من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب ، ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط ، لاكتساب ما يزلف ، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف . فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب ، قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي ، وحموها من الإحباط بالكفر والكبائر بالثواب .
فإن قلت : من المأمور بقوله تعالى : { وَبَشِّرِ } ؟ قلت : يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون كل أحد . كما قال عليه الصلاة والسلام : " بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة " لم يأمر بذلك واحداً بعينه . وإنما كل أحد مأمور به ، وهذا الوجه أحسن وأجزل ؛ لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به .
فإن قلت : علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه ؟ قلت : ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه ؛ إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين ، فهي معطوفة على جمة وصف عقاب الكافرين ، كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والإرهاق ، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق . ولك أن تقول : هو معطوف على قوله : ( فاتقوا ) كما تقول : يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم ، وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم . وفي قراءة زيد بن عليّ رضي الله عنه : { وَبَشِّرِ } على لفظ المبنيّ للمفعول عطفاً على ( أعدت ) . والبشارة : الإخبار مما يظهر سرور المخبر به . ومن ثم قال العلماء : إذا قال لعبيده : أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حرّ ، فبشروه فرادى ، عتق أوّلهم ، لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين . ولو قال مكان «بشرني » أخبرني «عتقوا جميعاً ، لأنهم جميعاً أخبروه . ومنه : البشرة لظاهر الجلد . وتباشير الصبح : ما ظهر من أوائل ضوئه . وأما { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به وتألمه واغتمامه ، كما يقول الرجل لعدوّه : أبشر بقتل ذرّيتك ونهب مالك . ومنه قوله :
والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم . قال الحطيئة :
كيْفَ الهجاءُ وما تَنْفَكُّ صَالِحَة *** مِنْ آل لأْمٍ بظهْرِ الغَيْبِ تَأْتِينِي
والصالحات : كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة ، واللام للجنس .
فإن قلت : أي فرق بين لام الجنس داخلة على المفرد ، وبينها داخلة على المجموع ؟ قلت : إذا دخلت على المفرد كان صالحاً لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به ، وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه . وإذا دخلت على المجموع ، صلح أن يراد به جميع الجنس ، وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه ؛ لأن وزانه في تناول الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناول الجنسية ، والجمعية في جمل الجنس لا في وحدانه .
فإن قلت : فما المراد بهذا المجموع مع اللام ؟ قلت : الجملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف .
والجنة : البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه . قال زهير :
أي نخلاً طوالاً . والتركيب دائر على معنى الستر ، وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرّة ، من مصدر جنه إذا ستره ، كأنها سترة واحدة لفرط التفافها . وسميت دار الثواب «جنة » لما فيها من الجنان .
فإن قلت : الجنة مخلوقة أم لا ؟ قلت : قد اختلف في ذلك . والذي يقول إنها مخلوقة يستدل بسكنى آدم وحواء الجنة وبمجيئها في القرآن على نهج الأسماء الغالبة اللاحقة بالأعلام ، كالنبي والرسول والكتاب ونحوها .
فإن قلت : ما معنى جمع الجنة وتنكيرها ؟ قلت : الجنة اسم لدار الثواب كلها ، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين ، لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان ،
فإن قلت : أما يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل الصالح أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر ؛ وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية ؟ فهلا شرط ذلك ؟ قلت : لما جعل الثواب مستحقاً بالإيمان والعمل الصالح ، والبشارة مختصة بمن يتولاهما ، وركز في العقول أن الإحسان إنما يستحق فاعله عليه المثوبة والثناء ، إذا لم يتعقبه بما يفسده ويذهب بحسنه ، وأنه لا يبقى مع وجود مفسده إحساناً ، واعلم بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الناس عليه وأعزهم : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ، وقال تعالى للمؤمنين : { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أعمالكم } [ الحجرات : 2 ] كان اشتراط حفظهما من الإحباط والندم كالداخل تحت الذكر .
فإن قلت : كيف صورة جري الأنهار من تحتها ؟ قلت : كما ترى الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار الجارية . وعن مسروق : أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود . وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظللة ، والأنهار في خلالها مطردة . ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى ، وأن الجنان والرياض وإن كانت آنق شيء وأحسنه لا تروق النواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية والنشاط حتى يجري فيها الماء ، وإلا كان الأنس الأعظم فائتاً ، والسرور الأوفر مفقوداً ، وكانت كتماثيل لا أرواح فيها ، وصور لا حياة لها ، لما جاء الله تعالى بذكر الجنات مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية من تحتها مسوقين على قرن واحد كالشيئين لا بد لأحدهما من صاحبه ، ولما قدّمه على سائر نعوتها . والنهر : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر . يقال لبردى : نهر دمشق ، وللنيل : نهر مصر . واللغة العالية «النهر » بفتح الهاء . ومدار التركيب على السعة ، وإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد المجازي كقولهم : بنو فلان يطؤهم الطريق ، وصيد عليه يومان .
فإن قلت : لم نكرت الجنات وعرّفت الأنهار . قلت : أما تنكير الجنات فقد ذكر . وأما تعريف الأنهار فأن يراد الجنس ، كما تقول : لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفواكه ، تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب . أو يراد أنهارها ، فعوّض التعريف باللام من تعريف الإضافة كقوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] . أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله : { فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } [ محمد : 15 ] الآية .
وقوله : { كُلَّمَا رُزِقُواْ } لا يخلو من أن يكون صفة ثانية لجنات ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو جملة مستأنفة ؛ لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا ، أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس ؟ فقيل إنّ ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا ، أي أجناسها أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله .
فإن قلت : ما موقع من { مِن ثَمَرَةٍ } ؟ قلت : هو كقولك : كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئاً حمدتك . فموقع { مِن ثَمَرَةٍ } موقع قولك من الرمان ، كأنه قيل : كلما رزقوا من الجنات من أي ثمرة كانت من تفاحها أو رمّانها أو عنبها أو غير ذلك رزقاً قالوا ذلك . فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأنّ الرزق قد ابتدىء من الجنات ، والرزق من الجنات قد ابتدىء من ثمرة . وتنزيله تنزيل أن تقول : رزقني فلان ، فيقال لك : من أين ؟ فتقول : من بستانه ، فيقال : من أي ثمرة رزقك من بستانه ؟ فتقول : من رمّان . وتحريره أن «رزقوا » جعل مطلقاً مبتدأ من ضمير الجنات ، ثم جعل مقيداً بالابتداء من ضمير الجنات ، مبتدأ من ثمرة ، وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة على هذا التفسير ، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار . ووجه آخر : وهو أن يكون { مِن ثَمَرَةٍ } بياناً على منهاج قولك : رأيت منك أسداً . تريد أنت أسد . وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار ، والجنات الواحدة .
فإن قلت : كيف قيل : { هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا ؟ قلت : معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل . وشبهه بدليل قوله وأتوا به متشابهاً ، وهذا كقولك : أبو يوسف أبو حنيفة ، تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته .
فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : { وَأُتُواْ بِهِ } ؟ قلت : إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً ؛ لأنّ قوله : { هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين . ونظيره قوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] أي بجنسي الغني والفقير لدلالة قوله : غنياً أو فقيراً على الجنسين . ولو رجع الضمير إلى المتكلم به لقيل أولى به على التوحيد .
فإن قلت : لأي غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة ، وما بال ثمر الجنة لم يكن أجناساً أخر ؟ قلت : لأنّ الإنسان بالمألوف آنس ، وإلى المعهود أميل ، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه ، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدّم معه ألف ، ورأى فيه مزية ظاهرة ، وفضيلة بينة ، وتفاوتاً بينه وبين ما عهد بليغاً ، أفرط ابتهاجه واغتباطه ، وطال استعجابه واستغرابه ، وتبين كنه النعمة فيه ، وتحقق مقدار الغبطة به . ولو كان جنساً لم يعهده وإن كان فائقاً ، حسب أنّ ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك ، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين . فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم ، وأن الكبرى لا تفضل عن حدّ البطيخة الصغيرة ، ثم يبصرون رمّانة الجنة تشبع السكن . والنبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة ، ثم يرون نبق الجنة كقلال هجر ، كما رأوا ظل الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده ، ثم يرون الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه ، كان ذلك أبين للفضل ، وأظهر للمزية ، وأجلب للسرور ، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما . وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها ، دليل على تناهي الأمر وتمادي الحال في ظهور المزية وتمام الفضيلة ، وعلى أنّ ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملي تعجبهم ، ويستدعي تبجحهم في كل أوان . عن مسروق : «نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها ، وثمرها أمثال القلال ، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى ، وأنهارها تجري في غير أخدود ، والعنقود أثنا عشر ذراعاً » . ويجوز أن يرجع الضمير في ( أتوا به ) إلى الرزق ، كما أن هذا إشارة إليه ، ويكون المعنى : أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه ، كما يحكى عن الحسن : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل ، فيقول الملك : كل ، فاللون واحد والطعم مختلف . وعنه صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدّل الله مكانها مثلها " فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك . والتفسير الأوّل هو هو .
فإن قلت : كيف موقع قوله : { وَأُتُواْ بِهِ متشابها } من نظم الكلام ؟ قلت : هو كقولك : فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل . ورأى من الرأي كذا وكان صواباً . ومنه قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير .
والمراد بتطهير الأزواج : أن طهرن مما يختص بالنساء من الحيض والاستحاضة ، وما لا يختص بهنّ من الأقذار والأدناس . ويجوز لمجيئه مطلقاً : أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع وطبع الأخلاق الذي عليه نساء الدنيا ، مما يكتسبن بأنفسهنّ ، ومما يأخذنه من أعراق السوء والمناصب الرديئة والمناشىء المفسدة ، ومن سائر عيوبهنّ ومثالهنّ وخبثهنّ وكيدهنّ .
فإن قلت : فهلاّ جاءت الصفة مجموعة كما في الموصوف ؟ قلت : هما لغتان فصيحتان . يقال : النساء فعلن ، وهنّ فاعلات وفواعل ، والنساء فعلت ، وهي فاعلة . ومنه بيت الحماسة :
وإذَا العَذَارَى بالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ *** واسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدُورِ فملَّتِ
والمعنى وجماعة أزواج مطهرة . وقرأ زيد بن علي «مطهرات » وقرأ عبيد بن عمير : { مُّطَهَّرةٌ } ، بمعنى متطهرة . وفي كلام بعض العرب : ما أحوجني إلى بيت الله . فأطهر به أطهرة . أي فأتطهر به تطهرة .
فإن قلت : هلا قيل طاهرة ؟ قلت : في { مُّطَهَّرةٌ } فخامة لصفتهنّ ليست في طاهرة ، وهي الإشعار بأن مطهراً طهرهنّ . وليس ذلك إلا الله عزّ وجلّ المريد بعباده الصالحين أن يخوّلهم كلّ مزية فيما أعدّ لهم .
والخلد : الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع . قال الله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] . وقال امرؤ القيس :
ألاَ أنْعَمْ صَبَاحاً أيُّها الطَّلَلُ البَالِي *** وهَلْ يَنْعَمَنْ مَنْ كانَ في العُصُرِ الخَالي
وهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعيدٌ مُخَلّدٌ *** قَلِيلُ الهُمُومِ مَا يَبِيتُ بأوْجَالِ .