اعلَمْ : أنَّه - سبحانه وتعالى - لمَّا تكلَّم في التوحيد والنُّبوَّة ، تكلَّم بعدهما في ذكر المَعَاد ، وبيَّن عقاب{[877]} الكافر ، وثواب المُطيعِ ، ومن عادة الله - تعالَى - أنه إذا ذَكَرَ الوَعِيدَ ، أَنْ يعقبَهُ بذكْرِ الوَعْد .
الأوَّلُ : هذه الآياتُ صريحةٌ في أنَّ الجنَّة والنَّار مخلوقَتَانِ ، لأنه - تعالى - [ قال ]{[878]} في صفَة النَّار : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ، وقال في صفَة الجَنَّة في آية أخْرَى : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] ، وقال هاهنا : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } وهذا إخبار عن وُقُوع هذا المُلْك وحُصُوله ، وحُصُول المُلْك في الحالِ يقْتَضي حصُولَ المَمْلُوك في الحالِ ؛ فَدَلَّ على أنَّ الجنَّة والنَّار مخْلُوقَتَانِ .
الثاني : مَجَامِعُ اللَّذَّاتِ : إما المَسْكن ، أو المَطْعم ، أو المَنْكَح .
فوَصَفَ تعالى المَسْكَن بقولِهِ : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } والمَطْعَمَ بقوله : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً } والمَنْكَح بقوله : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } .
ثم هذه الأشياءُ إنُ حصَلَتْ ، وقارنَهَا خوْفُ الزوالِ ، كان النَّعِيمُ مُنَغَّصاً ، فبيَّن - تعالى - زوالَ هذا الخَوْف بقوله : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ؛ فدَلَّت الآيةُ على كَمَال النَّعيم والسُّرور .
الثالثُ : قولُهُ : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ } هذه الجملةُ معْطُوفة على ما قَبْلها ، عَطَف جُمْلَةَ ثوابِ المُؤْمنين ، على جملة ثَوَاب الكافرين ، وجاز ذلك ؛ لأنَّ مذْهب سِيبَويهِ - وهو الصَّحيحُ - : أنَّه لا يشترطُ في عَطْفِ الجُمَلِ التَّوافُقُ معْنًى ، بل تُعْطَف الطلبيَّة على الخَبَرية ؛ وبالعكس ؛ [ بدليل ]{[879]} قوله : [ الطويل ]
تُنَاغِي غَزَالاً عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ *** وَكَحِّلْ أَمَاقِيكَ الحِسَانَ بِإِثْمِدِ{[880]}
وقولِ امْرِئ القَيْسِ : [ الطويل ]
وإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ *** وَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ{[881]}
وقال ابنُ الخَطِيبِ : ليس الَّذي اعتمد بالعَطْف هو الأَمْر ، حتى يطلب له مشاكل من أمر ونهي يعطف عليه ، إنما المعتمد بالعطف هو جملة ثواب المؤمنين ؛ فهي معطوفة على جملة وَصْف عقاب الكافرين كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والضرب وَبَشِّرْ عمرر بالعفو والإطلاق .
وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون عطفاً على " فاتَّقوا " ليعطف أمراً على أمر ، وهذا قد رده أبو حيان بأن " فاتقوا " جواب الشرط ، فالمعطوف يكون جواباً ؛ لأن حكمَه حكمُه ، ولكن لا يصح ؛ لأن تبشيره للمؤمنين لا يترتب على قوله : " فإن لم تفعلوا " .
وقرئ : " وبُشَِّرَ " [ ماضياً ] مبنيًّا للمفعول .
وقال الزمخشري : " وهو عَطْف على أعدت " .
قيل : وهذا لا يتأتى على إعراب " أعدت " حالاً ؛ لأنها لا تصلح للحالية .
وقيل : عطفها على " أعدت " فاسد ؛ لأن " أعدت " صلة " التي " ، والمعطوف على الصلة صلة ، ولا يصلح أن يقال : " الباء " التي بشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنَّ لهم جنَّاتٍ ، إلاَّ أن يعتقد أن قوله : " أُعِدَّتْ " مستأنفٌ ، والظاهِرُ أنَّهُ من تمام الصلة ، وأنَّهُ حالٌ من الضمير في " وقودها " ، والمأمور بالبشارة يجوز أن يكون الرسولُ عليه السَّلامُ ، وأن يكون كُلُّ سَامِعٍ ، كما قال عليه السلام :
" بَشِّر المَشَّائِينَ إلَى المَسَاجِدِ في الظُّلَمِ بِالنُّورِ التَّامِّ يوم القِيَامَةِ " {[882]} ، لم يأمر بذلك أحداً بعينه ، وإنَّما كل أحدٍ مأمور به .
و " البِشارةُ " : أوّل خبرٍ من خيرٍ أو شَرٍّ ؛ قالوا : لأنَّ أثرها يظهرُ في البَشَرَةِ ، وهي ظاهرُ جِلْدِ الإنْسَانِ ؛ وأنْشَدُوا : [ الوافر ]
يُبَشِّرُنِي الغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي *** فَقُلْتُ لَهُ : ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ{[883]}
وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي *** جَفَوْني وأَنَّ الوُدَّ مَوْعِدُهُ الحَشْرُ{[884]}
وهذا رأى سيبويه{[885]} ، إلاَّ أنَّ الأكثر استعمالُهَا في الخير ، وإن اسْتُعْمِلَتْ في الشَّرِّ فَبِقَيْدٍ ؛ كقوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } [ آل عمران : 21 ] ، وإن أُطْلِقَتْ ، كان للخَيْر .
وقال البغويُّ : " البِشَارَةُ كل خبر صدقٍ " .
وقال ابن الخطيب : إنَّها الخبرُ الذي يُظهِرُ السرور ، ولهذا قال الفقهاءُ : إذا قال لعبيده : أيُّكم يُبَشِّرُنِي بقدوم فلان فهو حُرٌّ ، فَبَشَّروه فُرَادَى ، عَتقَ أولهم ؛ لأنَّهُ هو الذي أفاد خبره السرور . ولو قال مكان " بَشَّرَني " : أَخْبَرَنِي عَتَقُوا جميعاً ؟ لأنَّهم جميعاً أخبروه ، وظاهِرُ كلام الزمخشري أنَّها تختص بالخير ؛ لأنَّهُ تَأَوَّلَ " فبشِّرهم بعذابٍ " على العكس في الكلامِ الذي يقصد به الزيادة في غيظ المُسْتَهْزَأ بَهِ وتَأَلُّمِهِ ، كما يقول الرَّجُلُ لِعَدوِّه : أَبْشِرْ بقتل ذريتك ونَهْبِ مالك .
والفِعْلُ منها بَشَرَ وبَشَّرَ مخففاً ومثقلاً ، فالتثقيل للتكثير بالنسبة إلى البشيرة .
وقد قرئ{[886]} المضارعُ مخففاً ومشدّداً .
وأمَّا الماضي فلم يقرأ به إلاَّ مثقلاً نحو { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [ هود : 71 ] وفيه لغةٌ أخرى : أَبْشَرَ مِثل أَكْرَمَ .
وأنكر أبو حَاتِمٍ التخفيف ، وليس بصواب لمجيء مضارعه .
وبمعنى البِشارة : البُشُور والتَّبْشِير والإِبْشَار ، وإن اختلفت أفعالُها ، والبِشَارةُ أيضاً : الجَمَالُ ، والبشيرُ : الجميلُ ، وتَبَاشيرُ الفَجْرِ أَوائِلُهُ .
وكون صلة " الَّذين " فعلاً ماضياً دون كونه اسم فاعل ، دليلٌ على أنه يستحقُّ التبشير بفضل الله ممن وقع منه الإيمانُ ، وتحقَّقَ به وبالأعمال الصالحة .
و " الصَّالِحَاتُ " : جمع " صالحة " ، وهي من الصفات التي جَرَتْ مجرى الأسماءِ في إيلائها العوامل ؛ قال : [ البسيط ]
كَيْفَ الهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ *** مِنْ آلِ لأْمٍ بِظَهْرِ الغَيْبِ تَأْتِيني{[887]}
وعلامةُ نصبه الكَسْرةُ ؛ لأنَّهُ من باب جمع المؤنث السالم نيابة عن الفتحةِ ، التي هي أصلُ النَّصْبِ .
قال معاذ{[888]} : " العملُ الصالِحُ الذي فيه أربعة أشياء : العِلْمُ والنِّيَّهُ والصَّبْرُ والإخْلاصُ " .
وقال عثمان بن عَفَّان : " أخلصوا الأعمال " .
قال ابن الخطيب{[889]} : هذه الآية تدلّ على أنَّ الأعمالَ غير داخلةٍ في الإيمان ؛ [ لأنَّهُ لمَّا ذكر الإيمان ]{[890]} ، ثمَّ عطف عليه العمل الصالح ، فوجب التغير وإلا لزم التكرار ، وهو خلاف الأصل .
قوله : { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } .
" جنَّاتٍ " : اسم : " أنَّ " . و " لهم " خَبَرٌ مُقَدَّمٌ . ولا يجوز تقديم خبر " أنَّ " وأخواتها إلاَّ ظرفاً أو حرف جرٍّ ، و " أنَّ " وما في حيِّزها{[891]} في محل جرٍّ عند الخليل والكسائي ، ونصب عند سيبويه والفرَّاء ؛ لأنَّ الأصل : وبَشِّرِ الذين آمنوا بأنَّ لهم ، فحذف حرف الجرِّ مع " أنَّ " ، وهو حذفٌ مُطَّرِدٌ معها ، ومع " أنَّ " الناصبة للمضارع ، بشرط أَمْنِ اللَّبْسِ ، بسبب طولهما بالصلةِ ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجرَِّ ، جرى الخلافُ المذكورُ ، فالخليلُ والكسائيُّ يقولان : " كأنَّ الحرف موجود ، فالجرُّ بَاقٍ " .
واستدلَّ الأخفشُ لهما بقول الشَّاعر : [ الطويل ]
وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً *** إِلَيَّ وَلاَ دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهْ{[892]}
فَعَطْفُ " دَيْنٍ " بالجرِّ على محلِّ " أنْ تَكُونَ " يُبِّينُ كونَها مجرورةً .
قيل : " ويحتملُ أن يكون من باب عطفِ التَّوَهُّمِ ، فلا دليلَ فيه " .
والفرَّاءُ وسيبويه يقُولاَن : وجَدْنَاهُمْ إذا حذفوا حرفَ الجرِّ ، نَصَبُوا ؛ كقولِهِ : [ الوافر ]
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا *** كَلاَمُكُمْ عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ{[893]}
أي : بالدِّيار ، ولا يجوزُ الجَرُّ إلاَّ في نادرِ شِعرٍ ؛ كقوله : [ الطويل ]
إِذَا قِيلَ : أيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ ؟ *** أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ{[894]}
أي : إلى كُلَيْبٍ ؛ وقول الآخر : [ الكامل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** حَتَّى تَبَذَّخَ فَارْتَقَى الأَعْلاَمِ{[895]}
و " الجَنَّةُ " : البُسْتَانُ .
وقيل : الأرضُ ذات الشَّجرِ ، سُمّيت بذلك لسترها من فيها ، ومنه " الجَنِينُ " لاستتاره ، و " المِجَنُّ " : التُّرْس ، وكذلك " الجُنَّة " لأنَّه يسترُ صَاحِبَهُ ، و " الجِنَّةُ " لاستتارهم عن أَعْيُنِ النَّاسِ .
قال الفرَّاءُ : " الجنَّةُ " ما فيه النخيل ، و " الفردوس " : ما فيه الكرم .
فإن قيل : لم نُكِّرت " الجنَّاتُ " وعُرِّفت " الأنهار " ؟ فالجواب : أنَّ " الجنَّة " اسم لدار الثَّواب كلها ، وهي مشتملةٌ على جنّات كثيرة مُرَتبةٌ مراتبَ على استحقاقات العاملين ، لكل طبقةٍ منهم جنةٌ من تلك الجنَّات .
وأمَّا تعريف " الأنهار " ، فالمرادُ به الجنس ، كما يقال : لفلان بستانٌ فيه الماء الجاري والتين والعنب ، يشيرُ إلى الأجناس التي في علم المخاطب ، أو يشار باللام إلى أنهارٍ مذكورةٍ في قوله : { فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [ محمد : 15 ] .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } هذه الجملة في محلّ نصبٍ ، لأنَّها صفةٌ ل " جنَّات " .
و " تَجْري " مرفوع لتجرُّدِه من الناصب والجازم ، وعلامةُ رفعه ضمّةٌ مقدرةٌ في " الياء " استثقالاً ، وكذلك تقدَّرُ في كُلِّ فَعْلٍ مُعْتَلٍّ نحو : " يَدْعو " ، و " يَخْشَى " ، إلاَّ أنَّها تُقَدَّرُ في " الأَلِفِ " تعذُّراً .
" من تحتها " أي : من تحت أَشْجَارها ومساكنها .
كقول فرعون : { تَجْرِي مِن تَحْتِي } [ الزخرف : 51 ] أي : بأمري .
و " الأنهارُ " جمعُ نَهَرٍ بالفتح ، وهي اللّغةُ العالية ، وفيه تسكين " الهاء " ولكن " أفعال " لا ينقاس في " فَعْل " السَّاكن العين ، بل يحفظ نحو : " أَفْراخ " ، و " أَزْنَاد " ، و " أفراد " .
و " النَّهرُ " : دونَ البحرِ ، وفوق الجدول ، وهل هو مجرى الماءِ ، أو الماء الجاري نفسُه ؟
والأوَّلُ أظهرُ ؛ لأنَّه مشتقٌّ من " نَهَرْتَُ " أي : وَسَّعْتُ .
قال قَيْسُ بن الخطِيمِ يصفُ طَعْنَةً : [ الطويل ]
مَلَكْتُ بِهَا كَفَِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[896]}
ومنه : " النَّهارُ " لاتِّساع ضوئِهِ ، وإنَّما أُطْلِقَ على الماء مجازاً إطلاقاً للمحلِّ على الحالِّ .
ومنه قوله عليه السَّلامُ : " ما أَنْهَرَ الدَّمَ " {[897]} معناه : ما وَسَّعَ الذَّبْحَ ؛ حَتَّى يجري الدَّم كالنَّهْرِ ، وجمعُ النَّهْرِ : نَهَرٌ وأَنْهَارٌ ، وَنَهْرٌ نَهِرٌ : كثير الماء .
قال أبو ذُؤَيب{[898]} : [ المتقارب ]
أَقَامَتْ بِهِ وَابْتَنَتْ خَيْمَةً *** عَلَى قَصَبٍ وَفُرَاتٍ نَهِرْ{[899]}
ورُوِيَ أنَّ أنهار الجنة ليست في أخاديد ، إنَّمَا تجري على سطح الجنَّةِ منبسطة بالقدرة ، والوقفُ على " الأنهار " حَسَنٌ وليس بتامٍّ و " من تَحْتِهَا " متعلقٌ ب " تجري " ، و " تحت " مكانٌ لا يتصرَّفُ ، وهو نقيض " فوق " ، إذا أُضِيفَا أُعْرِبَا ، وإذا قَطِعَا بنيا على الضَّمِّ . و " مِنْ " لابتداء الغاية .
وقيل : بمعنى " في " ، وهما ضعيفان .
واعلم أنَّهُ إذا قيل بأنَّ الجَنَّة هي الأرضُ ذاتُ الشَِّجرِ ، فلا بُدَّ من حَذْفِ مضاف ، أي : من تحت عَذْقِها أو أَشْجَارها .
وإن قيل : بأنَّها الشَّجَرُ نفسه ، فلا حَاجَةَ إلى ذلك .
وإذا قيل : بأنَّ الأنهار اسمٌ للماء الجاري فَنِسْبَةُ الجَرْي إليه{[900]} حقيقة ، [ وإن قيل بأنَّهُ اسمٌ للأُخْدُودِ الذي يَجْرِي فيه ، فنسبةُ الجَري إليه ] مجازٌ ، كقول مهلهل{[901]} : [ الكامل ]
نُبِّئْتُ أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ *** وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ المَجْلِسُ{[902]}
قال أبو حيَّان{[903]} : وقد ناقض ابن عطية كلامه هنا ، فإنَّهُ قال : " والأنهارُ : المياهُ في مجاريها المتطاولةِ الواسعةِ " ثمَّ قال : نُسِبَ الجريُ إلى النَّهْرِ ، وإنَّمَا يجري الماءُ وحدَه توسُّعاً وتجوُّزاً ، كما قال : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] وكما قال : [ الكامل ]
أ - نُبِّئْتُ أنَّ النَّارَ . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[904]}
والألف واللاَّمُ في " الأنهار " للجنس .
وقيل : للعَهْدِ لذكرها في سورةِ القتالِ .
وقال الزمخشري : يجوز أن تكون عوضاً من الضَّمير كقوله :
{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } [ مريم : 4 ] أي : " أَنْهَارُهَا " بعنى أنَّ الأصلَ : واشتعل رأسي ، فَعَوَّض " أل " عن ياء المتكلم ، وهذا ليس مذهب البَصْريين ، بل قال به بعضُ الكوفيِّين ؛ وهو مردود بأنَّهُ لو كانت " أَلْ " عوضاً من الضمير ، لَمَا جُمِعَ بينهما ، وقد جُمِعَ بينهما ؛ قال النَّابغةُ : [ الطويل ]
ب - رَحِيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ *** بجَسِّ النَّدَامَى بَضَّةُ المُتَجَرَّدِ{[905]}
فقال : الجيب منها ، وأمَّا ما ورد ، وظاهره ذلك ، فيأتي تأويله في موضعه .
قوله تعالى : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ } .
تقدَّم القولُ في " كُلَّمَا " وهذا لا يخلو إمَّا أن يكون صفة ثانية ل " جنَّاتٍ تجري " ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو جملة مستأنفة ؛ لأنَّه لَمَّا قيل : " أَنَّ لهم جَنَّاتٍ " لم يَخْلُ قَلْبُ السَّامِع أنْ يقع فيه أنَّ ثمار تلك الجنَّات تُشبهُ ثِمَارَ الدُّنْيَا أم لا ؟
والعامِلُ في " كُلَّما " هاهنا " قالوا " .
و " مِنْهَا " متعلِّقٌ ب " رُزِقُوا " ، و " مِن " لابتداء الغاية ، وكذلك " من ثَمَرَةٍ " ، لأنَّها بدلٌ من قوله : " منها " بدلُ اشتمالٍ بإعادة العاملِ .
وإنَّما قلنا : إنه بدل اشتمال ؛ لأنَّهُ لا يتعلّق حرفان بمعنى واحدٍ بعاملٍ واحد ، إلاَّ على سبيل البدلية ، أو العطف .
وأجاز الزَّمخشري أنَّ " مِنْ " للبيان كقولك : " رأيتُ منك أسداً " ؛ وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ من شرط ذلك أن يَحِلَّ مَحَلَّهَا موصولٌ ، وأن يكون ما قبلها مُحَلًّى ب " أل " الجنسية ، وأيضاً فليس قبلها شيء يَتَبَيَّنُ بها ، وكونُها بياناً لما بعدها بعيدٌ جِداً ، وهو غير المصطلح .
" رِزْقاً " مفعولٌ ثانٍ ل " رُزِقُوا " ، وهو بمعنى " مَرْزُوقٍ " ، وكونُهُ مصدراً بعيدٌ ؛ لقوله : { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } ، والمصدر لا يؤتى به متشابهاً ، وإنما يؤتى بالمرزوق كذلك .
قوله : { قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } .
" قالوا " : هو العاملُ في " كلما " كما تقدَّم ، و " هَذَا الَّذِي رزِقْنَا " مبتدأ وخبر في محل نصب بالقول ، وعائِدُ الموصول محذوفٌ ؛ لاستكماله الشُّروط ، أي : رُزِقْناه .
و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ ، ولَمَّا قطعت " قَبْلُ " بُنِيَتْ [ وإنما بنيت ]{[906]} على الضَّمَّةِ ؛ لأنها حركة لم تكنْ لها حالَ إعرابها .
واختلف في هذه الجملةِ ، فقيل : لا محلَّ لها من الإعراب ؟ لأنّها استئنافيةٌ ، فإنَّهُ قيل : لَما وصفت الجنَّاتُ ما حالها ؟
فقيل : كُلَّما رُزِقُوا قالوا .
وقيل : لَهَا محلٌّ ، ثُمَّ اختلف فيه ، فقيل : رَفْعٌ على أنَّه خبر مبتدأ محذوف ، واختلف في ذلك المبتدأ ، فقيل : ضمير " الجنَّات " ، أي : هي كُلَّما وقيل ضمير " الَّذين آمنوا " أي : هم كُلَّما رُزِقوا قالوا ذلك .
وقيل : مَحَلُّها نَصْبٌ على الحالِ ، وصاحبُها : إمَّا " الذين آمنوا " ، وإمَّا " جنات " ، وجاز ذلك ، وإن كانت نكرة ؛ لأنها تخصصت بالصفةِ ، وعلى هذين تكون حالاً مُقَدَّرة ؛ لأنَّ وقت البشارة بالجنَّاتِ لم يكونوا مرزوقين ذلك .
وقيل : مَحَلُّهَا نَصبٌ على أنَّها صفة ل " جنات " أيضاً .
الآية تَدُلُّ على أنَّهُمْ شَبَّهُوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنَّة بِرِزْقهم قبل ذلك ، فالمُشَبَّهُ بِهِ أهو من أرزاق الدنيا ، أم من أرزاق الآخرة ؟ ففيه وجهان :
أحدهما : أنَّه من أَرْزَاق الدنيا ، وفيه وجهان :
أحدهما : هذا الذي وَعَدنَا به في الدُّنيا .
والثَّاني : هذا الذي رُزِقنا في الدنيا ، لأنَّ لونه يشبهُ لون ثمار الدُّنيا ، فإذا أكلوا وجدوا طَعْمَهُ غير ذلك .
الوجه الثاني : أنَّ المُشَبَّهُ به ثمار الآخرة ، واختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين :
الأول : المراد تساوي ثوابهم في كُلِّ الأوقات في القدر{[907]} والدرجة ؛ حَتَّى لا يزيدَ ولا ينقص .
الثاني : المراد المُشَابهة في المنظر ، فيكون الثاني كأنَّهُ الأوَّل على ما رُوِيَ عن الحسن ، ثُمَّ هؤلاء اختلفوا{[908]} ، فمنهم من يقول : الاشتباهُ كما يقع في المنظرِ يقع في الطَّعمِ . ومنهم من يقول : وإن حصل الاشتباه في اللَّون ، لكِنَّها تكون مختلفةً في الطَّعْم .
قال الحَسَنُ : يؤتى أَحَدُهُمْ بالصّحفة فيأكل منها ، ثُمَّ يُؤْتَى بالأخرى فيقول : هذا الذي أُتِينَا به من قَبْلُ : فيقول الملك : " كُل فاللَّونُ واحدٌ ، والطعمُ مختلفٌ " .
فإن قيل : قوله : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا } مع قوله : " قالُوا : هذا الذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ " - هذا صيغةُ عموم ، فيشمل كُلَّ الأوقاتِ التي رُزِقوا فيها ، فيدخل فيه أوّل مَرّة رُزِقوا في الجنَّة ، فلا بُدَّ وأن يقولوا : " هذا الذي رُزِقْنَا من قَبْلُ " فما الجواب على قولنا بَأَنَّ المشبَّه به ثِمَارُ الآخِرة ؟ والجواب أنَّ عمل ذلك على ما وعدوا به في الدُّنْيَا ، أو يكون تقدير الكلام : هذا الَّذِي رُزِقْنَا في الأَزَلِ .
قوله : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } الظاهِرُ أنَّها جملةٌ مستأنفة .
وقال الزمخشريُّ فيها : هو كقولك : " فلانُ أَحْسِنْ بِفُلانٍ " ونِعْمَ ما فعل ، ورأى من الرَّأي كذا ، وكان صواباً .
ومنه : { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] .
وما أشْبَه ذلك من الجُمَلِ التي تُُسَاقُ في الكلام معترضةً للتقرير ، يعني بكونها معترضة ، أي من أحوال أَهْل الجنَّةِ ، فإنَّ بَعْدَهَا : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ } ، وإذا كانت معترضةً فلا محلَّ لها . وقيل : هي عَطْفٌ على " قالوا " .
وقيل : مَحَلُّها النَّصبُ على الحالِ ، وصاحبُها فاعل " قالوا " أي : قالوا هذا الكلام في هذا الحالِ ، ولا بُدَّ من تقدير " قد " قبل الفعل ، أي : " وَقَدْ أُتُوا " ، وأَصْلُ أُتُوا : أُتِيُوا مِثْل : ضُرِبوا ، فأُعِلَّ كَنَظَائِرِهِ .
[ وقرأ هارون ]{[909]} الأعور : " وأَتوا " {[910]} مبنيّاً للفاعل ، والضَّمير للولدان والخدم للتصريح بهم في غير موضع ، والضميرُ في " به " يعود على المرزوق الذي هو الثمرات ، كما أن هذا إشارة إليه . وقال الزمخشري : " يعود إلى المرزوق في الدُّنْيَا والآخرة ؛ لأنَّ قوله : { الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } انطوى تحته ذكر ما رُزِقُوه في الدَّارَيْنِ .
ونظيرُ ذلك قوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً ، فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا }
أي : بجنسي الغنيِّ والفقير المدلول عليهما بقوله : { غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً } ويعني بقوله : " انطوى تحته ذِكْرُ ما رُزُقوه في الدَّارَيْنِ " أنَّهُ لَمَّا كان التقديرُ : مِثْلَ الَّذي رُزِقْناه كان قد انطوى على المرزوقين معاً ، كما أنَّ قَوْلَكَ : " زَيْدٌ مثلُ حاتمٍ " مُنْطَوٍ على زيدٍ وحاتمٍ .
قال أبو حيَّان : " وما قاله غيرُ ظاهر ؛ لأنَّ الظاهِرَ عَوْدُه على المرزوقِ في الآخرة فقط ؛ لأنَّهُ هو المُحَدّثُ عنه ، والمشبَّهُ بِالَّذِي رُزقوه من قبلُ ، لاسيما إذا فسِّرت القبلية بما في الجنَّةِ ، فَإِنَّهُ يتعيّنُ عَوْدُه على المرزوق في الجنَّةِ فقط ، وكذلك إذا أعربت الجملة حالاً ؛ إذ يصير التقديرُ : قالوا : هذا الذي رُزِقْنَا من قَبْلُ وقد أتوا به ؛ لأنه الحامل لهم على هذا القول ، كأنَّه أُتُوا به مُتَشَابِهاً وعلى تقدير أن يكون معطوفاً على قالوا ، لا يَصِحُّ عوده على المرزوق في الدَّارين ؛ لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضياً معنىً ؛ لأنَّ العامل في " كُلَّما " أو ما في حيزها يحتمل هُنا أن يكون مستقبل المَعْنَى ؛ لأنها لا تخلو من معنى الشرط ، وعلى تقدير كونها مستأنفة لا يظهر ذلك أيضاًً ، لأنَّ هذه محدَّث بها عن الجَنَّةِ وأحوالها " .
قوله : { مُتَشَابِهاً } حالٌ من الضَّمير في " به " ، أي : يشبه بعضه في المنظر ، ويختلف في الطعمِ{[911]} ، قاله ابن عبّاس ومجاهد ، والحسن وغيرهم رضي الله - تعالى - عنهم .
وقال عكرمة : " يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنيا ، ويباينه في جل الصِّفات " {[912]} .
قال ابن عبَّاس : " هذا على وَجْه التَّعَجُّبِ ، وليس في الدُّنْيَا شيءٌ مما في الجَنَّةِ سِوَى الأسماء ، فكأنَّهم تَعَجَّبُوا لِمَا رأوه من حُسْنِ الثَّمَرَةِ ، وعِظم خالقها " .
وقال قتادةُ : " خياراً لا رَذلَ{[913]} فيه{[914]} ، كقوله تعالى : { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } [ الزمر : 23 ] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه ؛ لأنَّ فيها خياراً وغير خِيَار " .
قوله : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } " لهم " خبر مُقَدَّم ، وأزواج مبتدأ ، و " فيها " متعلّق بالاستقرار الذي تعلّق به الخبر .
قال أبو البقاء : " لا يكون فيها الخبر ، لأنَّ الفائدة تقل ؛ إذ الفائدة في جَعْلِ الأَزواج لهم " .
وقوله : " مُطَهَّرةٌ " صفة ، وأتى بها مفردة على حدِّ : النساءِ طَهُرَتْ ومنه بيت الحماسة : [ الكامل ]
وَإِذَا العَذَارَى بَالدُّخَانِ تَلَفَّعَتْ *** وَاسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدُورِ فَمَلَّتِ{[915]}
وقرأ{[916]} زيد بن عليّ{[917]} : " مُطَهَّراتٌ " على حَدِّ : النساءُ طَهُرْنَ .
وقرأ{[918]} عبيد بن عمير{[919]} : " مُطَهَّرة " يعني : متطَهِّرة .
والزوج ما يكون معه آخر ، ويقالُ زوج للرَّجُل والمرأة ، وأمَّا " زَوْجَةٌ " فقليلٌ .
قال الأَصْمَعِيُّ : لا تكاد العربُ تقول : زوجة ، ونَقَلَ الفرّاءُ أنّها لغة " تميم " ، وأنشد للفرزدق : [ الطويل ]
وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي *** كَسَاعٍ إلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا{[920]}
وفي الحديث عن عمَّار بن ياسرِ{[921]} في حقِّ عائشة{[922]} رضي الله تعالى عنهما : " إنِّي لاَعْلَمْ أنَّها زَوْجَتُهُ في الدُّنيا والآخرة " " ذكره البُخَاريُّ{[923]} رضي الله عنه ، واختاره الكسائيُّ .
والزَّوجُ أيضاً : الصِّنْفُ{[924]} ، والتثنية : زوجان .
والطّهَارة : النظافة ، والفِعْلُ منها طَهَرَ بالفتح ، ويَقِلُّ الضَّمُ ، واسم الفاعل منها " طاهر " فهو مقيسٌ على الأوَّلِ ، شاذّ على الثَّاني ، ك " خاثر " و " حامِض " من خَثُرَ اللبنُ وحَمُضَ بضمِّ{[925]} العين . فإن قيل : هلاَّ قيل : طاهرة ، الجوابُ : في المُطَهَّرةِ إشعارٌ بأنَّ مُطَهِّراً طَهَّرَهُنَّ ، وليس ذلك إلاَّ الله تعالى ، وذلك يفيد فخامة أمر أهل الثواب ، كأنَّهُ قيل : إنَّ الله - تعالى - هو الَّذي زَيَّنَهُنَّ .
قال مُجَاهد : " لا يَبُلْنَ ولا يَتَغَوَّطْنَ وَلاَ يلِدْنَ وَلاَ يَحِضْنَ ، وَلاَ يَمْنِينَ وَلاَ يُبْغَضْنَ " .
وقال بعضهم : " مُطَهَّرةٌ في اللغة أجمع من طاهرة وأَبْلَغ " .
قوله : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } هم مبتدأ ، وخالدون خبره ، وفيها متعلّقٌ به .
وقال القرطبيُّ : " والظرفُ مَلْغِيٌّ ، وقُدِّم ليوافق رؤوس الآي " وأجازوا أن يكون " فيها " خبراً أول ، و " خالدون " خبر ثانٍ ، وليس هذا بِسَدِيدٍ ، وهذه الجملة والتي قبلها عطفٌ على الجملةِ قبلهما حسب ما تقدَّم .
وقال أبو البقاء : " وهاتان الجملتان مستأنفتان ، ويجوز أن تكون الثانية حالاً من الهاء والميم في " لهم " ، والعامِلُ فيها معنى الاستقرار " .
قال القرطبي{[926]} : " ويجوز في غير القرآن نصب " خالدين " على الحال " .
و " الخلود " : المكث الطويل ، وهل يُطْلَقُ على ما لا نهاية له بطريق الحقيقة أو المجاز ؟ قولان .
قالت المعتزلة{[927]} : " الخلد " {[928]} : هو الثباتُ اللاَّزم ، والبقاء الدائمُ الذي لا يقطع ، واحْتَجُّوا بالآية ، وبقوله : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [ الأنبياء : 34 ] فنفى الخلد عن البَشَرِ مع أنَّه - تعالى - أعطى بعضهم العمر الطويل ، والمنفيّ غير المثبت ، فالخلدُ هو البقاءُ الدَّائمُ ؛ وبقول امرئ القيس : [ الطويل ]
وَهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ *** قَلِيلُ الهُمُومِ ما يَبيتُ بأَوْجَالِ{[929]}
قال ابن الخطيب{[930]} : وقال أصحابنا : الخلدُ هو الثّباتُ الطويل ، سواء دام أو لم يَدُم ؛ واستدلُّوا بقوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً }
[ التوبة : 100 ] ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد ، لكان ذلك تكرُّراً ، واستدلّوا أيضاً بالعرفِ ؛ يقال : حَبَسَ فلانٌ فُلاَناً حَبْساً مُخَلَّداً ، ويكتبُ في الأوقاف : وقَفَ فلانٌ وَقْفاً مُخَلَّداً .
وقال الآخرون : " العقلُ يَدُلُّ على دوامه ؛ لأنه لو لم يجب الدوام ، لجوّزوا انقطاعه ، فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة ، لأنَّ النِّعْمَةَ كُلَّمَا كانت أعظم كان خوف انقطاعها أعظم وقعاً في القَلْبِ ، وهذا يقتضي ألا ينفك أهل الثواب [ ألبتة ]{[931]} من الغم والحسرةِ ، وقد يجابُ عنه بأنَّهم عرفوا ذلك بقرينة قوله : " أبداً " .