مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (25)

{ وَبَشّرِ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } والمأمور بقوله «وبشر » الرسول عليه السلام أو كل أحد ، وهذا أحسن لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به . وهو معطوف على «فاتقوا » كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم . أو جملة وصف ثواب المؤمنين معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كقولك «زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمراً بالعفو والإطلاق » . والبشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ومن ثم قال العلماء : إذا قال لعبيده : أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر . فبشروه فرادى عتق أولهم لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين . ولو قال : «أخبرني » مكان «بشرني » عتقوا جميعاً ، لأنهم أخبروه ، ومنه البشرة لظاهر الجلد ، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه . وأما { فبشرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به كما يقول الرجل لعدوه أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك . والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم . والصالحات كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة واللام للجنس . والآية حجة على من جعل الأعمال إيماناً لأنه عطف الأعمال الصالحة على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه . ولا يقال إنكم تقولون يجوز أن يدخل المؤمن الجنة بدون الأعمال الصالحة والله تعالى بشر بالجنة لمن آمن وعمل صالحاً ، لأن البشارة المطلقة بالجنة شرطها اقتران الأعمال الصالحة بالإيمان ، ولا نجعل لصاحب الكبيرة البشارة المطلقة بل نثبت بشارة مقيدة بمشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة . { أَنَّ لَهُمْ جنات } أي بأن لهم جنات . وموضع «أن » وما عملت فيه النصب ب «بشِّر » عند سيبويه خلافاً للخليل وهو كثير في التنزيل . والجنة البستان من النخل والشجر المتكاثف ، والتركيب دائر على معنى الستر ومنه الجن والجنون والجنين والجنة والجان والجنان ، وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان . والجنة مخلوقة لقوله تعالى : { اسكن أَنتَ وزَوْجُكَ الجنة } [ البقرة : 35 ] خلافاً لبعض المعتزلة . ومعنى جمع الجنة وتنكيرها أن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب بحسب أعمال العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان . { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } الجملة في موضع النصب صفة لجنات ، والمراد من تحت أشجارها كما ترى الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار الجارية . وأنهار الجنة تجري في غير أخدود . وأنزه البساتين ما كانت أشجارها مظلة والأنهار في خلالها مطردة والجري الأطراد . والنهر المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر يقال للنيل : نهر مصر ، واللغة الغالة نهر ومدار التركيب على السعة ، وإسناد الجري إلى الأنهار مجازي .

وإنما عرف الأنهار لأنه يحتمل أن يراد بها أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] ، أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله تعالى : { فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءَاسِنٍ } [ محمد : 15 ] ، الآية والماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى ولذا قرن الله تعالى الجنات بذكر الأنهار الجارية وقدمه على سائر نعوتها .

{ كُلَّمَا رُزِقُواْ } صفة ثانية ل «جنات » أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس فقيل : إن ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا أي أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله . { مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي } أي «كلما رزقوا » من الجنات ، من أي ثمرة كانت من تفاحها أو رمانها أو غير ذلك ، «رزقاً » قالوا ذلك . ف «من » الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدىء من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدىء من ثمرة ، ونظيره أن تقول : رزقني فلان فيقال لك : من أين ؟ فتقول : من بستانه . فيقال : من أي ثمرة رزقك من بستانه ؟ فتقول : من الرمان . وليس المراد من الثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة وإنما المراد نوع من أنواع الثمار . { رُزِقْنَا } أي رزقناه فحذف العائد { مِن قَبْلُ } أي من قبل هذا ، فلما قطع عن الإضافة بنى ، والمعنى هذا مثل الذي رزقنا من قبل وشبهه بدليل قوله { وَأُتُواْ بِهِ متشابها } وهذا كقولك «أبو يوسف أبو حنيفة » تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته . والضمير في «به » يرجع إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً لأن قوله «هذا الذي رزقنا من قبل » انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين ، وإنما كان ثمار الجنة مثل ثمار الدنيا ولم تكن أجناساً أخر ، لأن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل ، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه ، ولأنه إذا شاهد ما سلف له به عهد ورأى فيه مزية ظاهرة وتفاوتاً بيناً كان استعجابه به أكثر واستغرابه أوفر . وتكريرهم هذا القول عند كل ثمرة يرزقونها دليل على تناهي الأمر وتمادي الحال في ظهور المزية ، وعلى أن ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملي تعجبهم في كل أوان أو إلى الرزق كما أن هذا إشارة إليه ، والمعنى أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه كما يحكى عن الحسن : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل فيقول الملك : كل ، فاللون واحد والطعم مختلف . وعنه عليه السلام :

" والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدلها الله مكانها مثلها فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك " وقوله : «وأتوا به متشابهاً » جملة معترضة للتقرير كقولك «فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل » ورأى من الرأي كذا وكان صواباً ، ومنه { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] . { وَلَهُمْ فِيهَا أزواج } «أزواج » مبتدأ و«لهم » الخبر و«فيها » ظرف للإستقرار . { مُّطَهَّرَةٌ } من مساوي الأخلاق ، لا طمحات ولا مرحات ، أو مما يختص بالنساء بالحيض والاستحاضة وما لا يختص بهن من البول والغائط وسائر الأقذار والأدناس . ولم تجمع الصفة كالموصوف لأنهما لغتان فصيحتان ، ولم يقل طاهرة لأن { مُّطَهَّرَةٌ } أبلغ لأنها تكون للتكثير ، وفيها إشعار بأن مطهّراً طهرهن وما ذلك إلا الله عز وجل . { وَهُمْ فِيهَا خالدون } الخلد والخلود البقاء الدائم الذي لا ينقطع ، وفيه بطلان قول الجهمية فإنهم يقولون بفناء الجنة وأهلها لأنه تعالى وصف بأنه الأول الآخر ، وتحقيق وصف الأولية بسبقه على الخلق أجمع فيجب تحقيق وصف الآخرية بالتأخر عن سائر المخلوقات ، وذا إنما يتحقق بعد فناء الكل فوجب القول به ضرورة ، ولأنه تعالى باقٍ وأوصافه باقية فلو كانت الجنة باقية مع أهلها لوقع التشابه بين الخالق والمخلوق وذا محال . قلنا : الأول في حقه هو الذي لا ابتداء لوجوده ، والآخر هو الذي لا انتهاء له ، وفي حقنا الأول هو الفرد السابق والآخر هو الفرد اللاحق ، واتصافه بهما لبيان صفة الكمال ونفي النقيصة والزوال ، وذا في تنزيهه عن احتمال الحدوث والفناء لا فيما قالوه ، وأنى يقع التشابه في البقاء وهو تعالى باقٍ لذاته وبقاؤه واجب الوجود وبقاء الخلق به وهو جائز الوجود .

لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب به مثلاً ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا كلام الله فنزل .