البشارة : أول خبر يرد على الإنسان من خير كان أو شر ، وأكثر استعماله في الخبر ، وظاهر كلام الزمخشري .
أنه لا يكون إلا في الخير ، ولذلك قال : تأول { فبشرهم بعذاب أليم } وهو محجوج بالنقل .
قيل عن سيبويه : هو خبر يؤثر في البشرة من حزن أو سرور .
قال بعضهم : ولذا يقيد في الحزن ، والبشارة : الجمال ، والبشير : الجميل ، قاله ابن دريد ، وتباشير الفجر : أوائله .
وفي الفعل لغتان : التشديد ، وهي اللغة العليا ، والتخفيف : وهي لغة أهل تهامة .
وقد قرئ باللغتين في المضارع في مواضع من القرآن ، ستأتي إن شاء الله .
الجنة : البستان الذي سترت أشجاره أرضه ، وكل شيء ستر شيئاً فقد أجنه ، ومن ذلك الجنة والجنة والجن والمجن والجنين .
المفضل الجنة : كل بستان فيه ظل ، وقيل : كل أرض كان فيها شجر ونخل فهي جنة ، فإن كان فيها كرم فهي : فردوس .
تحت : ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير من ، نص على ذلك أبو الحسن .
قال العرب : تقول تحتك رجلاك ، لا يختلفون في نصب التحت .
النهر : دون البحر وفوق الجدول ، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع قولان ، وفيه لغتان : فتح الهاء ، وهي اللغة العالية ، والسكون ، وعلى الفتح جاء الجمع أنهاراً قياساً مطرداً إذ أفعال في فعل الاسم الصحيح العين لا يطرد ، وإن كان قد جاءت منه ألفاظ كثيرة ، وسمي نهراً لاتساعه ، وأنهر : وسع ، والنهار لاتساع ضوئه .
التشابه : تفاعل من الشبه والشبه المثل .
وتفاعل تأتي لستة معان : الاشتراك في الفاعلية من حيث اللفظ ، وفيها وفي المفعولية من حيث المعنى ، والإبهام ، والرَّوم ، ومطاوعة فاعل الموافق أفعل ، ولموافقة المجرد وللإغناء عنه .
الزوج : الواحد الذي يكون معه آخر ، واثنان : زوجان .
ويقال للرجل : زوج ، ولامرأته أيضاً زوج وزوجة أقل .
وذكر الفراء أن زوجاً المراد به المؤنث فيه لغتان : زوج لغة أهل الحجاز ، وزوجة لغة تميم وكثير من قيس وأهل نجد ، وكل شيء قرن بصاحبه فهو زوج له ، والزوج : الصنف ومنه : زوج بهيج ، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً .
الطهارة : النظافة ، والفعل طهر بفتح الهاء وهو الأفصح ، وطهر بالضم ، واسم الفاعل منهما طاهر .
فعلى الفتح قياس وعلى الضم شاذ نحو : حمض فهو حامض ، وخثر فهو خاثر .
الخلود : المكث في الحياة أو الملك أو المكان مدّة طويلة لا انتهاء لها وهل يطلق على المدّة الطويلة التي لها انتهاء بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز قولان ، وقال زهير :
فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت *** ولكن حمد الناس ليس بمخلد
ويقال : خلد بالمكان أقام به ، وأخلد إلى كذا ، سكن إليه ، والمخلد : الذي لم يشب ، ولهذا المعنى ، أعني من السكون والاطمئنان ، سمي هذا الحيوان اللطيف الذي يكون في الأرض خلداً .
وظاهره هذه الاستعمالات وغيرها يدل على أن الخلد هو المكث الطويل ، ولا يدل على المكث الذي لا نهاية له إلا بقرينة .
واختار الزمخشري فيه : أنه البقاء اللازم الذي لا ينقطع ، تقوية لمذهبه الاعتزالي في أن من دخل النار لم يخرج منها بل يبقى فيها أبداً .
والأحاديث الصحيحة المستفيضة دلت على خروج ناس من المؤمنين الذين دخلوا النار بالشفاعة من النار ، ومناسبة قوله تعالى : وبشر لما قبله ظاهره ، وذلك أنه لما ذكر ما تضمن ذكر الكفار وما تؤول إليه حالهم في الآخرة ، وكان ذلك من أبلغ التخويف والإنذار ، أعقب ما تضمن ذكر مقابليهم وأحوالهم وما أعد الله لهم في الآخرة من النعيم السرمدي .
وهكذا جرت العادة في القرآن غالباً متى جرى ذكر الكفار وما لهم أعقب بالمؤمنين وما لهم وبالعكس ، لتكون الموعظة جامعة بين الوعيد والوعد واللطف والعنف ، لأن من الناس من لا يجذبه التخويف ويجذبه اللطف ، ومنهم من هو بالعكس .
والمأمور بالتبشير قيل : النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : كل من يصلح للبشارة من غير تعيين .
قال الزمخشري : وهذا أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به ، انتهى كلامه .
والوجه الأول عندي أولى ، لأن أمره صلى الله عليه وسلم لخصوصيته بالبشارة أفخم وأجزل ، وكأنه ما اتكل على أن يبشر المؤمنين كل سامع ، بل نص على أعظمهم وأصدقهم ليكون ذلك أوثق عندهم وأقطع في الإخبار بهذه البشارة العظيمة ، إذ تبشيره صلى الله عليه وسلم تبشير من الله تعالى .
والجملة من قوله : وبشر معطوفة على ما قبلها ، وليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب مشاكل من أمر أو نهي بعطف عليه ، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين ، فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين ، كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والإزهاق ، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق ، قال هذا الزمخشري وتبعه أبو البقاء فقال : الواو في وبشر عطف بها جملة ثواب المؤمنين على جملة عقاب الكافرين ، انتهى كلامه .
وتلخص من هذا أن عطف الجمل بعضها على بعض ليس من شرطه أن تتفق معاني الجمل ، فعلى هذا يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة غير الخبرية ، وهذه المسألة فيها اختلاف .
ذهب جماعة من النحويين إلى اشتراط اتفاق المعاني ، والصحيح أن ذلك ليس بشرط ، وهو مذهب سيبويه .
فعلى مذهب سيبويه يتمشى إعراب الزمخشري وأبي البقاء .
وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون قوله : وبشر معطوفاً على قوله : فاتقوا النار ، ليكون عطف أمر على أمر .
قال الزمخشري : كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم ، وبشر يا فلان بني أسد بإحسان إليهم ، وهذا الذي ذهبا إليه خطأ لأن قوله : فاتقوا جواب للشرط وموضعه جزم ، والمعطوف على الجواب جواب ، ولا يمكن في قوله : وبشر أن يكون جواباً لأنه أمر بالبشارة ومطلقاً ، لا على تقدير إن لم تفعلوا ، بل أمر أن يبشر الذين آمنوا أمراً ليس مترتباً على شيء قبله ، وليس قوله : وبشر على إعرابه مثل ما مثل به من قوله : يا بني تميم إلخ ، لأن قوله : احذروا لا موضع له من الإعراب ، بخلاف قوله : فاتقوا .
فلذلك أمكن فيما مثل به العطف ولم يمكن في وبشر .
وقرأ زيد بن علي : وبشر فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول .
قال الزمخشري : عطفاً على أعدت انتهى .
وهذا الإعراب لا يتأتى على قول من جعل أعدت جملة في موضع الحال ، لأن المعطوف على الحال حال ، ولا يتأتى أن يكون وبشر في موضع الحال ، فالأصح أن تكون جملة معطوفة على ما قبلها ، وإن لم تتفق معاني الجمل ، كما ذهب إليه سيبويه وهو الصحيح ، وقد استدل لذلك بقول الشاعر :
تناغى غزالاً عند باب ابن عامر *** وكحل مآقيك الحسان بإثمد
وإن شفائي عبرة إن سفحتها *** وهل عند رسم دارس من معوّل
وأجاز سيبويه : جاءني زيد ، ومن أخوك العاقلان ، على أن يكون العاقلان خبر ابتداء مضر .
وقد تقدم لنا أن الزمخشري يخص البشارة بالخبر الذي يظهر سرور المخبر به .
وقال ابن عطية : الأغلب استعماله في الخير ، وقد يستعمل في الشر مقيداً به منصوصاً على الشر للمبشر به ، كما قال تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } ومتى أطلق لفظ البشارة فإنما يحمل على الخير ، انتهى كلامه .
وتقدم لنا ما يخالف قوليهما من قول سيبويه وغيره ، وأن البشارة أول خبر يرد على الإنسان من خير كان أو شر ، قالوا : وسمي بذلك لتأثيره في البشرة ، فإن كان خيراً أثر المسرة والانبساط ، وإن كان شراً أثر القبض والانكماش .
قال تعالى : { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان } وقال تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } وجعل الزمخشري هذا العكس في الكلام الذي يقصد به استهزاء الزائد في غيظه المستهزأ به وتألمه .
وقيل : معناه ضع هذا موضع البشارة منهم ، قالوا : والصحيح أن كل خبر غير البشرة خيراً كان أو شراً بشارة ، قال الشاعر :
يبشرني الغراب ببين أهل *** فقلت له ثكلتك من بشير
وبشرتني يا سعد أن أحبتي *** جفوني وأن الود موعده الحشر
والتضعيف في بشر من التضعيف الدال على التكثير فيما قال بعضهم ، ولا يتأتى التكثير في بشر إلا بالنسبة إلى المفاعيل ، لأن البشارة أول خبر يسر أو يحزن على المختار ، ولا يتأتى التكثير فيه بالنسبة إلى المفعول الواحد ، فبالنسبة إليه يكون فعل فيه مغنياً عن فعل ، لأن الذي ينطق به مشدداً غير العرب الذين ينطقون به مخففاً ، كما بينا قبل .
وكون مفعول بشر موصولاً بجملة فعلية ماضية ولم يكن اسم فاعل ، دلالة على أن مستحق التبشير بفضل الله من وقع منه الإيمان وتحقق به وبالأعمال الصالحة .
والصالحات : جمع صالحة ، وهي صفة جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل ، قال الحُطيئة :
كيف الهجاء وما ينفك صالحة *** من آل لام بظهر الغيب تأتيني
فعلى هذا انتصابها على أنها مفعول بها ، والألف واللام في الصالحات للجنس لا للعموم ، لأنه لا يكاد يمكن أن يعمل المؤمن جميع الصالحات ، لكن يعمل جملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف .
والفرق بين لام الجنس إذا دخلت على المفرد ، وبينها إذا دخلت على الجمع ، أنها في المفرد يحتمل أن يراد بها واحد من الجنس ، وفي الجمع لا يحتمله .
قال عثمان بن عفان : الصالح ما أخلص لله تعالى ، وقال معاذ بن جبل : ما احتوى على أربعة : العلم والنية والصبر والإخلاص ، وقال سهل بن عبد الله : ما وافق الكتاب والسنة ، وقال علي بن أبي طالب : الصلوات في أوقاتها وتعديل أركانها وهيآتها ، وقيل : الأمانة ، وقيل : التوبة والاختيار ، قول الجمهور : وهو كل عمل صالح أريد به الله .
قال ابن عطية : وفي قوله تعالى : { وعملوا الصالحات } ردّ على من يقول : إن لفظة الإيمان بمجردها تقتضي الطاعات ، لأنه لو كان ذلك ما أعادها ، انتهى كلامه .
وفي ذلك أيضاً دليل على أن الذين أمر الله بأن يبشروا هم من جمعوا بين الإيمان والأعمال الصالحات ، وأن من اقتصر على الإيمان فقط دون الأعمال الصالحات لا يكون مبشراً .
من هذه الآية : وبشر يتعدى لمفعولين : أحدهما بنفسه ، والآخر بإسقاط حرف الجر .
فقوله : { أن لهم جنات } هو في موضع هذا المفعول ، وجاز حذف حرف الجر مع أن قياساً مطرداً ، واختلفوا بعد حذف الحرف ، هل موضع أن ومعموليها جر أم نصب ؟ فمذهب الخليل والكسائي : أن موضعه جر ، ومذهب سيبويه والفراء : أن موضعه نصب ، والاستدلال في كتب النحو .
وجنات : جمع جنة ، جمع قلة ، فروي عن ابن عباس أنها سبع جنات .
وزعم بعض المفسرين أن في تضاعيف الكتاب والسنة ما يدل على أنها أكثر من العدد الذي أشار إليه ابن عباس وغيره ، قال : فإنه قال : { إن المتقين في جنات ونهر } { ولمن خاف مقام ربه جنتان } { ومن دونهما جنتان } { عندها جنة المأوى } { جنات عدن } وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما ، وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن » وهذا الذي أورده هذا المفسر لا يدل على أنها أكثر مما روي عن ابن عباس .
وقال الزمخشري : الجنة اسم لدار الثواب كلها ، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين ، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان ، انتهى كلامه .
وقد دس فيه مذهبه الاعتزالي بقوله : على حسب استحقاق العاملين .
وقد جاء في القرآن ذكر الجنة مفردة ومجموعة ، فإذا كانت مفردة فالمراد الجنس ، واللام في لهم للاختصاص ، وتقديم الخبر هنا آكد من تقديم المخبر عنه لقرب عود الضمير على الذين آمنوا ، فهو أسر للسامع ، والشائع أنه إذا كان الاسم نكرة تعين تقديمه { أئن لنا لأجراً } ولم يذكر في الآية الموافاة على الإيمان فإن الردة تحبطه ، وذلك مفهوم من غير هذه الآية .
وأما الزمخشري فجرى على مذهبه الاعتزالي من أنه يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل ، أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر ، وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية ، وزعم أن اشتراط ذلك كالداخل تحت الذكر .
وقد علم من مذهب أهل السنة أن من وافى على الإيمان فهو من أهل الجنة ، سواء كان مرتكباً كبيرة أم غير مرتكب ، تائباً أو غير تائب ، ومن قال : إن من زائدة والتقدير تجري تحتها ، أو بمعنى في ، أي في تحتها ، فغير جار على مألوف المحققين من أهل العربية ، بل هي متعلقة بتجري ، وهي لابتداء الغاية .
وإذا فسرنا الجنات بأنها الأشجار الملتفة ذوات الظل ، فلا يحتاج إلى حذف .
وإذا فسرناها بالأرض ذات الأشجار ، احتاج ، إذ يصير التقدير من تحت أشجارها أو غرفها ومنازلها .
وقيل : عبر بتحتها عن أسافلها وأصولها .
وقيل : المعنى في تجري من تحتها : أي بأمر سكانها واختيارهم ، فعبر بتحتها عن قهرهم لها وجريانها على حكمهم ، كما قيل فيم قوله تعالى ، حكاية عن فرعون : { وهذه الأنهار تجري من تحتي } أي بأمري وقهري .
وهذا المعنى لا يناسب إلا لو كانت التلاوة : أن لهم جنات تجري من تحتهم ، فيكون نظير من تحتي إذا جعل على حذف مضاف ، أي من تحت أهلها ، استقام المعنى الذي ذكر أنه لا يناسب ، إذ ليس المعنى بأمر الجنات واختيارها .
وقيل : المعنى في من تحتها : من جهتها .
وقد روي عن مسروق : أن أنهار الجنة تجري في غير أخاديد ، وأنها تجري على سطح أرض الجنة منبسطة .
وإذا صح هذا النقل ، فهو أبلغ في النزهة ، وأحلى في المنظر ، وأبهج للنفس .
فإن الماء الجاري ينبسط على وجه الأرض جوهره فيحسن اندفاعه وتكسره ، وأحسن البساتين ما كانت أشجاره ملتفة وظله ضافياً وماؤه صافياً منساباً على وجه أرضه ، لاسيما الجنة ، حصباؤها الدر والياقوت واللؤلؤ ، فتنكسر تلك المياه على ذلك الحصى ، ويجلو صفاء الماء بهجة تلك الجواهر ، وتسمع لذلك الماء المتكسر على تلك اليواقيت واللآلئ له خريراً ، قال شيخنا الأديب البارع أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي ، رحمه الله تعالى ، من كلمة :
وتحدث الماء الزلال مع الحصى *** فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى
خرج الترمذي من حديث حكيم بن معاوية ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن في الجنة بحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر اللبن ، وبحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار بعده » ويؤيد هذا الحديث قوله تعالى : { فيها أنهار من ماء غير آسن } الآية .
ولما كانت الجنة لا تشوق ، والروض لا يروق إلا بالماء الذي يقوم لها مقام الأرواح للأشباح ، ما كاد مجيء ذكرها إلا مشفوعاً بذكر الأنهار ، مقدماً هذا الوصف فيها على سائر الأوصاف .
قال ابن عطية : نسب الجري إلى النهر ، وإنما يجري الماء وحده توسعاً وتجوزاً ، كما قال تعالى : { واسئل القرية } وكما قال الشاعر :
نبئت أن النار بعدك أوقدت *** واستب بعدك يا كليب المجلس
وناقض قوله هذا ما شرح به الأنهار قبله بنحو من خمسة أسطر قال : والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة ، انتهى كلامه .
والألف واللام في الأنهار للجنس ، قال الزمخشري : أو يراد أنهارها ، فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة ، كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شيباً } وهذا الذي ذكره الزمخشري ، وهو أن الألف واللام تكون عوضاً من الإضافة ، ليس مذهب البصريين ، بل شيء ذهب إليه الكوفيون ، وعليه خرج بعض الناس قوله تعالى : { مفتحة لهم الأبواب } أي أبوابها .
وأما البصريون فيتأولون هذا على غير هذا الوجه ويجعلون الضمير محذوفاً ، أي الأبواب منها ، ولو كانت الألف واللام عوضاً من الإضافة لما أتى بالضمير مع الألف واللام ، وقال الشاعر :
قطوب رحيب الجيب منها رقيقة *** بجس الندامى بضة المتجرد
ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد الثابت في الذهن من الأنهار الأربعة المذكورة في سورة القتال .
وجاء هذا الجمع بصيغة جمع القلة إشارة إلى الأنهار الأربعة ، إن قلنا : إن الألف واللام فيها للعهد ، أو إشارة إلى أنهار الماء ، وهي أربعة أو خمسة ، في الصحيح .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة فقال : « نهران باطنان : الفرات والنيل ، ونهران ظاهران : سيحان وجيحان » وفي رواية سيحون وجيحون ، وعن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء الكوثر قال : « ذاك نهر أعطانيه الله تعالى ، يعني في الجنة ، ماؤه أشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل » الحديث .
وإن كانت أنهاراً كثيرة فيكون ذلك من إجراء جمع القلة مجرى جمع الكثرة ، كما جاء العكس على جهة التوسع والمجاز لاشتراكهما في الجمعية .
{ كلما رزقوا } ، تقدّم الكلام على كلما عند قوله تعالى : { كلما أضاء لهم } ، وبينا كيفية التكرار فيها على خلاف ما يفهم أكثر الناس ، والأحسن في هذه الجملة أن تكون مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وأنه لما ذكر أن من آمن وعمل الصالحات لهم جنات صفتها كذا ، هجس في النفوس حيث ذكرت الجنة الحديث عن ثمار الجنات ، وتشوقت إلى ذكر كيفية أحوالها ، فقيل لهم : { كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً } ، وأجيز أن تكون الجملة لها موضع من الإعراب : نصب على تقدير كونها صفة للجنات ، ورفع : على تقدير خبر مبتدأ محذوف .
ويحتمل هذا وجهين : إما أن يكون المبتدأ ضميراً عائداً على الجنات ، أي هي { كلما رزقوا منها } ، أو عائداً على { الذين آمنوا } ، أي هم كلما رزقوا ، والأولى الوجه الأول لاستقلال الجملة فيه لأنها في الوجهين السابقين تتقدّر بالمفرد ، فهي مفتقرة إلى الموصوف ، أو إلى المبتدأ المحذوف .
وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الذين آمنوا تقديره مرزوقين على الدوام ، ولا يتم له ذلك إلا على تقدير أن يكون الحال مقدرة ، لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين على الدوام .
وأجاز أيضاً أن تكون حالاً من جنات لأنها نكرة قد وصفت بقوله : تجري ، فقربت من المعرفة ، وتؤول أيضاً إلى الحال المقدرة .
والأصل في الحال أن تكون مصاحبة ، فلذلك اخترنا في إعراب هذه الجملة غير ما ذكره أبو البقاء .
ومن : في قوله : منها ، هي لابتداء الغاية ، وفي : من مثمرة كذلك ، لأنه بدل من قوله : منها ، أعيد معه حرف كقوله تعالى : { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها } على أحد الاحتمالين ، وكلتاهما تتعلق برزقوا على جهة البدل ، كما ذكرناه ، لأن الفعل لا يقضي حرفي جر في معنى واحد إلا بالعطف ، أو على طريقة البدل ، وهذا البدل هو بدل الاشتمال .
وقد طول الزمخشري في إعراب قوله : من ثمرة ، ولم يفصح بالبدل ، لكن تمثيله يدل على أنه مراده ، وأجاز أن يكون من ثمرة بياناً على منهاج قولك : رأيت منك أسداً ، تريد أنت أسد ، انتهى كلامه .
وكون من للبيان ليس مذهب المحققين من أهل العربية ، بل تأولوا ما استدل به من أثبت ذلك ، ولو فرضنا مجيء من للبيان ، لما صح تقديرها للبيان هنا ، لأن القائلين بأن من للبيان قدروها بمضمر وجعلوه صدراً لموصول صفة ، إن كان قبلها معرفة ، نحو : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } أي الرجس الذي هو الأوثان ، وإن كان قبلها نكرة ، فهو يعود على تلك النكرة نحو : من يضرب من رجل ، أي هو رجل ، ومن هذه ليس قبلها ما يصلح أن يكون بياناً له ، لا نكرة ولا معرفة ، إلا إن كان يتمحل لذلك أنها بيان لما بعدها ، وأن التقدير : كلما رزقوا منها رزقاً من ثمرة ، فتكون من مبينة لرزقاً ، أي : رزقاً هو ثمرة ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير .
فهذا ينبغي أن ينزه كتاب الله عن مثله .
وأما : رأيت منك أسداً ، فمن لابتداء الغاية أو للغاية ابتداء وانتهاء ، نحو : أخذته منك ، ولا يراد بثمرة الشخص الواحد من التفاح أو الرمان أو غير ذلك ، بل المراد ، والله أعلم ، النوع من أنواع الثمار .
قال الزمخشري : وعلى هذا ، أي على تقدير أن تكون من بياناً يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار ، والجنات الواحدة ، انتهى كلامه .
وقد اخترنا أن من لا تكون بياناً فلا نختار ما ابتنى عليه ، مع أن قوله : والجنات الواحدة مشكل يحتاج فهمه إلى تأمل ، ورزقاً هنا هو المرزوق ، والمصدر بعيد جداً لقوله : { هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً } ، فإن المصدر لا يؤتى به متشابهاً ، إنما هذا من الإخبار عن المرزوق لا عن المصدر .
{ قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } ، قالوا : هو العامل في كلما ، وهذا الذي : مبتدأ معمول للقول .
فالجملة في موضع مفعول ، والمعنى : هذا ، مثل : الذي رزقنا ، فهو من باب ما الخبر شبه به المبتدأ ، وإنما احتيج إلى هذا الإضمار ، لأن الحاضر بين أيديهم في ذلك الوقت يستحيل أن يكون عين الذي تقدم إن رزقوه ، ثم هذه المثلية المقدرة حذفت لاستحكام الشبه ، حتى كأن هذه الذات هي الذات ، والعائد على الذي محذوف ، أي رزقناه ، ومن متعلقة برزقاً ، وهي لابتداء الغاية .
وقيل : مقطوع عن الإضافة ، والمضاف إليه معرفة محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره من قبله : أي من قبل المرزوق .
واختلف المفسرون في تفسير ذلك ، فقال ابن عباس ، والضحاك ، ومقاتل : معناه رزق الغداة كرزق العشي .
وقال يحيى بن أبي كثير ، وأبو عبيد : ثمر الجنة إذا جني خلفه مثله ، فإذا رأوا ما خلف المجني اشتبه عليهم .
فقالوا : هذا الذي رزقنا من قبل ، وقال مجاهد ، وابن زيد : يعني بقوله : من قبل في الدنيا ، والمعنى أنه مثله في الصورة ، فالقبلية على القولين الأولين تكون في الجنة ، وعلى هذا القول تكون في الدنيا .
وقال بعض المفسرين : معناه هذا الذي وعدنا في الدنيا أن نرزقه في الآخرة ، فعلى هذا القول يكون المبتدأ ، هو نفس الخبر ، ولا يكون التقدير مثل : وعبر عن الوعد بمتعلقه وهو الرزق ، وهو مجاز ، فلصدق الوعد به صار كأنهم رزقوه في الدنيا ، وكون الخبر يكون غير المبتدأ أيضاً مجاز ، إلا أن هذا المجاز أكثر وأسوغ .
وعلى هذا القول تكون القبلية أيضاً في الدنيا ، لأن الوعد وقع فيها إلا أن كون القبلية في الدنيا يبعده دخول من على قبل لأنها لابتداء الغاية ، فهذا موضع قبل لا موضع من ، لأن بين الزمانين تراخياً كثيراً ، ومن تشعر بابتداء القبلية فتنافي التراخي والابتداء .
وإذا كانت القبلية في الآخرة كان في ذلك إشكال من حيث إن الرزق الأول الذي رزقوه لا يكون له مثل رزقوه قبل لأن الفرض أنه أول ، فإذا كان أول لم يكن قبله شيء رزقوه .
قال ابن عطية : هذا إشارة إلى الجنس ، أي هذا من الجنس الذي رزقناه من قبل ، انتهى كلامه .
وليس هذا إشارة إلى الجنس ، بل هذا إشارة إلى الرزق .
وكيف يكون إشارة إلى الجنس وقد فسر قوله بعد من الجنس الذي رزقناه من قبل ؟ فكأنه قال : هذا الجنس من الجنس الذي رزقنا من قبل ، وأنت ترى هذا التركيب كيف هو .
ولعل الناقل صحف مثل بمن ، فكان التقدير هذا الجنس مثل الجنس الذي رزقنا من قبل ، وإلا ظهر أنه تصحيف ، لأن التقدير من الجنس بعيد ، وإنما يصح ذلك على ضرب من التجوز من إطلاق كل ، ويراد به بعض فتقول : هذا من بني تميم ، ثم تتجوز فتقول : هذا بنو تميم ، تجعله كل بني تميم مجازاً توسعاً .
ومعمول القول جملة خبرية يخاطب بها بعضهم بعضاً ، وليس ذلك على معنى التعجب ، قاله : جماعة .
وقال ابن عباس : يقولون ذلك على طريق التعجب .
قال الحسن ومجاهد : يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها ، والطعم مختلف ، فهم يتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضاً .
قال ابن عباس : ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء ، وأما الذوات فمتباينة .
وقراءة الجمهور : وأتوا مبنياً للمفعول وحذف الفاعل للعلم به ، وهو الخدم والولدان .
يبين ذلك قراءة هارون الأعور والعتكي .
وأتوا به على الجمع ، وهو إضمار لدلالة المعنى عليه .
ألا ترى إلى قوله تعالى : { يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق } إلى قوله تعالى : { وفاكهة مما يتخيرون } فدل ذلك على أن الولدان هم الذين يأتون بالفاكهة ، والضمير في قوله تعالى : به ، عائد على الرزق ، أي : وأتوا بالرزق الذي هو من الثمار ، كما أن هذا إشارة إليه .
قال الزمخشري : قال قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : وأتوا به ؟ قلت : إلى المرزوق في الدنيا والآخرة ، لأن قوله : { هذا الذي رزقنا من قبل } انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين ، انتهى كلامه .
أي لما كان التقدير هذا مثل الذي رزقناه كان قد انطوى على المرزوقين معاً .
ألا ترى أنك إذا قيل : زيد مثل حاتم ، كان منطوياً على ذكر زيد وحاتم ؟ وما ذكره الزمخشري غير ظاهر الآية ، لأن ظاهر الكلام يقتضي أن يكون الضمير عائداً على مرزوقهم في الآخرة فقط ، لأنه هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل ، مع أنه إذا فسرت القبلية بما في الجنة تعين أن لا يعود الضمير إلا إلى المرزوق في الجنة ، كأنه قال : وأتوا بالمرزوق في الجنة متشابهاً ، ولاسيما إذا أعربت الجملة حالاً ، إذ يصير التقدير قالوا : هذا مثل الذي رزقنا من قبل .
وقد أتوا به متشابهاً ، أي قالوا ذلك في هذه الحال ، وكان الحامل على القول المذكور كونه أتوا به متشابهاً .
ومجيء الجملة المصدرة بماض حالاً ومعها الواو على إضمار قد جائز في فصيح الكلام .
قال تعالى : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } أي وقد كنتم الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا ، أي وقد قعدوا .
وقال الذي نجا منهما : { وادَّكر بعد أمة } أي وقد ادّكر إلى غير ذلك مما خرج على أنه حال ، وكذلك أيضاً لا يستقيم عوده إلى المرزوق في الدارين إذا كانت الجملة معطوفة على قوله تعالى : { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضياً معنى لازماً في حيز كلما ، والعامل فيها يتعين هنا أن يكون مستقبل المعنى ، وإن كان ماضي اللفظ لأنها لا تخلو من معنى الشرط .
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة تضمنت الإخبار عن الإتيان بهذا الذي رزقوه متشابهاً .
وقول الزمخشري في عود الضمير إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لا يظهر أيضاً ، لأن هذه الجمل إنما جاءت محدثاً بها عن الجنة وأحوالها ، وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه ، ليس من حديث الجنة إلا بتكلف .
فالظاهر ما ذكرناه أولاً من عود الضمير إلى الذي أشير إليه بهذا فقط ، وانتصب متشابهاً على الحال من الضمير في به ، وهي حال لازمه ، لأن التشابه ثابت له ، أتوا به أو لم يؤتوا به ، والتشابه قيل : في الجودة والخيار ، فإن فواكه الجنة ليس فيها رديء ، قاله قتادة ، وذلك كقوله تعالى : { كتاباً متشابهاً } قال ابن عطية : كأنه يريد متناسباً في أن كل صنف هو أعلى جنسه ، فهذا تشابه مّا أو في اللون ، وهو مختلف في الطعم ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد ، أو في الطعم واللذة والشهوة ، وإن اختلفت ألوانه ، أو متشابه بثمر الدنيا في الاسم مختلف في اللون والرائحة والطعم ، أو متشابه بثمر الدنيا في الصورة لا في القدر والطعم ، قاله عكرمة وغيره .
وروى ابن المبارك حديثاً يرفعه .
قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم .
" أقبل أعرابي يوماً فقال : يا رسول الله ، ذكر الله في الجنة شجرة مؤذية ، وما كنت أرى في الجنة شجرة مؤذية تؤذي صاحبها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما هي ؟ » قال : السدرة ، فإن لها شوكاً مؤذياً .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أليس يقول في سدر مخضود ، خضد الله الشوك ، فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها لتنبت ثمراً يفتق من الثمرة منها على اثنين وسبعين لوناً طعاماً ما فيه لون يشبه الآخر ؟ » " واختار الزمخشري أن ثمر الجنة متشابه بثمر الدنيا ، وأطلق القول في كونه كان مشابهاً لثمر الدنيا ، ولم يكن أجناساً أخر .
وملخص ما ذكر أن الإنسان يأنس بالمألوف ، وإذا رأى غير المألوف نفر عنه طبعه ، وإذا ظفر بشيء مما ألفه وظهر له فيه مزية ، وتفاوت في الجنس ، سر به واغتبط بحصوله .
ثم ذكر ما ورد في مقدار الرمانة والنبقة والشجرة وكيفية نخل الجنة والعنقود والأنهار ما يوقف عليه في كتابه .
وليس في الآية ما يدل على ما اختاره الزمخشري .
والأظهر أن يكون المعنى ثبوت التشابه له ، ولم يقيد التشابه بل أطلق ، فتقييده يحتاج إلى دليل .
ولما كانت مجامع اللذات في المسكن البهي والمطعم الشهي والمنكح الوضي ، ذكرها الله تعالى فيما يبشر به المؤمنون .
وقد بدأ بالمسكن لأن به الاستقرار في دار المقام ، وثنى بالمطعم لأن به قوام الأجسام ، ثم ذكر ثالثاً الأزواج لأن بها تمام الالتئام ، فقال تعالى : { ولهم فيها أزواج } والأولى أن تكون هذه الجملة مستأنفة .
كما اخترنا في قوله : { كلما رزقوا } لأن جعلها استئنافاً يكون في ذلك اعتناء بالجملة ، إذ سيقت كلاماً تاماً لا يحتاج إلى ارتباط صناعي ، ومن جعلها صفة فقد سلك بها مسلك غير ما هو أصل للحمل .
وارتفاع أزواج على الابتداء ، وكونه لم يشرك في العامل في جنات يدل على ما قلناه من الاستئناف أيضاً ، وخبر أزواج في المجرور الذي هو لهم وفيها متعلق بالعامل في لهم الذي هو خبر .
والأزواج من جموع القلة ، لأن زوجاً جمع على زوجة نحو : عود وعودة ، وهو من جموع الكثرة ، لكنه ليس في الكثير من الكلام مستعملاً ، فلذلك استغنى عنه بجمع القلة توسعاً وتجوزاً .
وقد ورد في الحديث الصحيح ما يدل على كثرة الأزواج من الحور وغيرهم .
وأريد هنا بالأزواج : القرناء من النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره .
ومطهرة : صفة للأزواج مبنية على طهرت كالواحدة المؤنثة .
وقرأ زيد بن علي : مطهرات ، فجمع بالألف والتاء على طهرن .
قال الزمخشري : هما لغتان فصيحتان ، يقال : النساء فعلن ، وهن فاعلات ، والنساء فعلت ، وهي فاعلة ، ومنه بيت الحماسة :
وإذا العذارى بالدخان تقنت *** واستعجلت نصب القدور فملت
والمعنى : وجماعة أزواج مطهرة ، انتهى كلامه .
وفيه تعقب أن اللغة الواحدة أولى من الأخرى ، وذلك أن جمع ما لا يعقل ، إما أن يكون جمع قلة ، أو جمع كثرة إن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات ، وإن كان جمع قلة فالعكس ، نحو : الأجذاع انكسرن ، ويجوز انكسرت ، وكذلك إذا كان ضميراً عائداً على جمع العاقلات الأولى فيه النون من التاء ، فإذا بلغن أجلهن ، والوالدات يرضعن ، ولم يفرقوا في ذلك بين جمع القلة والكثرة كما فرقوا في جمع ما لا يعقل .
فعلى هذا الذي تقرر تكون قراءة زيد الأولى إذ جاءت في الظاهر على ما هو أولى .
ومجيء هذه الصفة مبنية للمفعول ، ولم تأت ظاهرة أو ظاهرات ، أفخم لأنه أفهم أن لها مظهراً وليس إلا الله تعالى .
وقراءة عبيد بن عمير مطهرة ، وأصله متطهرة ، فأدغم .
وفي كلام بعض العرب ما أحوجني إلى بيت الله فاطهر به أطهرة ، أي : فأتطهر به تطهرة ، وهذه القراءة مناسبة لقراءة الجمهور ، لأن الفعل مما يحتمل أن يكون مطاوعاً نحو : طهرته فتطهر ، أي أن الله تعالى طهرهن فتطهرن .
وهذه الأزواج التي وصفها الله بالتطهير إن كن من الحور العين ، كما روي عن عبد الله .
فمعنى التطهير : خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي وإن كن من بني آدم ، كما روي عن الحسن : عن عجائزكم الرمص العمص يصرن شواب ، فقيل : مطهرة من العيوب الذاتية وغير الذاتية ، وقيل : مطهرة من الأخلاق السيئة والطبائع الرديئة ، كالغضب والحدة والحقد والكيد المكر ، وما يجري مجرى ذلك ، وقيل : مطهرة من الفواحش والخنا والتطلع إلى غير أزواجهن ، وقيل : مطهرة من الأدناس الذاتية ، مثل الحيض والنفاس والجنابة والبول والتغوط وغير ذلك من المقادير الحادثة عن الأعراض المنقبلة إلى فساد : كالبخر والذفر والصنان والقيح والصديد ، أو إلى غير فساد : كالدمع والعرق والبصاق والنخامة .
وقيل : مطهرة من مساوئ الأخلاق ، لا طمحات ولا مرجات ولا يغرن ولا يعزن .
وقال يمان : من الإثم والأذى ، وكل هذه الأقوال لا يدل على تعيينها قوله تعالى : { مطهرة } لكن ظاهر اللفظ يقتضي أنهن مطهرات من كل ما يشين ، لأن من طهره الله تعالى ووصفه بالتطهير كان في غاية النظافة والوضاءة .
ولما ذكر تعالى مسكن المؤمنين ومطعهمهم ومنحكهم ، وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع توقع خوف الزوال ، ولذلك قيل :
أشد الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه ارتحالا
أعقب ذلك تعالى بما يزيل تنغيص التنعم بذكر الخلود في دار النعيم ، فقال تعالى : { وهم فيها خالدون } .
وقد تقدم ذكر الخلاف في الخلود ، وأن المعتزلة تذهب إلى أنه البقاء الدائم الذي لا ينقطع أبداً ، وأن غيرهم يذهب إلى أنه البقاء الطويل ، انقطع أو لم ينقطع ، وأن كون نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار سرمدي لا ينقطع ، ليس مستفاداً من لفظ الخلود بل من آيات من القرآن وأحاديث صحاح من السنة ، قال تعالى : { خالدين فيها أبداً } ، وقال تعالى : { وما هم منها بمخرجين } وفي الحديث : « يا أهل الجنة خلود بلا موت » وفي حديث أخرجه مسلم في وصف أهل الجنة : « وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً » إلى غير ذلك من الآي والأحاديث .