت فيكون استئنافا . والبشارة الخبر السار فإنه يظهر أثر السرور في البشرة ، ولذلك قال الفقهاء البشارة : هي الخبر الأول ، حتى لو قال الرجل لعبيده : من بشرني بقدوم ولدي فهو حر فأخبروه فرادى عتق أولهم ، ولو قال : من أخبرني ، عتقوا جميعا ، وأما قوله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } فعلى التهكم أو على طريقة قوله : تحية بينهم ضرب وجيع .
و{ الصالحات } جمع صالحة وهي من الصفات الغالبة التي تجري مجرى الأسماء كالحسنة ، قال الحطيئة :
كيف الهجاء وما تنفك صالحة *** من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
وهي من الأعمال ما سوغه الشرع وحسنه ، وتأنيثها على تأويل الخصلة ، أو الخلة ، واللام فيها للجنس ، وعطف العمل على الإيمان مرتبا للحكم عليهما إشعارا بأن السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين ، فإن الإيمان الذي هو عبارة عن التحقيق والتصديق أس ، والعمل الصالح كالبناء عليه ، ولا غناء بأس لا بناء عليه ، ولذلك قلما ذكرا منفردين . وفيه دليل على أنها خارجة عن مسمى الإيمان ، إذ الأصل أن الشيء لا يعطف على نفسه ولا على ما هو داخل فيه .
{ أن لهم } منصوب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه ، أو مجرور بإضماره مثل : الله لأفعلن . والجنة : المرة من الجن وهو مصدر جنة إذا ستره ، ومدار التركيب على الستر ، سمي بها الشجر المظلل لالتفاف أغصانه للمبالغة كأنه يستر ما تحته سترة واحدة قال زهير :
كأن عيني في غربي مقتلة *** من النواضح تسقي جنة سحقا
أي نخلا طوالا ، ثم البستان ، لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظللة ، ثم دار الثواب لما فيها من الجنان ، وقيل سميت بذلك لأنه ستر في الدنيا ما أعد فيها للبشر من أفنان النعم كما قال سبحانه وتعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } وجمعها وتنكيرها لأن الجنان على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما سبع : جنة الفردوس ، وجنة عدن ، وجنة النعيم ، ودار الخلد ، وجنة المأوى ، ودار السلام ، وعليون ، وفي كل واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال . واللام في { لهم } تدل على استحقاقهم إياها ، لأجل ما ترتب عليه من الإيمان والعمل الصالح ، لا لذاته فإنه لا يكافئ النعم السابقة ، فضلا عن أن يقتضي ثوابا وجزاء فيما يستقبل بل بجعل الشارع ، ومقتضى وعده تعالى لا على الإطلاق ، بل بشرط أن يستمر عليه حتى يموت وهو مؤمن لقوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم } وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { لئن أشركت ليحبطن عملك } وأشباه ذلك ، ولعله سبحانه وتعالى لم يقيد ههنا استغناء بها .
{ تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت أشجارها ، كما تراها جارية تحت الأشجار النابتة على شواطئها . وعن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود : واللام في { الأنهار } للجنس ، كما في قولك لفلان : بستان في الماء الجاري ، أو للعهد ، والمعهود : هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى : { فيها أنهار من ماء غير آسن } الآية . والنهر بالفتح والسكون : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر ، كالنيل والفرات ، والتركيب للسعة ، والمراد بها ماؤها على الإضمار ، أو المجاز ، أو المجاري أنفسها . وإسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى : { وأخرجت الأرض أثقالها } الآية .
{ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا } صفة ثانية لجنات ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو جملة مستأنفة . كأنه لما قيل : إن لهم جنات ، وقع في خلد السامع أثمارها مثل ثمار الدنيا ، أو أجناس أخر فأزيح بذلك ، و{ كلما } نصب على الظرف ، و{ رزقا } مفعول به ، ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال ، وأصل الكلام ومعناه : كل حين رزقوا مرزوقا مبتدأ من ثمرة ، قيد الرزق بكونه مبتدأ من الجنات ، وابتداؤه منها بابتدائه من ثمرة فصاحب الحال الأولى رزقا وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال ، ويحتمل أن يكون من ثمره ، بيانا تقدم كما في قولك : رأيت منك أسدا ، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا كقولك مشيرا إلى نهر جار : هذا الماء لا ينقطع ، فإنك لا تعني به العين المشاهدة منه بل النوع المعلوم المستمر بتعاقب جريانه وإن كانت الإشارة إلى عينه ، فالمعنى هذا مثل رزقنا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته كقولك : أبو يوسف أبو حنيفة .
{ من قبل } أي : من قبل هذا في الدنيا ، جعل ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أول ما يرى ، فإنه الطباع مائلة إلى المألوف متنفرة عن غيره ، ويتبين لها مزيته وكنه النعمة فيه ، إذ لو كان جنسا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك ، أو في الجنة لأن طعامها متشابه في الصورة ، كما حكى ابن كثير عن الحسن رضي الله عنهما : ( أن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك ، فيقول الملك : كل فاللون واحد والطعم مختلف ) . أو كما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه ، حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها " . فلعلهم إذ رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك ، والأول أظهر لمحافظته على عموم { كلما } فإنه يدل على ترديدهم هذا القول كل مرة رزقوا ، والداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة .
{ وأتوا به متشابها } اعتراض يقرر ذلك ، والضمير على الأول راجع إلى ما رزقوا في الدارين فإنه مدلول عليه بقوله عز من قائل { هذا الذي رزقنا من قبل } ونظيره قوله عز وجل : { إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما } أي بجنسي الغني والفقير ، وعلى الثاني إلى الرزق . فإن قيل : التشابه هو التماثل في الصفة ، وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ليس في الجنة من أطعمة إلا الأسماء . قلت : التشابه بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم ، وهو كاف في إطلاق التشابه . هذا : وإن للآية الكريمة محملا آخر ، وهو أن مستلذات أهل الجنة في مقابلة ما رزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات ، متفاوتة في اللذة بحسب تفاوتها ، فيحتمل أن يكون المراد من { هذا الذي رزقنا } أنه ثوابه ، ومن تشابههما تماثلهما في الشرف والمزية وعلو الطبقة ، فيكون هذا في الوعد نظير قوله : { ذوقوا ما كنتم تعملون } في الوعيد .
{ ولهم فيها أزواج مطهرة } مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهن ، كالحيض والدرن ودنس الطبع وسوء الخلق ، فإن التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال . وقرئ : " مطهرات " وهما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلت وفعلن ، وهن فاعلة وفواعل ، قال :
وإذا العذارى بالدخان تقنعت *** واستعجلت نصب القدور فملت
فالجمع على اللفظ ، والإفراد على تأويل الجماعة ، ومطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة ، ومطهرة أبلغ من طاهرة ومطهرة للإشعار بأن مطهرا طهرهن وليس هو إلا الله عز وجل . والزوج يقال للذكر والأنثى ، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف ، فإن قيل : فائدة المطعوم هو التغذي ودفع ضرر الجوع ، وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع ، وهي مستغنى عنها في الجنة . قلت : مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات ، وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل ، ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدتها .
{ وهم فيها خالدون } دائمون . والخلد والخلود في الأصل الثبات المديد دام أم لم يدم ، ولذلك قيل للأثافي والأحجار خوالد ، وللجزء الذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حيا خلد ، ولو كان وضعه للدوام كان التقييد بالتأبيد في قوله تعالى : { خالدين فيها أبدا } لغوا واستعماله حيث لا دوام ، كقولهم وقف مخلد يوجب اشتراكا ، أو مجازا . والأصل ينفيهما بخلاف ما لو وضع للأعم منه فاستعمل فيه بذلك الاعتبار ، كإطلاق الجسم على الإنسان مثل قوله تعالى : { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } لكن المراد به ههنا الدوام عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن .
فإن قيل : الأبدان مركبة من أجزاء متضادة الكيفية ، معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانفكاك والانحلال فكيف يعقل خلودها في الجنان . قلت : إنه تعالى يعيدها بحيث لا يتعورها الاستحالة بأن يجعل أجزاءها مثلا متقاومة في الكيفية ، متساوية في القوة لا يقوي شيء منها على إحالة الآخر ، متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض كما يشاهد في بعض المعادن .
هذا وإن قياس ذلك العالم وأحواله على ما نجده ونشاهده من نقص العقل وضعف البصيرة . واعلم أنه لما كان معظم اللذات الحسية مقصورا على : المساكن والمطاعم ، والمناكح ، على ما دل عليه الاستقراء كان ملاك ذلك كله الدوام والثبات ، فإن كل نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم ، بشر المؤمنين بها ومثل ما أعد لهم في الآخرة بأبهى ما يستلذ به منها ، وأزال عنهم خوف الفوات بوعد الخلود ليدل على كمالهم في التنعم والسرور .
{ وَبَشِّرِ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } .
في « الكشاف » من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط لاكتساب ما يزلف والتثبيط عن اقتراف ما يتلف فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة ا هـ .
وجعل جملة : { وبشر } معطوفة على مجموع الجمل المسوقة لبيان وصف عقاب الكافرين يعني جميع الذي فصل في قوله تعالى : { وإن كنتم في ريب } [ البقرة : 23 ] إلى قوله : { أُعدت للكافرين } [ البقرة : 24 ] فعَطف مجموع أخبار عن ثواب المؤمنين على مجموع أخبار عن عقاب الكافرين والمناسبة واضحة مسوغة لعطف المجموع على المجموع ، وليس هو عطفاً لجملة معينة على جملة معينة الذي يطلب معه التناسب بين الجملتين في الخبرية والإنشائية ، ونظّره بقولك : زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمراً بالعفو والإطلاق .
وجعل السيد الجرجاني لهذا النوع من العطف لقَبَ عطف القصة على القصة لأن المعطوف ليس جملة على جملة بل طائفة من الجمل على طائفة أخرى ، ونظيره في المفردات ما قيل إن الواو الأولى والواو الثالثة في قوله تعالى : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن } [ الحديد : 3 ] ليستا مثل الواو الثانية لأن كل واحدة منهما لإفادة الجمع بين الصفتين المتقابلتين وأما الثانية فلعطف مجموع الصفتين المتقابلتين اللتين بعدها على مجموع الصفتين المتقابلتين اللتين قبلها ولو اعتبر عطف الظاهر وحده على إحدى السابقتين لم يكن هناك تناسب ، هذا حاصله ، وهو يريد أن الواو عاطفة جملة ذات مبتدأ محذوف وخبرين على جملة ذات مبتدأ ملفوظ به وخبرين ، فالتقدير وهو الظاهر والباطن وليس المراد أن المبتدأ فيها مقدر لإغناء حرف العطف عنه بل هو محذوف للقرينة أو المناسبة في عطف جملة { الظاهر والباطن } على جملة { الأول والآخر } . أنهما صفتان متقابلتان ثبتتا لموصوف واحد هو الذي ثبتت له صفتان متقابلتان أخريان .
قال السيد ولم يذكر صاحب « المفتاح » عطف القصة على القصة فتحير الجامدون على كلامه في هذا المقام وتوهموا أن مراد صاحب « الكشاف » هنا عطف الجملة على الجملة وأن الخبر المتقدم مضمن معنى الطلب أو بالعكس لتتناسب الجملتان مع أن عبارة « الكشاف » صريحة في غير ذلك وقصد السيد من ذلك إبطال فهم فهمه سعد الدين من كلام « الكشاف » وأودعه في شرحه « المطول » على « التخليص »{[98]} .
وجوز صاحب « الكشاف » أن يكون قوله : { وبشر } معطوفاً على قوله : { فاتقوا } [ البقرة : 24 ] الذي هو جواب الشرط فيكون له حكم الجواب أيضاً وذلك لأن الشرط وهو { فإن لم تفعلوا } [ البقرة : 24 ] سبب لهما لأنهم إذا عجزوا عن المعارضة فقد ظهر صدق النبيء فحق اتقاء النار وهو الإنذار لمن دام على كفره وحقت البشارة للذين آمنوا .
وإنما كان المعطوف على الجواب مخالفاً له لأن الآية سيقت مساق خطاب للكافرين على لسان النبيء فلما أريد ترتب الإنذار لهم والبشارة للمؤمنين جعل الجواب خطاباً لهم مباشرة لأنهم المبتدأ بخطابهم وخطاباً للنبيء ليخاطب المؤمنين إذ ليس للمؤمنين ذكر في هذا الخطاب فلم يكن طريق لخطابهم إلا الإرسال إليهم .
وقد استضعف هذا الوجه بأن علماء النحو قرروا امتناع عطف أمر مخاطب على أمر مخاطب إلا إذا اقترن بالنداء نحو قم يا زيدُ واكتب يا عمرو ، وهذا لا نداء فيه .
وجوز صاحب « المفتاح » أن { بشر } معطوف على قُلْ مقدَّراً قبل { يأيها الناس اعبدوا } [ البقرة : 21 ] وقال القزويني في « الإيضاح » إنه معطوف على مقدر بعد قوله : { أُعدت للكافرين } [ البقرة : 24 ] أي فأنذر الذين كفروا وكل ذلك تكلف لا داعي إليه إلا الوقوف عند ظاهر كلام النحاة مع أن صاحب « الكشاف » لم يعبأ به قال عبد الحكيم لأن منع النحاة إذا انتفت قرينة تدل على تغاير المخاطبين والنداء ضرب من القرينة نحو : { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك } [ يوسف : 29 ] ا هـ . يريد أن كل ما يدل على المراد بالخطاب فهو كاف وإنما خص النحاة النداء لأنه أظهر قرينة واختلاف الأمرين هنا بعلامة الجمع والإفراد دال على المراد ، وأيًّا ما كان فقد روعي في الجمل المعطوفة ما يقابل ما في الجمل المعطوف عليها فقوبل الإنذار الذي في قوله : { فاتقوا النار } [ البقرة : 24 ] بالتبشير وقوبل { الناس } [ البقرة : 21 ] المراد به المشركون بالذين آمنوا وقوبل { النار } بالجنة فحصل ثلاثة طباقات .
والتبشير الإخبار بالأمر المحبوب فهو أخص من الخبر . وقيد بعض العلماء معنى التبشير بأن يكون المخبر ( بالفتح ) غير عالم بذلك الخبر والحق أنه يكفي عدم تحقق المخبر ( بالكسر ) عِلْم المخبر ( بالفتح ) فإن المخبر ( بالكسر ) لا يلزمه البحث عن علم المخاطب فإذا تحقق المخبر علم المخاطب لم يصح الإخبار إلا إذا استعمل الخبر في لازم الفائدة أو في توبيخ ونحوه .
والصالحات جمع صالحة وهي الفعلة الحسنة فأصلها صفة جرت مجرى الأسماء لأنهم يقولون صالحة وحسنة ولا يقدرون موصوفاً محذوفاً قال الحطيئة :
كيفَ الهجاءُ وما تنفَكُّ صَالحةٌ *** من آل لأْمٍ بظهر الغيبِ تأتينا
وكأنَّ ذلك هو وجه تأنيثها للنقل من الوصفية للاسمية .
والتعريف هنا للاستغراق وهو استغراق عرفي يحدد مقداره بالتكليف والاستطاعة والأدلة الشرعية مثل كون اجتناب الكبائر يغفر الصغائر فيجعلها كالعدم .
فإن قلت : إذا لم يقل وعملوا الصالحة بالإفراد فقد قالوا إن استغراق المفرد أشْمَلُ من استغراق المجموع ، قلت تلك عبارة سرت إليهم من كلام صاحب « الكشاف » في هذا الموضع من تفسيره إذ قال : « إذا دخلت لام الجنس على المفرد كان صالحاً لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه وإذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه ا هـ .
فاعتمدها صاحب « المفتاح » وتناقلها العلماء ولم يفصِّلوا بيانها .
ولعل سائلاً يسأل عن وجه إتيان العرب بالجموع بعد أل الاستغراقية إذا كان المفرد مغنياً غناءها فأقول : إن أل المُعَرِّفة تأتي للعهد وتأتي للجنس مراداً به الماهية وللجنس مراداً به جميع أفراده التي لا قرار له في غيرها فإذا أرادوا منها الاستغراق نظروا فإن وجدوا قرينة الاستغراق ظاهرة من لفظ أو سياق نحو : { إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا } [ العصر : 2 ، 3 ] { وتؤمنون بالكتاب كله } [ آل عمران : 119 ] { والمَلَكُ على أرجائها } [ الحاقة : 17 ] اقتنعوا بصيغة المفرد لأنه الأصل الأخَفُّ وإن رأوا قرينة الاستغراق خفية أو مفقودة عدلوا إلى صيغة الجمع لدلالة الصيغة على عدة أفراد لا على فرد واحد . ولما كان تعريف العهد لا يتوجه إلى عدد من الأفراد غالباً تعين أن تعريفها للاستغراق نحو : { واللَّهُ يحب المحسنين } [ آل عمران : 134 ] لئلا يتوهم أن الحديث على مُحسن خاص نحو قولها : { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } [ يوسف : 52 ] لئلا يتوهم أن الحديث عن خائن معين تعني نفسها فيصير الجمع في هذه المواطن قرينة على قصد الاستغراق .
وانتصب الصالحات على المفعول به لعملوا على المعروف من كلام أئمة العربية وزعم ابن هشام في الباب السادس من « مغني اللبيب » أن مفعول الفعل إذا كان لا يوجد إلا بوجود فعله كان مفعولاً مطلقاً لا مفعولاً به فنحو : { عملوا الصالحات } مفعول مطلق ونحو : { خلق الله السماوات } [ العنكبوت : 44 ] كذلك ، واعتضد لذلك بأنّ ابن الحاجب في « شرح المفصل » زعم أن المفعول المطلق يكون جملة نحو قال زيد عمرو منطلق وكلام ابن هشام خطأ وكلام ابن الحاجب مثله ، وقد رده ابن هشام نفسه . والصواب أن المفعول المطلق هو مصدر فعله أو ما يجري مجراه .
والجنات جمع جنة ، والجنة في الأصل فعلة من جنه إذا ستره نقلوه للمكان الذي تكاثرت أشجاره والتف بعضها ببعض حتى كثر ظلها وذلك من وسائل التنعم والترفه عند البشر قاطبة{[99]} لا سيما في بلد تغلب عليه الحرارة كبلاد العرب قال تعالى : { وجنات ألفافاً } [ النبأ : 16 ] .
والجري حقيقته سرعة شديدة في المشي ، ويطلق مجازاً على سَيْل الماء سَيْلاً متكرراً متعاقباً وأحسن الماء ما كان جارياً غير قار لأنه يكون بذلك جديداً كلما اغترف منه شارب أو اغتسل مغتسل .
والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح والنهر الأُخدود الجاري فيه الماء على الأرض وهو مشتق من مادة نَهَر الدالة على الانشقاق والاتساع ويكون كبيراً وصغيراً . وأكمل محاسن الجنات جريان المياه في خلالها وذلك شيء اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر لأن في الماء طبيعة الحياة ولأن الناظر يرى منظراً بديعاً وشيئاً لذيذاً .
وأودع في النفوس حب ذلك فإما لأن الله تعالى أعد نعيم الصالحين في الجنة على نحو ما ألفته أرواحهم في هذا العالم فإن للإلف تمكناً من النفوس والأرواح بمرورها على هذا العالم عالم المادة اكتسبت معارف ومألوفات لم تزل تحن إليها وتعدها غاية المنى ولذا أعد الله لها النعيم الدائم في تلك الصور ، وإما لأن الله تعالى حبب إلى الأرواح هاته الأشياء في الدنيا لأنها على نحو ما ألفته في العوالم العليا قبل نزولها للأبدان لإلفها بذلك في عالم المثال ، وسبب نفرتها من أشكال منحرفة وذوات بشعة عدم إلفها بأمثالها في عوالمها .
والوجه الأول الذي ظهر لي أراه أقوى في تعليل مجيء لذات الجنة على صور اللذات المعروفة في الدنيا وسينفعنا ذلك عند قوله تعالى : { وأتوا به متشابهاً } .
ومعنى { من تحتها } من أسفلها والضمير عائد إلى الجنات باعتبار مجموعها المشتمل على الأشجار والأرض النابتة فيها ويجوز عود الضمير إلى الجنات باعتبار الأشجار لأنها أهم ما في الجنات ، وهذا القيد لمجرد الكشف فإن الأنهار لا تكون إلا كذلك ويفيد هذا القيد تصوير حال الأنهار لزيادة تحسين وصف الجنات كقول كعب بن زهير :
شُجَّت بذِي شبَمٍ من ماء مَحنية *** صافٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمولُ
وقد أورد صاحب « الكشاف » توجيهاً لتعريف الأنهار ومخالفتها لتنكير ( جنات ) إما بأن يراد تعريف الجنس فيكون كالنكرة وإما بأن يراد من التعريف العهد إلا أنه عهد تقديري لأن الجنات لما ذكرت استحضر لذهن السامع لوازمها ومقارناتها فساغ للمتكلم أن يشير إلى ذلك المعهود فجيء باللام ، وهذا معنى قوله أو يراد أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة ، يريد أن المتكلم في مثل هذا المقام في حيرة بين أن يأتي بالأنهار معرفة بالإضافة للجنات وبين أن يعرفها بأل العهدية عهداً تقديرياً واختير الثاني تفادياً من كلفة الإضافة وتنبيهاً على أن الأنهار نعمة مستقلة جديرة بأن لا يكون التنعم بها تبعاً للتنعم بالجنات وليس مراده أن أل عوض عن المضاف إليه على طريقة نحاة الكوفة لأنه قد أباه في تفسير قوله تعالى : { فإن الجحيم هي المأوى } [ النازعات : 39 ] وإنما أراد أن الإضافة واللام متعاقبتان هنا وليس ذلك صالحاً في كل موضع{[100]} على أني أرى مذهب الكوفيين مقبولاً وأنهم ما أرادوا إلا بيان حاصل المعنى من ذلك التعريف فإن تقدير المضاف إليه هو الذي جعل المضاف المذكور كالمعهود فأدخلت عليه لام التعريف العهدي .
وعندي أن الداعي إلى التعريف هو التفنن لئلا يعاد التنكير مرة ثانية فخولف بينهما في اللفظ اقتناعاً بسورة التعريف .
وقوله : { من تحتها } يظهر أنه قيد كاشف قصد منه زيادة إحضار حالة جري الأنهار إذ الأنهار لا تكون في بعض الأحوال تجري من فوق فهذا الوصف جيء به لتصوير الحالة للسامع لقصد الترغيب وهذا من مقاصد البلغاء إذ ليس البليغ يقتصر على مجرد الإفهام ، وقريب من هذا قول النابغة يصف فرس الصائد وكلابه :
من حس أطلس تسعى تحته شرع *** كأن أحناكها السفلى مآشير
والتحت اسم لجهة المكان الأسفل وهو ضد الأعلى ، ولكل مكان علوٌّ وسفلٌ ولا يقتضي ذلك ارتفاعَ ما أضيف إليه التحت على التحت بل غاية مدلوله أنه بجهة سفله قال تعالى حكاية عن فرعون : { وهذه الأنهار تجري من تحتي } [ الزحرف : 51 ] فلا حاجة إلى تأويل الجنة هنا بالأشجار لتصحيح التحت ولا إلى غيره من التكلفات .
{ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ متشابها وَلَهُمْ فِيهَآ أزواج مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خالدون } .
جملة : { كلما رزقوا } يجوز أن تكون صفة ثانية لجنات ، ويجوز أن تكون خبراً عن مبتدأ محذوف وهو ضمير { الذين آمنوا } فتكون جملة ابتدائية الغرض منها بيان شأن آخر من شؤون الذين آمنوا ، ولكمال الاتصال بينها وبين جملة { أن لهم جنات } فصلت عنها كما تفصل الأخبار المتعددة .
و { كلما } ظرف زمان لأن كلا أضيفت إلى ما الظرفية المصدرية فصارت لاستغراق الأزمان المقيدة بصلة ما المصدرية وقد أشربت معنى الشرط لذلك فإن الشرط ليس إلا تعليقاً على الأزمان المقيدة بمدلول فعل الشرط ولذلك خرجت كثير من كلمات العموم إلى معنى الشرط عند اقترانها بما الظرفية نحو كيفما وحيثما وأنما وأينما ومتى وما مهما . والناصب لكلما الجواب لأن الشرطية طارئة عليها طرياناً غير مطرد بخلاف مهما وأخواتها .
وإذ كانت كلما نصاً في عموم الأزمان تعين أن قوله { من قبل } المبني على الضم هو على تقدير مضاف ظاهر التقدير أي من قبل هذه المرة فيقتضي أن ذلك ديدن صفات ثمراتهم أن تأتيهم في صور ما قدم إليهم في المرة السابقة . وهذا إما أن يكون حكاية لصفة ثمار الجنة وليس فيه قصد امتنان خاص فيكون المعنى أن ثمار الجنة متحدة الصورة مختلفة الطعوم .
ووجه ذلك والله أعلم أن اختلاف الأشكال في الدنيا نشأ من اختلاف الأمزجة والتراكيب فأما موجودات الآخرة فإنها عناصر الأشياء فلا يعتورها الشكل وإنما يجيء في شكل واحد وهو الشكل العنصري .
ويحتمل أن في ذلك تعجيباً لهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس ولذلك يرغب الناس في مشاهدة العجائب والنوادر . وهذا الاحتمال هو الأظهر من السياق . ويحتمل أن كلما لعموم غير الزمن الأول فهو عام مراد به الخصوص بالقرينة ، ومعنى { من قبل } في المرة الأولى من دخول الجنة .
ومن المفسرين من حمل قوله { من قبل } على تقدير من قبل دخول الجنة أي هذا الذي رزقناه في الدنيا ، ووجهه في « الكشاف » : « بأن الإنسان بالمألوف آنس » وهو بعيد لاقتضائه أن يكون عموم كلما مراداً به خصوص الإتيان به في المرة الأولى في الجنة ولأنه يقتضي اختلاف الطعم واختلاف الأشكال وهذا أضعف في التعجب ، ولأن من أهل الجنة من لا يعرف جميع أصناف الثمار فيقتضي تحديد الأصناف بالنسبة إليه .
وقوله : { وأتوا به متشابهاً } ظاهر في أن التشابه بين المأتي به لا بينه وبين ثمار الدنيا . ثم مَنّ الله عليهم بنعمة التأنس بالأزواج ونزه النساء عن عوارض نساء الدنيا مما تشمئز منه النفس لولا النسيان فجمع لهم سبحانه اللذات على نحو ما ألفوه فكانت نعمة على نعمة .
والأزواج جمع زوج يقال للذكر والأنثى لأنه جعل الآخر بعد أن كان مفرداً زوجاً وقد يقال للأنثى زوجة بالتاء وورد ذلك في حديث عمار بن ياسر في البخاري : « إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة » يعني عائشة وقال الفرزدق :
وإنّ الذي يَسعى ليفسد زَوجتي *** كساعٍ إلى أُسد الشَّرى يستمليها
وقوله : { وهم فيها خالدون } احتراس مِن تَوَهُّم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في الدنيا لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال وذلك ينغصها عند المنعم عليه كما قال أبو طيب :
أشدُّ الغم عندي في سرور *** تحقَّقَ عنه صاحبُه انتقالا
وقوله : { مطهرة } هو بزنة الإفراد وكان الظاهر أن يقال مطهرات كما قرىء بذلك ولكن العرب تعدل عن الجمع مع التأنيث كثيراً لثقلهما لأن التأنيث خلاف المألوف والجمع كذلك ، فإذا اجتمعا تفادوا عن الجمع بالإفراد وهو كثير شائع في كلامهم لا يحتاج للاستشهاد .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أما قوله تعالى:"وَبَشّرْ" فإنه يعني: أخبرهم. والبشارة أصلها: الخبر بما يسر المخبر به، إذا كان سابقا به كل مخبر سواه. وهذا أمر من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبماء جاء به من عند ربه، وصدقوا إيمانهم ذلك وإقرارهم بأعمالهم الصالحة، فقال له: يا محمد بَشّرْ من صدقك أنك رسولي وأن ما جئت به من الهدى والنور فمن عندي، وحقق تصديقه ذلك قولاً بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتها عليه وأوجبتها في كتابي على لسانك عليه، أن له جنات تجري من تحتها الأنهار خاصة، دون من كذّب بك وأنكر ما جئت به من الهدى من عندي وعاندك، ودون من أظهر تصديقك وأقرّ بأن ما جئته به فمن عندي قولاً، وجحده اعتقادا ولم يحققه عملاً. فإن لأولئك النار التي وقودها الناس والحجارة معدة عندي.
والجنات جمع جنة، والجنة: البستان. وإنما عنى جل ذكر بذكر الجنة ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها دون أرضها، فلذلك قال عزّ ذكره: "تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ "لأنه معلوم أنه إنما أرَادَ جل ثناؤه الخبر عن ماء أنهارها أنه جار تحت أشجارها وغروسها وثمارها، لا أنه جار تحت أرضها لأن الماء إذا كان جاريا تحت الأرض، فلا حظّ فيها لعيون من فوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه...
على أن الذي توصف به أنهار الجنة أنها جارية في غير أخاديد... عن مسروق، قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القِلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وماؤها يجري في غير أخدود...
فإذا كان الأمر كذلك في أن أنهارها جارية في غير أخاديد، فلا شك أن الذي أريد بالجنات أشجار الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها، إذ كانت أنهارها تجري فوق أرضها وتحت غروسها وأشجارها، على ما ذكره مسروق. وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جارية تحت أرضها. وإنما رغب الله جل ثناؤه بهذه الآية عباده في الإيمان وحضهم على عبادته، بما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيمان به عنده، كما حذرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعدّ لأهل الكفر به الجاعلين معه الاَلهة والأنداد من عقابه عن إشراك غيره معه، والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وترك طاعته...
"كُلمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا قالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وأتُوا بِهِ مُتَشَابِها ": كُلّما رُزِقُوا مِنْهَا من الجنات، والهاء راجعة على «الجنات»، وإنما المعنيّ أشجارها، فكأنه قال: كلما رزقوا من أشجار البساتين التي أعدّها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته من ثمرة من ثمارها رزقا قالوا: هذا الذي رُزِقْنا من قبل...
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "هَذَا الّذِي رزِقْنا مِنْ قَبْلُ"
فقال بعضهم: تأويل ذلك: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا.
وقال آخرون: بل تأويل ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا، لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضا. ومن علة قائلي هذا القول أن ثمار الجنة كلما نزع منها شيء عاد مكانه آخر مثله. قالوا: فإنما اشتبهت عند أهل الجنة، لأن التي عادت نظيرة التي نزعت فأكلت في كل معانيها. قالوا: ولذلك قال الله جل ثناؤه: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها لاشتباه جميعه في كل معانيه
وقال بعضهم: بل قالوا: هَذَا الّذِي رزِقْنا مِنْ قَبْلُ لمشابهته الذي قبله في اللون وإن خالفه في الطعم.
والذي يدل على صحته ظاهر الآية ويحقق صحته، قول القائلين إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا. وذلك أن الله جل ثناؤه قال: "كُلّما رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا" فأخبر جل ثناؤه أن من قيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقا أن يقولوا: "هذا الذي رُزقنا من قبل". ولم يخصص بأن ذلك من قيلهم في بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جل ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها، فلا شك أن ذلك من قيلهم في أول رزق رزقوه من ثمارها أتوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها، الذي لم يتقدمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أن ذلك من قيلهم في أوله، كما هو من قيلهم في وسطه وما يتلوه، فمعلوم أنه محال أن يكون من قيلهم لأوّل رزق رزقوه من ثمار الجنة: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ هذا من ثمار الجنة. وكيف يجوز أن يقولوا لأوّل رزق رزقوه من ثمارها ولما يتقدمه عندهم غيره...
"وأتُوا بِهِ مُتَشابِها": والهاء في قوله: "وأتُوا بِهِ مُتَشابِها" عائدة على الرزق، فتأويله: وأُتوا بالذي رزقوا من ثمارها متشابها.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل المتشابه في ذلك:
فقال بعضهم: تشابهه أن كله خيار لا رذل فيه.
وقال بعضهم: تشابهه في اللون وهو مختلف في الطعم. وقال بعضهم: تشابه في اللون والطعم وقال بعضهم: تشابهه تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون وإن اختلف طعومهما... يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب... وقال بعضهم: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا الأسماء.
وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية، تأويل من قال: وأُوتُوا بِهِ مُتَشابِها في اللون والمنظر، والطعمُ مختلفٌ. يعني بذلك اشتباه ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون، مختلفا في الطعم والذوق لما قدمنا من العلة في تأويل قوله: "كُلما رُزِقُوا مِنْعها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا قالُوا هَذَا الّذِي رِزِقنا مِنْ قَبْلُ" وأن معناه: كلما رزقوا من الجنان من ثمرة من ثمارها رزقا قالُوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْل هذا في الدنيا. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك من أجل أنهم أُتوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابها، يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه والذي كانوا رزقوه في الدنيا في اللون والمرأى والمنظر وإن اختلفا في الطعم والذوق فتباينا، فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا...
"وَلَهُمْ فِيهَا أزْواجٌ مُطَهّرَةٌ": والهاء والميم اللتان في «لهم» عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والهاء والألف اللتان في «فيها» عائدتان على الجنات. وتأويل ذلك: وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات فيها أزواج مطهرة. والأزواج جمع زوج، وهي امرأة الرجل، يقال: فلانة زوج فلان وزوجته.
وأما قوله: "مُطَهّرَةٌ" فإن تأويله أنهن طهرن من كل أذى وقَذًى وريبة، مما يكون في نساء أهل الدنيا من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبصاق والمنيّ، وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره...
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أما أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ فإنهن لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن...
[و] عن ابن عباس قوله: "أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ" يقول: مطهرة من القذر والأذى...
"وَهُمْ فيها خالدُونَ": والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون، فالهاء والميم من قوله وَهُمْ عائدة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والهاء والألف في «فيها» على الجنات، وخلودهم فيها: دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الحَبْرَة والنعيم المقيم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط، لاكتساب ما يزلف، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف. فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب، قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي، وحموها من الإحباط بالكفر والكبائر بالثواب...
فإن قلت: من المأمور بقوله تعالى: {وَبَشِّرِ}؟ قلت: يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون كل أحد. كما قال عليه الصلاة والسلام:"بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة" لم يأمر بذلك واحداً بعينه. وإنما كل أحد مأمور به، وهذا الوجه أحسن وأجزل؛ لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به.
والبشارة: الإخبار مما يظهر سرور المخبر به. ومن ثم قال العلماء: إذا قال لعبيده: أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حرّ، فبشروه فرادى، عتق أوّلهم، لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين. ولو قال مكان «بشرني» أخبرني «عتقوا جميعاً، لأنهم جميعاً أخبروه. ومنه: البشرة لظاهر الجلد. وتباشير الصبح: ما ظهر من أوائل ضوئه. وأما {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزَأ به وتألمه واغتمامه.
فإن قلت: ما معنى جمع الجنة وتنكيرها؟ قلت: الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين، لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان.
فإن قلت: كيف صورة جري الأنهار من تحتها؟ قلت: كما ترى الأشجار النابتة على شواطئ الأنهار الجارية. وعن مسروق: أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود. وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظللة، والأنهار في خلالها مطردة. ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى، وأن الجنان والرياض وإن كانت آنق شيء وأحسنه لا تروق النواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية والنشاط حتى يجري فيها الماء، وإلا كان الأنس الأعظم فائتاً، والسرور الأوفر مفقوداً، وكانت كتماثيل لا أرواح فيها، وصور لا حياة لها، لما جاء الله تعالى بذكر الجنات مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية من تحتها مسوقين على قرن واحد كالشيئين لا بد لأحدهما من صاحبه، ولما قدّمه على سائر نعوتها. والنهر: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر. يقال لبردى: نهر دمشق، وللنيل: نهر مصر. واللغة العالية «النهَر» بفتح الهاء.
فإن قلت: لأي غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة، وما بال ثمر الجنة لم يكن أجناساً أخر؟ قلت: لأنّ الإنسان بالمألوف آنس، وإلى المعهود أميل، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدّم معه ألف، ورأى فيه مزية ظاهرة، وفضيلة بينة، وتفاوتاً بينه وبين ما عهد بليغاً، أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه، وتحقق مقدار الغبطة به. ولو كان جنساً لم يعهده وإن كان فائقاً، حسب أنّ ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين. فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم، وأن الكبرى لا تفضل عن حدّ البطيخة الصغيرة، ثم يبصرون رمّانة الجنة تشبع السكن. والنبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة، ثم يرون نبق الجنة كقلال هجر، كما رأوا ظل الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده، ثم يرون الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه، كان ذلك أبين للفضل، وأظهر للمزية، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما. وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها، دليل على تناهي الأمر وتمادي الحال في ظهور المزية وتمام الفضيلة، وعلى أنّ ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملي تعجبهم، ويستدعي تبجحهم في كل أوان...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{جنات} جمع جنة، وهي بستان الشجر والنخيل... وسميت جنة لأنها تجن من دخلها أي تستره، ومنه المجن والجنن، وجن الليل.
"وأتُوا بِهِ مُتَشابِها": قال ابن عباس: «ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء، وأما الذوات فمتباينة»...
وقال بعض المفسرين: «المعنى هذا الذي وعدنا به في الدنيا فكأنهم قد رزقوه في الدنيا إذ وعد الله منتجز».
أما قوله {ولهم فيها أزواج مطهرة} فالمراد طهارة أبدانهن من الحيض والاستحاضة وجميع الأقذار وطهارة أزواجهن من جميع الخصال الذميمة، ولاسيما ما يختص بالنساء، وإنما حملنا اللفظ على الكل لاشتراك القسمين في قدر مشترك.
قال أهل الإشارة. وهذا يدل على أنه لابد من التنبه لمسائل.
أحدها: أن المرأة إذا حاضت فالله تعالى منعك عن مباشرتها قال الله تعالى {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} فإذا منعك عن مقاربتها لما عليها من النجاسة التي هي معذورة فيها، فإذا كانت الأزواج اللواتي في الجنة مطهرات فلأن يمنعك عنهن حال كونك ملوثا بنجاسات المعاصي مع أنك غير معذور فيها كان أولى.
وثانيها: أن من قضى شهوته من الحلال فإنه يمنع الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر، فمن قضى شهوته من الحرام كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون ولذلك فإن آدم لما أتى بالزلة أخرج منها.
وثالثها: من كان على ثوبه ذرة من النجاسة لا تصح صلاته عند الشافعي رضي الله عنه، فمن كان على قلبه من نجاسات المعاصي أعظم من الدنيا كيف تقبل صلاته...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فتأمل جلالة المبشر ومنزلته وصدقه، وعظمته وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة، وقدر ما بشرك به، وضمنه لك، على أسهل شيء عليك وأيسره، وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات، وما فيها من الأنهار والثمار، ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد، وعدم انقطاعه...
والأزواج: جمع «زوج». والمرأة زوج للرجل، وهو زوجها هذا هو الأفصح وهو لغة قريش. وبها نزل القرآن كقوله: {اسكن أنت وزوجك الجنة} [البقرة: 35] ومن العرب من يقول: زوجة، وهو نادر، لا يكادون يقولونه.
وأما «المطهرة»: فإن جرت صفة على الواحد، فيجرى صفة على جمع التكثير إجراء له مجرى جماعة، كقوله تعالى: {مساكن طيبة} [الصف: 12] وقولهم: وقوًى ظاهرة، ونظائره. و«المطهرة»: من طهرت من الحيض والبول والنفاس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر، وكل أذى يكون من نساء الدنيا، فظهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة، والصفات المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها، وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال، عَطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله، الذين صَدَّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن "مثاني "على أصح أقوال العلماء... وحاصله ذكر الشيء ومقابله. وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه... فلهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار، كما وصف النار بأن وقودها الناس والحجارة، ومعنى {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أي: من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث: أن أنهارها تجري من غير أخدود، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف، ولا منافاة بينهما، وطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله [وكرمه] إنه هو البر الرحيم...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
واعلم أن معظمَ اللذاتِ الحسية لما كان مقصوراً على المساكن والمطاعم والمناكِح حسبما يقضي به الاستقراءُ، وكان ملاك جميع ذلك الدوامَ والثباتَ، إذ كلُّ نعمة وإن جلت حيث كانت في شرف الزوال ومعرِضِ الاضمحلال فإنها منغِّصةٌ غيرُ صافيةٍ من شوائب الألم، بَشَّر المؤمنين بها وبدوامها تكميلاً للبهجة والسرور، اللهم وفقنا لمراضيك، وثبتنا على ما يؤدي إليها من العقْد والعمل...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{الَّذِينَ آمَنُوا} بقلوبهم {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بجوارحهم، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة.
ووصفت أعمال الخير بالصالحات، لأن بها تصلح أحوال العبد، وأمور دينه ودنياه، وحياته الدنيوية والأخروية، ويزول بها عنه فساد الأحوال، فيكون بذلك من الصالحين، الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.
فبشرهم {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} أي: بساتين جامعة من الأشجار العجيبة، والثمار الأنيقة، والظل المديد، [والأغصان والأفنان وبذلك] صارت جنة يجتن بها داخلها، وينعم فيها ساكنها.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي: أنهار الماء، واللبن، والعسل، والخمر، يفجرونها كيف شاءوا، ويصرفونها أين أرادوا، وتشرب منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار.
{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أي: هذا من جنسه، وعلى وصفه، كلها متشابهة في الحسن واللذة، ليس فيها ثمرة خاصة، وليس لهم وقت خال من اللذة، فهم دائما متلذذون بأكلها...
ثم لما ذكر مسكنهم، وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم، ذكر أزواجهم، فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه، وأوضحه فقال: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} فلم يقل "مطهرة من العيب الفلاني "ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق، مطهرات الخلق، مطهرات اللسان، مطهرات الأبصار، فأخلاقهن، أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن، وحسن التبعل، والأدب القولي والفعلي، ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني، والبول والغائط، والمخاط والبصاق، والرائحة الكريهة، ومطهرات الخلق أيضا، بكمال الجمال، فليس فيهن عيب، ولا دمامة خلق، بل هن خيرات حسان، مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن، وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح.
ففي هذه الآية الكريمة، ذكر المبشِّر والمبشَّر، والمبشَّرُ به، والسبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشِّر: هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر: هم المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشَّر به: هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات، والسبب الموصل لذلك، هو الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة، إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة، على يد أفضل الخلق، بأفضل الأسباب.
وفيه استحباب بشارة المؤمنين، وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها [وثمراتها]، فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان، توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهي ألوان من النعيم يستوقف النظر منها -إلى جانب الأزواج المطهرة- تلك الثمار المتشابهة، التي يخيل إليهم أنهم رزقوها من قبل -أما ثمار الدنيا التي تشبهها بالاسم أو الشكل، وأما ثمار الجنة التي رزقوها من قبل- فربما كان في هذا التشابه الظاهري والتنوع الداخلي مزية المفاجأة في كل مرة.. وهي ترسم جوا من الدعابة الحلوة، والرضى السابغ، والتفكه الجميل، بتقديم المفاجأة بعد المفاجأة، وفي كل مرة ينكشف التشابه الظاهري عن شيء جديد!
وهذا التشابه في الشكل، والتنوع في المزية، سمة واضحة في صنعة البارئ تعالى، تجعل الوجود أكبر في حقيقته من مظهره. ولنأخذ الإنسان وحده نموذجا كاشفا لهذه الحقيقة الكبيرة.. الناس كلهم ناس، من ناحية قاعدة التكوين: رأس وجسم وأطراف. لحم ودم وعظام وأعصاب. عينان وأذنان وفم ولسان. خلايا حية من نوع الخلايا الحية. تركيب متشابه في الشكل والمادة.. ولكن أين غاية المدى في السمات والشيات؟ ثم أين غاية المدى في الطباع والاستعدادات؟ إن فارق ما بين إنسان وإنسان -على هذا التشابه- ليبلغ أحيانا أبعد مما بين الأرض والسماء!
وهكذا يبدو التنوع في صنعة البارئ هائلا يدير الرؤوس: التنوع في الأنواع والأجناس، والتنوع في الأشكال والسمات، والتنوع في المزايا والصفات.. وكله.. كله مرده إلى الخلية الواحدة المتشابهة التكوين والتركيب.
فمن ذا الذي لا يعبد الله وحده، وهذه آثار صنعته، وآيات قدرته؟ ومن ذا الذي يجعل لله اندادا، ويد الإعجاز واضحة الآثار، فيما تراه الأبصار، وفيما لا تدركه الأبصار؟
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
والظاهر أن المراد بالأزواج هنا ما يعم النوعين لكمال أنس المؤمنين بهما معا، ولتبرئة الله سبحانه الصالحات من نساء الدنيا في الجنة من كل العيوب الجسدية والنفسية، وذلك تطهير لهن مما كن متلوثات به في الدنيا.
وأما اللاتي ينشأن هناك فتنشئتهن من أول الأمر مطبوعة طبع السلامة من هذه العيوب، وجاءت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحوال نساء الجنة منها الصحيح ومنها الحسن، ومنها دون ذلك، وهي صريحة في أن الاتصال بين الزوجين يتم يوم القيامة على نحو ما يكون في الدنيا، وإن كان أكمل في اللذة وأبعد من الأذى... والحق أن الحكمة في ذلك معروفة، وهي لذة الاتصال بين الجنسين كما صرحت به الأحاديث النبوية، وأومت إليه الآيات القرآنية،
والإِنسان يوم القيامة لا يتحول عن إنسانيته، وقد وفر الله لعباده المؤمنين في دار كرامته جميع ما تتوق إليه أنفسهم في الدنيا من متع الحياة ونعيمها، فما يؤتونه في الدنيا إنما هو بقدر هذه الحياة المحدودة، وبقدر طبيعتها المقيدة التي تختلف تمام الاختلاف عن طبيعة الحياة الأخروية المطلقة، فالفارق بين لذات الدارين كالفارق بين البقاء فيهما...
وبما أن النعمة وإن كملت، واللذة وإن تناهت -إن لم يأمن صاحبهما زوالهما كان ذلك من أشد المنغصات عليه- جيء هنا بما يستأصل هذا الخوف وهو إثبات خلودهم في الجنة ونعيمها، فالحياة الأخروية لا انقطاع لها، ولا يكدر أمنها خوف، ولا يهدد شبابها هرم، ولا صحتها سقم، ولا غناها فقر، ولا نعيمها بؤس، والخلد يطلق على المكث الدائم الذي لا ينقطع...