اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (25)

اعلَمْ : أنَّه - سبحانه وتعالى - لمَّا تكلَّم في التوحيد والنُّبوَّة ، تكلَّم بعدهما في ذكر المَعَاد ، وبيَّن عقاب{[877]} الكافر ، وثواب المُطيعِ ، ومن عادة الله - تعالَى - أنه إذا ذَكَرَ الوَعِيدَ ، أَنْ يعقبَهُ بذكْرِ الوَعْد .

وها هنا فُصُولٌ :

الأوَّلُ : هذه الآياتُ صريحةٌ في أنَّ الجنَّة والنَّار مخلوقَتَانِ ، لأنه - تعالى - [ قال ]{[878]} في صفَة النَّار : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ، وقال في صفَة الجَنَّة في آية أخْرَى : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] ، وقال هاهنا : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } وهذا إخبار عن وُقُوع هذا المُلْك وحُصُوله ، وحُصُول المُلْك في الحالِ يقْتَضي حصُولَ المَمْلُوك في الحالِ ؛ فَدَلَّ على أنَّ الجنَّة والنَّار مخْلُوقَتَانِ .

الثاني : مَجَامِعُ اللَّذَّاتِ : إما المَسْكن ، أو المَطْعم ، أو المَنْكَح .

فوَصَفَ تعالى المَسْكَن بقولِهِ : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } والمَطْعَمَ بقوله : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً } والمَنْكَح بقوله : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } .

ثم هذه الأشياءُ إنُ حصَلَتْ ، وقارنَهَا خوْفُ الزوالِ ، كان النَّعِيمُ مُنَغَّصاً ، فبيَّن - تعالى - زوالَ هذا الخَوْف بقوله : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ؛ فدَلَّت الآيةُ على كَمَال النَّعيم والسُّرور .

الثالثُ : قولُهُ : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ } هذه الجملةُ معْطُوفة على ما قَبْلها ، عَطَف جُمْلَةَ ثوابِ المُؤْمنين ، على جملة ثَوَاب الكافرين ، وجاز ذلك ؛ لأنَّ مذْهب سِيبَويهِ - وهو الصَّحيحُ - : أنَّه لا يشترطُ في عَطْفِ الجُمَلِ التَّوافُقُ معْنًى ، بل تُعْطَف الطلبيَّة على الخَبَرية ؛ وبالعكس ؛ [ بدليل ]{[879]} قوله : [ الطويل ]

تُنَاغِي غَزَالاً عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ *** وَكَحِّلْ أَمَاقِيكَ الحِسَانَ بِإِثْمِدِ{[880]}

وقولِ امْرِئ القَيْسِ : [ الطويل ]

وإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ *** وَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ{[881]}

وقال ابنُ الخَطِيبِ : ليس الَّذي اعتمد بالعَطْف هو الأَمْر ، حتى يطلب له مشاكل من أمر ونهي يعطف عليه ، إنما المعتمد بالعطف هو جملة ثواب المؤمنين ؛ فهي معطوفة على جملة وَصْف عقاب الكافرين كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والضرب وَبَشِّرْ عمرر بالعفو والإطلاق .

وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون عطفاً على " فاتَّقوا " ليعطف أمراً على أمر ، وهذا قد رده أبو حيان بأن " فاتقوا " جواب الشرط ، فالمعطوف يكون جواباً ؛ لأن حكمَه حكمُه ، ولكن لا يصح ؛ لأن تبشيره للمؤمنين لا يترتب على قوله : " فإن لم تفعلوا " .

وقرئ : " وبُشَِّرَ " [ ماضياً ] مبنيًّا للمفعول .

وقال الزمخشري : " وهو عَطْف على أعدت " .

قيل : وهذا لا يتأتى على إعراب " أعدت " حالاً ؛ لأنها لا تصلح للحالية .

وقيل : عطفها على " أعدت " فاسد ؛ لأن " أعدت " صلة " التي " ، والمعطوف على الصلة صلة ، ولا يصلح أن يقال : " الباء " التي بشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنَّ لهم جنَّاتٍ ، إلاَّ أن يعتقد أن قوله : " أُعِدَّتْ " مستأنفٌ ، والظاهِرُ أنَّهُ من تمام الصلة ، وأنَّهُ حالٌ من الضمير في " وقودها " ، والمأمور بالبشارة يجوز أن يكون الرسولُ عليه السَّلامُ ، وأن يكون كُلُّ سَامِعٍ ، كما قال عليه السلام :

" بَشِّر المَشَّائِينَ إلَى المَسَاجِدِ في الظُّلَمِ بِالنُّورِ التَّامِّ يوم القِيَامَةِ " {[882]} ، لم يأمر بذلك أحداً بعينه ، وإنَّما كل أحدٍ مأمور به .

و " البِشارةُ " : أوّل خبرٍ من خيرٍ أو شَرٍّ ؛ قالوا : لأنَّ أثرها يظهرُ في البَشَرَةِ ، وهي ظاهرُ جِلْدِ الإنْسَانِ ؛ وأنْشَدُوا : [ الوافر ]

يُبَشِّرُنِي الغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي *** فَقُلْتُ لَهُ : ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ{[883]}

وقال آخر : [ الطويل ]

وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي *** جَفَوْني وأَنَّ الوُدَّ مَوْعِدُهُ الحَشْرُ{[884]}

وهذا رأى سيبويه{[885]} ، إلاَّ أنَّ الأكثر استعمالُهَا في الخير ، وإن اسْتُعْمِلَتْ في الشَّرِّ فَبِقَيْدٍ ؛ كقوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } [ آل عمران : 21 ] ، وإن أُطْلِقَتْ ، كان للخَيْر .

وقال البغويُّ : " البِشَارَةُ كل خبر صدقٍ " .

وقال ابن الخطيب : إنَّها الخبرُ الذي يُظهِرُ السرور ، ولهذا قال الفقهاءُ : إذا قال لعبيده : أيُّكم يُبَشِّرُنِي بقدوم فلان فهو حُرٌّ ، فَبَشَّروه فُرَادَى ، عَتقَ أولهم ؛ لأنَّهُ هو الذي أفاد خبره السرور . ولو قال مكان " بَشَّرَني " : أَخْبَرَنِي عَتَقُوا جميعاً ؟ لأنَّهم جميعاً أخبروه ، وظاهِرُ كلام الزمخشري أنَّها تختص بالخير ؛ لأنَّهُ تَأَوَّلَ " فبشِّرهم بعذابٍ " على العكس في الكلامِ الذي يقصد به الزيادة في غيظ المُسْتَهْزَأ بَهِ وتَأَلُّمِهِ ، كما يقول الرَّجُلُ لِعَدوِّه : أَبْشِرْ بقتل ذريتك ونَهْبِ مالك .

والفِعْلُ منها بَشَرَ وبَشَّرَ مخففاً ومثقلاً ، فالتثقيل للتكثير بالنسبة إلى البشيرة .

وقد قرئ{[886]} المضارعُ مخففاً ومشدّداً .

وأمَّا الماضي فلم يقرأ به إلاَّ مثقلاً نحو { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [ هود : 71 ] وفيه لغةٌ أخرى : أَبْشَرَ مِثل أَكْرَمَ .

وأنكر أبو حَاتِمٍ التخفيف ، وليس بصواب لمجيء مضارعه .

وبمعنى البِشارة : البُشُور والتَّبْشِير والإِبْشَار ، وإن اختلفت أفعالُها ، والبِشَارةُ أيضاً : الجَمَالُ ، والبشيرُ : الجميلُ ، وتَبَاشيرُ الفَجْرِ أَوائِلُهُ .

وكون صلة " الَّذين " فعلاً ماضياً دون كونه اسم فاعل ، دليلٌ على أنه يستحقُّ التبشير بفضل الله ممن وقع منه الإيمانُ ، وتحقَّقَ به وبالأعمال الصالحة .

و " الصَّالِحَاتُ " : جمع " صالحة " ، وهي من الصفات التي جَرَتْ مجرى الأسماءِ في إيلائها العوامل ؛ قال : [ البسيط ]

كَيْفَ الهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ *** مِنْ آلِ لأْمٍ بِظَهْرِ الغَيْبِ تَأْتِيني{[887]}

وعلامةُ نصبه الكَسْرةُ ؛ لأنَّهُ من باب جمع المؤنث السالم نيابة عن الفتحةِ ، التي هي أصلُ النَّصْبِ .

قال معاذ{[888]} : " العملُ الصالِحُ الذي فيه أربعة أشياء : العِلْمُ والنِّيَّهُ والصَّبْرُ والإخْلاصُ " .

وقال عثمان بن عَفَّان : " أخلصوا الأعمال " .

فَصْلٌ

قال ابن الخطيب{[889]} : هذه الآية تدلّ على أنَّ الأعمالَ غير داخلةٍ في الإيمان ؛ [ لأنَّهُ لمَّا ذكر الإيمان ]{[890]} ، ثمَّ عطف عليه العمل الصالح ، فوجب التغير وإلا لزم التكرار ، وهو خلاف الأصل .

قوله : { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } .

" جنَّاتٍ " : اسم : " أنَّ " . و " لهم " خَبَرٌ مُقَدَّمٌ . ولا يجوز تقديم خبر " أنَّ " وأخواتها إلاَّ ظرفاً أو حرف جرٍّ ، و " أنَّ " وما في حيِّزها{[891]} في محل جرٍّ عند الخليل والكسائي ، ونصب عند سيبويه والفرَّاء ؛ لأنَّ الأصل : وبَشِّرِ الذين آمنوا بأنَّ لهم ، فحذف حرف الجرِّ مع " أنَّ " ، وهو حذفٌ مُطَّرِدٌ معها ، ومع " أنَّ " الناصبة للمضارع ، بشرط أَمْنِ اللَّبْسِ ، بسبب طولهما بالصلةِ ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجرَِّ ، جرى الخلافُ المذكورُ ، فالخليلُ والكسائيُّ يقولان : " كأنَّ الحرف موجود ، فالجرُّ بَاقٍ " .

واستدلَّ الأخفشُ لهما بقول الشَّاعر : [ الطويل ]

وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً *** إِلَيَّ وَلاَ دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهْ{[892]}

فَعَطْفُ " دَيْنٍ " بالجرِّ على محلِّ " أنْ تَكُونَ " يُبِّينُ كونَها مجرورةً .

قيل : " ويحتملُ أن يكون من باب عطفِ التَّوَهُّمِ ، فلا دليلَ فيه " .

والفرَّاءُ وسيبويه يقُولاَن : وجَدْنَاهُمْ إذا حذفوا حرفَ الجرِّ ، نَصَبُوا ؛ كقولِهِ : [ الوافر ]

تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا *** كَلاَمُكُمْ عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ{[893]}

أي : بالدِّيار ، ولا يجوزُ الجَرُّ إلاَّ في نادرِ شِعرٍ ؛ كقوله : [ الطويل ]

إِذَا قِيلَ : أيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ ؟ *** أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ{[894]}

أي : إلى كُلَيْبٍ ؛ وقول الآخر : [ الكامل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** حَتَّى تَبَذَّخَ فَارْتَقَى الأَعْلاَمِ{[895]}

أي : إلى الأَعْلاَم .

و " الجَنَّةُ " : البُسْتَانُ .

وقيل : الأرضُ ذات الشَّجرِ ، سُمّيت بذلك لسترها من فيها ، ومنه " الجَنِينُ " لاستتاره ، و " المِجَنُّ " : التُّرْس ، وكذلك " الجُنَّة " لأنَّه يسترُ صَاحِبَهُ ، و " الجِنَّةُ " لاستتارهم عن أَعْيُنِ النَّاسِ .

قال الفرَّاءُ : " الجنَّةُ " ما فيه النخيل ، و " الفردوس " : ما فيه الكرم .

فإن قيل : لم نُكِّرت " الجنَّاتُ " وعُرِّفت " الأنهار " ؟ فالجواب : أنَّ " الجنَّة " اسم لدار الثَّواب كلها ، وهي مشتملةٌ على جنّات كثيرة مُرَتبةٌ مراتبَ على استحقاقات العاملين ، لكل طبقةٍ منهم جنةٌ من تلك الجنَّات .

وأمَّا تعريف " الأنهار " ، فالمرادُ به الجنس ، كما يقال : لفلان بستانٌ فيه الماء الجاري والتين والعنب ، يشيرُ إلى الأجناس التي في علم المخاطب ، أو يشار باللام إلى أنهارٍ مذكورةٍ في قوله : { فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [ محمد : 15 ] .

قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } هذه الجملة في محلّ نصبٍ ، لأنَّها صفةٌ ل " جنَّات " .

و " تَجْري " مرفوع لتجرُّدِه من الناصب والجازم ، وعلامةُ رفعه ضمّةٌ مقدرةٌ في " الياء " استثقالاً ، وكذلك تقدَّرُ في كُلِّ فَعْلٍ مُعْتَلٍّ نحو : " يَدْعو " ، و " يَخْشَى " ، إلاَّ أنَّها تُقَدَّرُ في " الأَلِفِ " تعذُّراً .

" من تحتها " أي : من تحت أَشْجَارها ومساكنها .

وقيل : من تحتها أي : بأمرهم .

كقول فرعون : { تَجْرِي مِن تَحْتِي } [ الزخرف : 51 ] أي : بأمري .

و " الأنهارُ " جمعُ نَهَرٍ بالفتح ، وهي اللّغةُ العالية ، وفيه تسكين " الهاء " ولكن " أفعال " لا ينقاس في " فَعْل " السَّاكن العين ، بل يحفظ نحو : " أَفْراخ " ، و " أَزْنَاد " ، و " أفراد " .

و " النَّهرُ " : دونَ البحرِ ، وفوق الجدول ، وهل هو مجرى الماءِ ، أو الماء الجاري نفسُه ؟

والأوَّلُ أظهرُ ؛ لأنَّه مشتقٌّ من " نَهَرْتَُ " أي : وَسَّعْتُ .

قال قَيْسُ بن الخطِيمِ يصفُ طَعْنَةً : [ الطويل ]

مَلَكْتُ بِهَا كَفَِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[896]}

أي : وَسَّعْتُ .

ومنه : " النَّهارُ " لاتِّساع ضوئِهِ ، وإنَّما أُطْلِقَ على الماء مجازاً إطلاقاً للمحلِّ على الحالِّ .

ومنه قوله عليه السَّلامُ : " ما أَنْهَرَ الدَّمَ " {[897]} معناه : ما وَسَّعَ الذَّبْحَ ؛ حَتَّى يجري الدَّم كالنَّهْرِ ، وجمعُ النَّهْرِ : نَهَرٌ وأَنْهَارٌ ، وَنَهْرٌ نَهِرٌ : كثير الماء .

قال أبو ذُؤَيب{[898]} : [ المتقارب ]

أَقَامَتْ بِهِ وَابْتَنَتْ خَيْمَةً *** عَلَى قَصَبٍ وَفُرَاتٍ نَهِرْ{[899]}

ورُوِيَ أنَّ أنهار الجنة ليست في أخاديد ، إنَّمَا تجري على سطح الجنَّةِ منبسطة بالقدرة ، والوقفُ على " الأنهار " حَسَنٌ وليس بتامٍّ و " من تَحْتِهَا " متعلقٌ ب " تجري " ، و " تحت " مكانٌ لا يتصرَّفُ ، وهو نقيض " فوق " ، إذا أُضِيفَا أُعْرِبَا ، وإذا قَطِعَا بنيا على الضَّمِّ . و " مِنْ " لابتداء الغاية .

وقيل : زائدةٌ .

وقيل : بمعنى " في " ، وهما ضعيفان .

واعلم أنَّهُ إذا قيل بأنَّ الجَنَّة هي الأرضُ ذاتُ الشَِّجرِ ، فلا بُدَّ من حَذْفِ مضاف ، أي : من تحت عَذْقِها أو أَشْجَارها .

وإن قيل : بأنَّها الشَّجَرُ نفسه ، فلا حَاجَةَ إلى ذلك .

وإذا قيل : بأنَّ الأنهار اسمٌ للماء الجاري فَنِسْبَةُ الجَرْي إليه{[900]} حقيقة ، [ وإن قيل بأنَّهُ اسمٌ للأُخْدُودِ الذي يَجْرِي فيه ، فنسبةُ الجَري إليه ] مجازٌ ، كقول مهلهل{[901]} : [ الكامل ]

نُبِّئْتُ أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ *** وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ المَجْلِسُ{[902]}

قال أبو حيَّان{[903]} : وقد ناقض ابن عطية كلامه هنا ، فإنَّهُ قال : " والأنهارُ : المياهُ في مجاريها المتطاولةِ الواسعةِ " ثمَّ قال : نُسِبَ الجريُ إلى النَّهْرِ ، وإنَّمَا يجري الماءُ وحدَه توسُّعاً وتجوُّزاً ، كما قال : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] وكما قال : [ الكامل ]

أ - نُبِّئْتُ أنَّ النَّارَ . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[904]}

والألف واللاَّمُ في " الأنهار " للجنس .

وقيل : للعَهْدِ لذكرها في سورةِ القتالِ .

وقال الزمخشري : يجوز أن تكون عوضاً من الضَّمير كقوله :

{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } [ مريم : 4 ] أي : " أَنْهَارُهَا " بعنى أنَّ الأصلَ : واشتعل رأسي ، فَعَوَّض " أل " عن ياء المتكلم ، وهذا ليس مذهب البَصْريين ، بل قال به بعضُ الكوفيِّين ؛ وهو مردود بأنَّهُ لو كانت " أَلْ " عوضاً من الضمير ، لَمَا جُمِعَ بينهما ، وقد جُمِعَ بينهما ؛ قال النَّابغةُ : [ الطويل ]

ب - رَحِيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ *** بجَسِّ النَّدَامَى بَضَّةُ المُتَجَرَّدِ{[905]}

فقال : الجيب منها ، وأمَّا ما ورد ، وظاهره ذلك ، فيأتي تأويله في موضعه .

قوله تعالى : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ } .

تقدَّم القولُ في " كُلَّمَا " وهذا لا يخلو إمَّا أن يكون صفة ثانية ل " جنَّاتٍ تجري " ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو جملة مستأنفة ؛ لأنَّه لَمَّا قيل : " أَنَّ لهم جَنَّاتٍ " لم يَخْلُ قَلْبُ السَّامِع أنْ يقع فيه أنَّ ثمار تلك الجنَّات تُشبهُ ثِمَارَ الدُّنْيَا أم لا ؟

والعامِلُ في " كُلَّما " هاهنا " قالوا " .

و " مِنْهَا " متعلِّقٌ ب " رُزِقُوا " ، و " مِن " لابتداء الغاية ، وكذلك " من ثَمَرَةٍ " ، لأنَّها بدلٌ من قوله : " منها " بدلُ اشتمالٍ بإعادة العاملِ .

وإنَّما قلنا : إنه بدل اشتمال ؛ لأنَّهُ لا يتعلّق حرفان بمعنى واحدٍ بعاملٍ واحد ، إلاَّ على سبيل البدلية ، أو العطف .

وأجاز الزَّمخشري أنَّ " مِنْ " للبيان كقولك : " رأيتُ منك أسداً " ؛ وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ من شرط ذلك أن يَحِلَّ مَحَلَّهَا موصولٌ ، وأن يكون ما قبلها مُحَلًّى ب " أل " الجنسية ، وأيضاً فليس قبلها شيء يَتَبَيَّنُ بها ، وكونُها بياناً لما بعدها بعيدٌ جِداً ، وهو غير المصطلح .

" رِزْقاً " مفعولٌ ثانٍ ل " رُزِقُوا " ، وهو بمعنى " مَرْزُوقٍ " ، وكونُهُ مصدراً بعيدٌ ؛ لقوله : { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } ، والمصدر لا يؤتى به متشابهاً ، وإنما يؤتى بالمرزوق كذلك .

قوله : { قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } .

" قالوا " : هو العاملُ في " كلما " كما تقدَّم ، و " هَذَا الَّذِي رزِقْنَا " مبتدأ وخبر في محل نصب بالقول ، وعائِدُ الموصول محذوفٌ ؛ لاستكماله الشُّروط ، أي : رُزِقْناه .

و " مِنْ قبلُ " متعلِّقٌ به .

و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ ، ولَمَّا قطعت " قَبْلُ " بُنِيَتْ [ وإنما بنيت ]{[906]} على الضَّمَّةِ ؛ لأنها حركة لم تكنْ لها حالَ إعرابها .

واختلف في هذه الجملةِ ، فقيل : لا محلَّ لها من الإعراب ؟ لأنّها استئنافيةٌ ، فإنَّهُ قيل : لَما وصفت الجنَّاتُ ما حالها ؟

فقيل : كُلَّما رُزِقُوا قالوا .

وقيل : لَهَا محلٌّ ، ثُمَّ اختلف فيه ، فقيل : رَفْعٌ على أنَّه خبر مبتدأ محذوف ، واختلف في ذلك المبتدأ ، فقيل : ضمير " الجنَّات " ، أي : هي كُلَّما وقيل ضمير " الَّذين آمنوا " أي : هم كُلَّما رُزِقوا قالوا ذلك .

وقيل : مَحَلُّها نَصْبٌ على الحالِ ، وصاحبُها : إمَّا " الذين آمنوا " ، وإمَّا " جنات " ، وجاز ذلك ، وإن كانت نكرة ؛ لأنها تخصصت بالصفةِ ، وعلى هذين تكون حالاً مُقَدَّرة ؛ لأنَّ وقت البشارة بالجنَّاتِ لم يكونوا مرزوقين ذلك .

وقيل : مَحَلُّهَا نَصبٌ على أنَّها صفة ل " جنات " أيضاً .

فَصْلٌ في المشبه به في الآية

الآية تَدُلُّ على أنَّهُمْ شَبَّهُوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنَّة بِرِزْقهم قبل ذلك ، فالمُشَبَّهُ بِهِ أهو من أرزاق الدنيا ، أم من أرزاق الآخرة ؟ ففيه وجهان :

أحدهما : أنَّه من أَرْزَاق الدنيا ، وفيه وجهان :

أحدهما : هذا الذي وَعَدنَا به في الدُّنيا .

والثَّاني : هذا الذي رُزِقنا في الدنيا ، لأنَّ لونه يشبهُ لون ثمار الدُّنيا ، فإذا أكلوا وجدوا طَعْمَهُ غير ذلك .

الوجه الثاني : أنَّ المُشَبَّهُ به ثمار الآخرة ، واختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين :

الأول : المراد تساوي ثوابهم في كُلِّ الأوقات في القدر{[907]} والدرجة ؛ حَتَّى لا يزيدَ ولا ينقص .

الثاني : المراد المُشَابهة في المنظر ، فيكون الثاني كأنَّهُ الأوَّل على ما رُوِيَ عن الحسن ، ثُمَّ هؤلاء اختلفوا{[908]} ، فمنهم من يقول : الاشتباهُ كما يقع في المنظرِ يقع في الطَّعمِ . ومنهم من يقول : وإن حصل الاشتباه في اللَّون ، لكِنَّها تكون مختلفةً في الطَّعْم .

قال الحَسَنُ : يؤتى أَحَدُهُمْ بالصّحفة فيأكل منها ، ثُمَّ يُؤْتَى بالأخرى فيقول : هذا الذي أُتِينَا به من قَبْلُ : فيقول الملك : " كُل فاللَّونُ واحدٌ ، والطعمُ مختلفٌ " .

فإن قيل : قوله : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا } مع قوله : " قالُوا : هذا الذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ " - هذا صيغةُ عموم ، فيشمل كُلَّ الأوقاتِ التي رُزِقوا فيها ، فيدخل فيه أوّل مَرّة رُزِقوا في الجنَّة ، فلا بُدَّ وأن يقولوا : " هذا الذي رُزِقْنَا من قَبْلُ " فما الجواب على قولنا بَأَنَّ المشبَّه به ثِمَارُ الآخِرة ؟ والجواب أنَّ عمل ذلك على ما وعدوا به في الدُّنْيَا ، أو يكون تقدير الكلام : هذا الَّذِي رُزِقْنَا في الأَزَلِ .

قوله : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } الظاهِرُ أنَّها جملةٌ مستأنفة .

وقال الزمخشريُّ فيها : هو كقولك : " فلانُ أَحْسِنْ بِفُلانٍ " ونِعْمَ ما فعل ، ورأى من الرَّأي كذا ، وكان صواباً .

ومنه : { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] .

وما أشْبَه ذلك من الجُمَلِ التي تُُسَاقُ في الكلام معترضةً للتقرير ، يعني بكونها معترضة ، أي من أحوال أَهْل الجنَّةِ ، فإنَّ بَعْدَهَا : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ } ، وإذا كانت معترضةً فلا محلَّ لها . وقيل : هي عَطْفٌ على " قالوا " .

وقيل : مَحَلُّها النَّصبُ على الحالِ ، وصاحبُها فاعل " قالوا " أي : قالوا هذا الكلام في هذا الحالِ ، ولا بُدَّ من تقدير " قد " قبل الفعل ، أي : " وَقَدْ أُتُوا " ، وأَصْلُ أُتُوا : أُتِيُوا مِثْل : ضُرِبوا ، فأُعِلَّ كَنَظَائِرِهِ .

[ وقرأ هارون ]{[909]} الأعور : " وأَتوا " {[910]} مبنيّاً للفاعل ، والضَّمير للولدان والخدم للتصريح بهم في غير موضع ، والضميرُ في " به " يعود على المرزوق الذي هو الثمرات ، كما أن هذا إشارة إليه . وقال الزمخشري : " يعود إلى المرزوق في الدُّنْيَا والآخرة ؛ لأنَّ قوله : { الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } انطوى تحته ذكر ما رُزِقُوه في الدَّارَيْنِ .

ونظيرُ ذلك قوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً ، فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا }

[ النساء : 135 ] " .

أي : بجنسي الغنيِّ والفقير المدلول عليهما بقوله : { غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً } ويعني بقوله : " انطوى تحته ذِكْرُ ما رُزُقوه في الدَّارَيْنِ " أنَّهُ لَمَّا كان التقديرُ : مِثْلَ الَّذي رُزِقْناه كان قد انطوى على المرزوقين معاً ، كما أنَّ قَوْلَكَ : " زَيْدٌ مثلُ حاتمٍ " مُنْطَوٍ على زيدٍ وحاتمٍ .

قال أبو حيَّان : " وما قاله غيرُ ظاهر ؛ لأنَّ الظاهِرَ عَوْدُه على المرزوقِ في الآخرة فقط ؛ لأنَّهُ هو المُحَدّثُ عنه ، والمشبَّهُ بِالَّذِي رُزقوه من قبلُ ، لاسيما إذا فسِّرت القبلية بما في الجنَّةِ ، فَإِنَّهُ يتعيّنُ عَوْدُه على المرزوق في الجنَّةِ فقط ، وكذلك إذا أعربت الجملة حالاً ؛ إذ يصير التقديرُ : قالوا : هذا الذي رُزِقْنَا من قَبْلُ وقد أتوا به ؛ لأنه الحامل لهم على هذا القول ، كأنَّه أُتُوا به مُتَشَابِهاً وعلى تقدير أن يكون معطوفاً على قالوا ، لا يَصِحُّ عوده على المرزوق في الدَّارين ؛ لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضياً معنىً ؛ لأنَّ العامل في " كُلَّما " أو ما في حيزها يحتمل هُنا أن يكون مستقبل المَعْنَى ؛ لأنها لا تخلو من معنى الشرط ، وعلى تقدير كونها مستأنفة لا يظهر ذلك أيضاًً ، لأنَّ هذه محدَّث بها عن الجَنَّةِ وأحوالها " .

قوله : { مُتَشَابِهاً } حالٌ من الضَّمير في " به " ، أي : يشبه بعضه في المنظر ، ويختلف في الطعمِ{[911]} ، قاله ابن عبّاس ومجاهد ، والحسن وغيرهم رضي الله - تعالى - عنهم .

وقال عكرمة : " يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنيا ، ويباينه في جل الصِّفات " {[912]} .

قال ابن عبَّاس : " هذا على وَجْه التَّعَجُّبِ ، وليس في الدُّنْيَا شيءٌ مما في الجَنَّةِ سِوَى الأسماء ، فكأنَّهم تَعَجَّبُوا لِمَا رأوه من حُسْنِ الثَّمَرَةِ ، وعِظم خالقها " .

وقال قتادةُ : " خياراً لا رَذلَ{[913]} فيه{[914]} ، كقوله تعالى : { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } [ الزمر : 23 ] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه ؛ لأنَّ فيها خياراً وغير خِيَار " .

قوله : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } " لهم " خبر مُقَدَّم ، وأزواج مبتدأ ، و " فيها " متعلّق بالاستقرار الذي تعلّق به الخبر .

قال أبو البقاء : " لا يكون فيها الخبر ، لأنَّ الفائدة تقل ؛ إذ الفائدة في جَعْلِ الأَزواج لهم " .

وقوله : " مُطَهَّرةٌ " صفة ، وأتى بها مفردة على حدِّ : النساءِ طَهُرَتْ ومنه بيت الحماسة : [ الكامل ]

وَإِذَا العَذَارَى بَالدُّخَانِ تَلَفَّعَتْ *** وَاسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدُورِ فَمَلَّتِ{[915]}

وقرأ{[916]} زيد بن عليّ{[917]} : " مُطَهَّراتٌ " على حَدِّ : النساءُ طَهُرْنَ .

وقرأ{[918]} عبيد بن عمير{[919]} : " مُطَهَّرة " يعني : متطَهِّرة .

والزوج ما يكون معه آخر ، ويقالُ زوج للرَّجُل والمرأة ، وأمَّا " زَوْجَةٌ " فقليلٌ .

قال الأَصْمَعِيُّ : لا تكاد العربُ تقول : زوجة ، ونَقَلَ الفرّاءُ أنّها لغة " تميم " ، وأنشد للفرزدق : [ الطويل ]

وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي *** كَسَاعٍ إلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا{[920]}

وفي الحديث عن عمَّار بن ياسرِ{[921]} في حقِّ عائشة{[922]} رضي الله تعالى عنهما : " إنِّي لاَعْلَمْ أنَّها زَوْجَتُهُ في الدُّنيا والآخرة " " ذكره البُخَاريُّ{[923]} رضي الله عنه ، واختاره الكسائيُّ .

والزَّوجُ أيضاً : الصِّنْفُ{[924]} ، والتثنية : زوجان .

والطّهَارة : النظافة ، والفِعْلُ منها طَهَرَ بالفتح ، ويَقِلُّ الضَّمُ ، واسم الفاعل منها " طاهر " فهو مقيسٌ على الأوَّلِ ، شاذّ على الثَّاني ، ك " خاثر " و " حامِض " من خَثُرَ اللبنُ وحَمُضَ بضمِّ{[925]} العين . فإن قيل : هلاَّ قيل : طاهرة ، الجوابُ : في المُطَهَّرةِ إشعارٌ بأنَّ مُطَهِّراً طَهَّرَهُنَّ ، وليس ذلك إلاَّ الله تعالى ، وذلك يفيد فخامة أمر أهل الثواب ، كأنَّهُ قيل : إنَّ الله - تعالى - هو الَّذي زَيَّنَهُنَّ .

قال مُجَاهد : " لا يَبُلْنَ ولا يَتَغَوَّطْنَ وَلاَ يلِدْنَ وَلاَ يَحِضْنَ ، وَلاَ يَمْنِينَ وَلاَ يُبْغَضْنَ " .

وقال بعضهم : " مُطَهَّرةٌ في اللغة أجمع من طاهرة وأَبْلَغ " .

قوله : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } هم مبتدأ ، وخالدون خبره ، وفيها متعلّقٌ به .

وقال القرطبيُّ : " والظرفُ مَلْغِيٌّ ، وقُدِّم ليوافق رؤوس الآي " وأجازوا أن يكون " فيها " خبراً أول ، و " خالدون " خبر ثانٍ ، وليس هذا بِسَدِيدٍ ، وهذه الجملة والتي قبلها عطفٌ على الجملةِ قبلهما حسب ما تقدَّم .

وقال أبو البقاء : " وهاتان الجملتان مستأنفتان ، ويجوز أن تكون الثانية حالاً من الهاء والميم في " لهم " ، والعامِلُ فيها معنى الاستقرار " .

قال القرطبي{[926]} : " ويجوز في غير القرآن نصب " خالدين " على الحال " .

و " الخلود " : المكث الطويل ، وهل يُطْلَقُ على ما لا نهاية له بطريق الحقيقة أو المجاز ؟ قولان .

قالت المعتزلة{[927]} : " الخلد " {[928]} : هو الثباتُ اللاَّزم ، والبقاء الدائمُ الذي لا يقطع ، واحْتَجُّوا بالآية ، وبقوله : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [ الأنبياء : 34 ] فنفى الخلد عن البَشَرِ مع أنَّه - تعالى - أعطى بعضهم العمر الطويل ، والمنفيّ غير المثبت ، فالخلدُ هو البقاءُ الدَّائمُ ؛ وبقول امرئ القيس : [ الطويل ]

وَهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ *** قَلِيلُ الهُمُومِ ما يَبيتُ بأَوْجَالِ{[929]}

قال ابن الخطيب{[930]} : وقال أصحابنا : الخلدُ هو الثّباتُ الطويل ، سواء دام أو لم يَدُم ؛ واستدلُّوا بقوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً }

[ التوبة : 100 ] ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد ، لكان ذلك تكرُّراً ، واستدلّوا أيضاً بالعرفِ ؛ يقال : حَبَسَ فلانٌ فُلاَناً حَبْساً مُخَلَّداً ، ويكتبُ في الأوقاف : وقَفَ فلانٌ وَقْفاً مُخَلَّداً .

وقال الآخرون : " العقلُ يَدُلُّ على دوامه ؛ لأنه لو لم يجب الدوام ، لجوّزوا انقطاعه ، فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة ، لأنَّ النِّعْمَةَ كُلَّمَا كانت أعظم كان خوف انقطاعها أعظم وقعاً في القَلْبِ ، وهذا يقتضي ألا ينفك أهل الثواب [ ألبتة ]{[931]} من الغم والحسرةِ ، وقد يجابُ عنه بأنَّهم عرفوا ذلك بقرينة قوله : " أبداً " .


[877]:- في أ: عذاب.
[878]:- سقط في أ.
[879]:- سقط في أ.
[880]:- البيت لحسان بن ثابت. ينظر ديوانه: ص 134، وشرح شواهد المغني: 2/872، شرح الأشموني: 2/434، ومغني اللبيب: 2/483، الدر المصون: (1/157).
[881]:- ينظر ديوانه: 9، وخزانة الأدب: 3/448، 5/277 و 280، والدر: 5/139، وسر صناعة الإعراب: 1/257، شرح أبيات سيبويه: 1/449، وشرج شواهد المغني: 2/772، والكتاب: 2/142، ولسان العرب [عول] [هلل]، والمنصف: 3/40، وشرح الأشموني: 2/434، شرح شواهد المغني: 2/872، مغني اللبيب: 2/350، همع الهوامع: 4/77، وشرح التبريزي على المعلقات: (57)، والشنقيطي: (59)، والمقتضب: 4/74، والدر المصون: 1/157.
[882]:- أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في "الكبير" (12/358) وابن عساكر: (2/51) والحديث ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/33) وقال: فيه العباس بن عامر الضبي ولم أجد من ترجمه وبقية رجاله موثقون وأخرجه الترمذي (223) وأبو داود (1/220) وابن ماجه (781) عن بريدة الأسلمي مرفوعا بلفظ: بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وللحديث شواهد انظرها في "مجمع الزوائد" (1/3/31).
[883]:- ينظر البحر المحيط: (1/253)، الدر المصون: (1/157).
[884]:- البيت لسلمة بن يزيد الجعفي ينظر الدرر: 4/182، سمط اللآلي: ص 708، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي: ص 1081، المقاصد النحوية: 3/273، وليلى بنت سلمى في حماسة البحتري: ص 374، 374، همع الهوامع: 2/35، والدر المصون: 1/157.
[885]:- ينظر الكتاب: 2/107، 227.
[886]:- انظر السبعة: 205، والدر المصون: 1/157.
[887]:- البيت للحطيئة. ينظر ديوانه: (86)، الكشاف: 4/547، الدر المصون: 1/158.
[888]:- في أ: قتادة.
[889]:- ينظر الفخر الرازي: 2/117.
[890]:- سقط في أ.
[891]:- في أ: خبرها.
[892]:- البيت للفرزدق ينظر ديوانه: 1/84، والكتاب: 3/29، وشرح أبيات سيبويه 2/103، ولسان العرب (حنطب)، وتخليص الشواهد: ص 511، والدرر: 5/183، وسمط اللآلي: ص 572، وشرح شواهد المغني: ص 885، والإنصاف: ص 395، والمقاصد النحوية: 2/556، وبلا نسبة في شرح الأشموني: 1/197، ومغني اللبيب: ص 526، وهمع الهوامع: 2/81.
[893]:- تقدم برقم (159).
[894]:- البيت للفرزدق ينظر ديوانه: 1/420، وتخليص الشواهد: ص 504، وخزانة الأدب: 9/113، 115، والدرر: 4/191، وشرح التصريح: 1/312، وشرح شواهد المغني: 1/12، والمقاصد النحوية: 2/542، وأوضح المسالك: 2/178، وشرح الأشموني: 1/196، وشرح ابن عقيل: ص 374، ومغني اللبيب: 1/61، 2/643، وهمع الهوامع: 2/36، 81، والدر المصون: 1/158.
[895]:- عجز بيت وصدره: وكريمة من آل قيس ألفته *** ................ ينظر الهمع: (2/36)، الدر المصون: (4/192)، شرح الأشموني: (2/300)، شرح ابن عقيل: ص (375)، لسان العرب (ألف)، المقاصد النحوية: 3/341، الدر المصون: (1/158).
[896]:- تقدم برقم (49).
[897]:- أخرجه البخاري (5/155 - 156) "كتاب الشركة" باب قسمة الغنائم (2488، 2507، 3075، 5498، 5503، 5506، 5509، 5543، 5544) ومسلم (3/1559) (22/1968) وأبو داود (2821) والترمذي (1/281) وابن ماجه (3178، 3183) والنسائي (2/206 - 207) وأحمد (4/140) وابن الجارود (895) والبيهقي (9/246، 247، 281). ومن حديث مري بن قطري عن عدي بن حاتم بلفظ: أنهر الدم بما شئت واذكر اسم الله عز وجل. أخرجه أبو داود (2824) والنسائي (2/206) وابن ماجه (3177) والحاكم (4/240) وقال: صحيح على شرط مسلم.
[898]:- خويلد بن خالد بن محرث أبو ذؤيب، من بني هذيل بن مدركة من مضر: شاعر فحل مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وسكن المدينة، واشترك في الغزو والفتوح، وعاش إلى أيام عثمان، قال البغدادي: هو أشعر هذيل من غير مدافعة، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة وفاته فأدركه وهو مسجى وشهد دفنه. ينظر الأعلام: 2/325 (3974)، الأغاني: 6/56، الشعر والشعراء: 252، خزانة البغدادي: 1/203.
[899]:- ينظر ديوان الهذليين: 1/146.
[900]:- سقط في أ.
[901]:-عدي بن ربيعة بن مرة بن هبيرة، من بني جشم، من تغلب، أبو ليلى، المهلهل شاعر من أبطال العرب في الجاهلية من أهل نجد وهو خال امرئ القيس الشاعر قيل لقب مهلهلا لأنه أول من هلهل نسج الشعر أي رققه وكان من أصبح الناس وجها ومن أفصحهم لسانا عكف في صباه على اللهو والتشبيب بالنساء، فسماه أخوه كليب زير النساء أي جليسهن، ولما قتل جساس بن مرة كليبا ثار المهلهل فانقطع عن الشراب واللهو وآلى أن يثأر لأخيه فكانت وقائع بكر وتغلب التي دامت أبعين سنة وكانت للمهلهل فيها العجائب والأخبار الكثيرة أما شعره فعالي الطبقة. ينظر الأعلام: 4/220 (1487)، الشعر والشعراء: 99، جمهرة أشعار العرب: 115.
[902]:- ينظر أمالي القالي: (1/95)، مجالس ثعلب: (1/37)، القرطبي: (1/239)، الدر المصون: (1/159).
[903]:- ينظر البحر المحيط: 1/256.
[904]:- تقدم قريبا.
[905]:- البيت لطرفة في معلقته، وليس للنابغة كما قال المؤلف. ينظر ديوانه: ص 130، خزانة الأدب: 4/303، 8/228، والمحتسب: 1/183، وشرح التصريح: 2/83.
[906]:- سقط في ب.
[907]:- في أ: الوقت.
[908]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (1/389) عن الحسن قال: "وأتوا به متشابها" قال: يشبه بعضه بعضا، ليس فيه من رذل.
[909]:- في ب: وقرأها.
[910]:- بها قرأ هارون الأعور والعتكي. انظر البحر المحيط: 1/258، والدر المصون: 1/160.
[911]:- هذه الآثار أخرجها الطبري في "تفسيره" (1/389 - 390 - 391 - 392). وذكرها الطبري في الدر المنثور (1/83) وعزاها لوكيع وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد ولعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن.
[912]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (1/391).
[913]:- في أ: بذل.
[914]:- أخرجه الطبري: (1/390) عن قتادة.
[915]:- البيت لسلمى بن ربيعة. ينظر خزانة الأدب: 8/26، 44، والدرر: 1/184، وشرح ديوان الحماسة: ص 55، وشرح المفصل: 5/105، ونوادر أبي زيد: ص 121، ولعلباء بن أرقم في الأصمعيات: ص 162، وشرح اختيارات المفضل: ص 816، وهمع الهوامع: 1/60، والدر المصون: 1/161.
[916]:- قرأ بها زيد بن علي. انظر تفسير الرازي: 2/121، والبحر المحيط: 1/260، والدر المصون: 1/161.
[917]:- زيد بن علي بن أحمد بن محمد بن عمران بن أبي بلال أبو القاسم العجلي الكوفي شيخ العراق إمام حاذق ثقة توفي زيد ببغداد سنة ثمان وخمسين وثلاثة مائة. ينظر الغاية: 1/298 (1308).
[918]:- انظر البحر المحيط: 1/260، والرازي: 2/121.
[919]:- عبيد بن عمير بن قتادة أبو عاصم الليثي المكي القاضي ذكر ثابت البناني أنه قص على عهد عمر رضي الله عنه، وردت عنه الرواية في حروف القرآن روى عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب روى عنه مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار، قال مسلم ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، قال مجاهد كنا نفخر على الناس بأربعة بفقيهنا وبقارئنا وبقاضينا ومؤذننا بفقيهنا ابن عباس، وقارئنا عبد الله بن السائب وقاضينا عبيد بن عمير، ومؤذننا أبو محذورة. مات سنة أربع وسبعين. ينظر الغاية: 1/496، 497 (2064).
[920]:- ينظر ديوانه: (138)، الأضداد: (327)، الدر المصون: (1/161).
[921]:- عمار بن ياسر بن عامر بن الحصين بن قيس بن ثعلبة بن عوف بن يام بن عنس العنسي أبو اليقظان مولى بني مخزوم، صحابي جليل شهد بدرا والمشاهد، وكان أحد السابقين الأولين، له اثنان وستون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاث ومسلم بحديث. وعنه ابنه محمد وابن عباس وأبو وائل، قال علي: استأذن عمار فقال النبي صلى الله عليه وسلم مرحبا بالطيب المطيب. قتل بصفين مع علي رضي الله عنه. ينظر الخلاصة: 2/261، طبقات ابن سعد: 3/1/176، تاريخ بغداد: 1/150، دول الإسلام: 1/28، سير أعلام النبلاء: 1/406.
[922]:- عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما التيمية أم المؤمنين، حبيبة النبي صلى الله عليه وسلم، لها ألفان ومائتان وعشرة أحاديث وعنها مسروق والأسود وابن المسيب وعروة والقاسم وخلق. قال عليه السلام "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" وقال عروة: ما رأيت أعلم بالشعر من عائشة، وقال القاسم: كانت تصوم الدهر، وقال هشام بن عروة: توفيت سنة سبع وخمسين ودفنت بالبقيع. ينظر ترجمتها في تهذيب التهذيب: (12/433 رقم 2841)، التقريب: 2/606، أسماء الصحابة الرواة: ت/4. الثقات: 3/323، أسد الغابة: 7/188، أعلام النساء: 3/9، تنوير قلوب المسلمين: 94، 116، السمط الثمين: 33، الدر المنثور: 28، الاستيعاب: 4/1881. الإصابة: 4/348، 8/16. تجريد أسماء الصحابة: 2/286.
[923]:- محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله: حبر الإسلام والحافظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، صاحب "الجامع الصحيح" و"التاريخ" و"الضعفاء" و"خلق أفعال العباد" و"الأدب المفرد"، ولد في بخارى 194هـ، ونشأ يتيما، وقام برحلة طويلة (سنة 210) في طلب الحديث، فزار خراسان والعراق ومصر والشام، وسمع من نحو ألف شيخ، وجمع نحو ست مئة ألف حديث، اختار منها في صحيحه ما وثق بروايته. توفي سنة 256هـ. ينظر الأعلام: 6/34، تذكرة الحفاظ: 2/122، تهذيب التهذيب: 9/47، دائرة المعارف الإسلامية: 3/419، طبقات الحنابلة: 1/271.
[924]:- في أ: الصفة.
[925]:- في أ: بفتح.
[926]:- ينظر القرطبي: 1/167.
[927]:- ينظر الفخر الرازي: 2/121.
[928]:- في أ: الخلود.
[929]:- ينظر ديوانه: (27)، الكتاب: (2/227)، المحتسب: 2/130، أمالي ابن الشجري: 1/274، الدرر: 2/107، الدر المصون: 1/162.
[930]:- ينظر الفخر الرازي: 2/121.
[931]:- سقط في ب.