قوله تعالى : { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } قال الحسن و قتادة : أعطى كل شيء صلاحه ، وهداه لما يصلحه . وقال مجاهد : أعطى كل شيء صورته لم يجعل خلق الإنسان كخلق البهائم ، ولا خلق البهائم كخلق الإنسان ، ثم هداه إلى منافعه من المطعم والمشرب والمنكح . وقال الضحاك : أعطى كل شيء خلقه يعني : اليد للبطش والرجل للمشي واللسان للنطق والعين للنظر والأذن للسمع . وقال سعيد بن جبير : أعطى كل شيء خلقه يعني : زوج للإنسان المرأة وللبعير الناقة والحمار الأتان والفرس الرمكة ثم هدى . أي : ألهمه كيف يأتي الذكر الأنثى .
فأما موسى - عليه السلام - فيرد بالصفة المبدعة المنشئة المدبرة من صفات الله تعالى : ( قال : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) . . ربنا الذي وهب الوجود لكل موجود في الصورة التي أوجده بها وفطره عليها . ثم هدى كل شيء إلى وظيفته التي خلقه لها ؛ وأمده بما يناسب هذه الوظيفة ويعينه عليها . وثم هنا ليست للتراخي الزمني . فكل شيء مخلوق ومعه الاهتداء الطبيعي الفطري للوظيفة التي خلق لها ، وليس هناك افتراق زمني بين خلق المخلوق وخلق وظيفته . إنما هو التراخي في الرتبة بين خلق الشيء واهتدائه إلى وظيفته ؛ فهداية كل شيء إلى وظيفته مرتبة أعلى من خلقه غفلا . .
وهذا الوصف الذي يحكيه القرآن الكريم عن موسى - عليه السلام - يلخص أكمل آثار الألوهية الخالقة المدبرة لهذا الوجود : هبة الوجود لكل موجود . . وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها . وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها . . وحين يجول الإنسان ببصره وبصيرته - في حدود ما يطيق - في جنبات هذا الوجود الكبير تتجلى له آثار تلك القدرة المبدعة المدبرة في كل كائن صغير أو كبير . من الذرة المفردة إلى أضخم الأجسام ، ومن الخلية الواحدة إلى أرقى أشكال الحياة في الإنسان .
هذا الوجود الكبير المؤلف مما لا يحصى من الذرات والخلايا ، والخلائق والأحياء ؛ وكل ذرة فيه تنبض ، وكل خلية فيه تحيا ، وكل حي فيه يتحرك ، وكل كائن فيه يتفاعل أو يتعامل مع الكائنات الأخرى . . وكلها تعمل منفردة ومجتمعة داخل إطار النواميس المودعة في فطرتها وتكوينها بلا تعارض ولا خلل ولا فتور في لحظة من اللحظات !
وكل كائن بمفرده كون وحده وعالم بذاته ، تعمل في داخله ذراته وخلاياه وأعضاؤه وأجهزته وفق الفطرة التي فطرت عليها ، داخل حدود الناموس العام ، في توافق وانتظام .
وكل كائن بمفرده - ودعك من الكون الكبير - يقف علم الإنسان وجهده قاصرا محدودا في دراسة خواصه ووظائفه وأمراضه وعلاجه . دراستها مجرد دراسة لا خلقها ولا هدايتها إلى وظائفها ، فذلك خارج كلية عن طوق الإنسان . وهو خلق من خلق الله . . وهبه وجوده ، على الهيئة التي وجد بها ? للوظيفة التي خلق لها ، كأي شيء من هاته الأشياء !
إلا أنه للإله الواحد . . ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . .
{ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } . قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول : خلق لكل شيء زَوْجة .
قال الضحاك عن ابن عباس : جعل الإنسان إنسانًا ، والحمار حمارًا ، والشاة شاةً .
وقال ليث بن أبي سُلَيم ، عن مجاهد : أعطى كل شيء صورته .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : سَوّى خلق كل دابة .
وقال سعيد بن جبير في قوله : { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } قال : أعطى كل ذي خَلْق ما يصلحه من خَلْقه ، ولم يجعل للإنسان من خَلْق الدابة ، ولا للدابة من خلق الكلب ، ولا للكلب{[19391]} من خلق الشاة ، وأعطى كل{[19392]} شيء ما ينبغي له من النكاح ، وهيّأ كلّ شيء على ذلك ، ليس شيء منها يشبه شيئًا من أفعاله{[19393]} في الخَلْق والرزق والنكاح .
وقال بعض المفسرين : { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } كقوله تعالى : { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 3 ] أي : قدر قدرًا ، وهدى الخلائق إليه ، أي : كَتَب الأعمال والآجال والأرزاق ، ثم الخلائق ماشون على ذلك ، لا يحيدون عنه ، ولا يقدر أحد على الخروج منه . يقول : ربنا الذي خلق [ الخلق ]{[19394]} وقدر القَدَر ، وجَبَل الخليقة على ما أراد .
{ قال ربنا الذي أعطى كل شيء } من الأنواع { خلقه } صورته وشكله الذي يطابق كماله الممكن له ، أو أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به ، فقدم المفعول الثاني لأنه المقصود بيانه . وقيل أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة زوجا . وقرئ { خلقه } صفة للمضاف إليه أو المضاف على شذوذ فيكون المفعول الثاني محذوفا أي أعطى كل مخلوق ما يصلحه . { ثم هدى } ثم عرفه كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل به إلى بقائه وكماله اختيارا أو طبعا ، وهو جواب في غاية البلاغة لاختصاره وإعرابه عن الموجودات بأسرها على مراتبها ، ودلالته على أن الغني القادر بالذات المنعم على الإطلاق هو الله تعالى وأن جميع ما عداه مفتقر إليه منعم عليه في حد ذاته وصفاته وأفعاله ، ولذلك بهت الذي كفر وأفحم عن الدخل عليه فلم ير إلا صرف الكلام عنه .
استبد موسى صلى الله عليه وسلم بجوابه من حيث خصه في السؤال ثم أعلمه من صفات الله تعالى بأن لا شرك لفرعون فيه لا بوجه مجاز واختلف المفسرون في قوله { الذي أعطى كل شيء خلقه } فقالت فرقة معناه أعطى الذكران من كل الحيوان نوعه وخلقته أنثى { ثم هدى } للإتيان ، وقالت فرقة بل المعنى أعطى كل موجود من مخلوقاته خلقته وصورته ، أي أكمل ذلك له وأتقنه { ثم هدى } أي يسر كل شيء لمنافعه ومرافقه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول أشرف معنى وأعم في الموجودات ، وقرأت فرقة «خلَقه » بفتح اللام ويكون المفعول الثاني ب { أعطى } مقدراً تقديره كماله أو خلقته .
تولى موسى الجواب لأنّه خصّ بالسؤال بسبب النّداء له دون غيره .
وأجاب موسى بإثبات الربوبية لله لجميع الموجودات جرياً على قاعدة الاستدلال بالكلية على الجزئية بحيث ينتظم من مجموعهما قياس ، فإن فرعون من جملة الأشياء ، فهو داخل في عموم { كل شيء } .
و { كُلَّ شَيْءٍ } مفعول أول ل { أعطى } . و { خَلْقَهُ } مفعوله الثاني .
والخلق : مصدر بمعنى الإيجاد . وجيء بفعل الإعطاء للتنبيه على أنّ الخلق والتكوين نعمة ، فهو استدلال على الربوبية وتذكير بالنعمة معاً .
ويجوز أن يكون الخلق بالمعنى الأخصّ ، وهو الخَلق على شكل مخصوص ، فهو بمعنى الجَعْل ، أي الذي أعطى كل شيء من الموجودات شكله المختصّ به ، فكُونت بذلك الأجناسُ والأنواع والأصناف والأشخاص من آثار ذلك الخلق .
ويجوز أن يكون { كُلَّ شَيْءٍ } مفعولاً ثانياً ل { أعطى } ومفعوله الأول { خَلْقَهُ } ، أي أعطى خلقه ما يحتاجونه ، كقوله : { فأخرجنا به نبات كل شيء } [ الأنعام : 99 ] . فتركيب الجملة صالح للمعنيين .
والاستغراق المستفاد من ( كلّ ) عُرفي ، أي كل شيء من شأنه أن يعطاه أصنافُ الخلق ويناسب المعطي ، أو هو استغراق على قصد التوزيع بمقابلة الأشياء بالخلق ، مثل : ركب القوم دوابّهم .
والمعنى : تأمل وانظر هل أنتَ أعطيت الخَلق أوْ لاَ ؟ فلا شك أنه يعلم أنّه ما أعطى كلّ شيء خلقه ، فإذا تأمل علم أن الرب هو الذي أفاض الوجود والنّعم على الموجودات كلّها ، فآمن به بعنوان هذه الصفة وتلك المعرفة الموصّلة إلى الاعتقاد الحق .
و ( ثُم ) للترتيب بمعنييْه الزمني والرتبي ، أي خلق الأشياء ثمّ هدى إلى ما خلقهم لأجله ، وهداهم إلى الحق بعد أن خلقهم ، وأفاض عليهم النّعم ، على حد قوله تعالى : { ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين } [ البلد : 8 10 ] أي طريقي الخير والشرّ ، أي فرّقنا بينهما بالدلائل الواضحة .
قال الزمخشري في « الكشاف » : « ولله درّ هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالباً للحق » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال ربنا الذي أعطى كل شيء} من الدواب {خلقه} يعني: صورته التي تصلح له {ثم هدى}، يقول: هداه إلى معيشته ومرعاه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"قالَ رَبّنا الّذِي أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَى" يقول تعالى ذكره: قال موسى له مجيبا: ربنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه، يعني: نظير خلقه في الصورة والهيئة كالذكور من بني آدم، أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا، وكالذكور من البهائم، أعطاها نظير خلقها، وفي صورتها وهيئتها من الإناث أزواجا... ثم هداهم للمأتي الذي منه النسل والنماء كيف يأتيه، ولسائر منافعه من المطاعم والمشارب، وغير ذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: بنحو الذي قلنا فيه...
وقال آخرون: معنى قوله "ثُمّ هَدَى "أنه هداهم إلى الأُلفة والاجتماع والمناكحة...
وقال آخرون: معنى ذلك: أعطى كلّ شيء صورته، وهي خلقه الذي خلقه به، ثم هداه لما يُصلحه من الاحتيال للغذاء والمعاش...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أعطى كلّ شيء ما يُصلحه، ثم هداه له... وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك، لأنه جلّ ثناؤه أخبر أنه أعطى كلّ شيء خلقه، ولا يعطي المعطي نفسه، بل إنما يعطي ما هو غيره، لأن العطية تقتضي المعطي المُعطَى والعطية، ولا تكون العطية هي المعْطَى، وإذا لم تكن هي هو، وكانت غيره، وكانت صورة كلّ خلق بعض أجزائه، كان معلوما أنه إذا قيل: أعطى الإنسان صورته، إنما يعني أنه أعطى بعض المعاني التي به مع غيره دعي إنسانا، فكأن قائله قال: أعطى كلّ خلق نفسه، وليس ذلك إذا وجه إليه الكلام بالمعروف من معاني العطية، وإن كان قد يحتمله الكلام. فإذا كان ذلك كذلك، فالأصوب من معانيه أن يكون موجها إلى أن كلّ شيء أعطاه ربه مثل خلقه، فزوّجه به، ثم هداه لما بيّنا، ثم ترك ذكر (مثل)، وقيل أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَلْقَه كما يقال: عبد الله مثل الأسد، ثم يحذف مثل، فيقول: عبد الله الأسد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم يحتمل قوله: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وجوها:
أحدها: {أعطى كل شيء خلقه} صورته وهيئته. والثاني: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} جنسه وشكله. والثالث: {أعطى كل شيء خلقه} معاشه وقوامه. والرابع: {أعطى كل شيء خلقه} ما يكون بعد الفناء صورة ما قد كان ليُعْلَمَ أنه قادر على بعثهم على الصورة التي كانت.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ}: أعطى كلّ شيء صلاحه وهداه لما يصلحه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والمعنى إنه خلق كل شيء على الهيئة التي بها ينتفع والتي هي أصلح الخلق له، ثم هداه لمعيشته ومنافعه لدينه ودنياه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وإنما أجاب موسى عن هذا السؤال بالاستدلال على فِعْلِه -سبحانه فقال: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ} ليُعْلَمَ أنَّ الدليلَ على إثباته- سبحانه -ما دلَّتْ عليه أفعالُه.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
أي أتقن كل شيء مما خلق وخلقه على الهيئة التي بها ينتفع والتي هي أصلح وأحكم لما يراد منه.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
الهادي: هو الذي هدى خواص عباده أولا إلى معرفة ذاته حتى استشهدوا بها على معرفة ذاته، وهدى عوام عباده إلى مخلوقاته حتى استشهدوا على ذاته وهدى كل مخلوق إلى ما لابد منه في قضاء حاجاته. فهدى الطفل إلى التقام الثدي عند انفصاله، والفرخ إلى التقاط الحب وقت خروجه، والنحل إلى بناء بيته على شكل التسديس لكونه أوفق الأشكال لبدنه وأحواها له، وشرح ذلك يطول، وعنه عبر قوله تعالى: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وقوله تعالى: {والذي قدر فهدى}. [المقصد الأسنى: 116]
فالخلق دون الهداية لا يفضي إلى خير، ولذلك قال عز وجل: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [مقاصد الفلاسفة: 374].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
استبد موسى صلى الله عليه وسلم بجوابه من حيث خصه في السؤال ثم أعلمه من صفات الله تعالى بأن لا شرك لفرعون فيه لا بوجه مجاز واختلف المفسرون في قوله {الذي أعطى كل شيء خلقه} فقالت فرقة معناه أعطى الذكران من كل الحيوان نوعه وخلقته أنثى {ثم هدى} للإتيان، وقالت فرقة بل المعنى أعطى كل موجود من مخلوقاته خلقته وصورته، أي أكمل ذلك له وأتقنه {ثم هدى} أي يسر كل شيء لمنافعه ومرافقه.
وهذا القول أشرف معنى وأعم في الموجودات، وقرأت فرقة «خلَقه» بفتح اللام ويكون المفعول الثاني ب {أعطى} مقدراً تقديره كماله أو خلقته.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
فان قيل: ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا؟ فالجواب: أنه قد ثبت وجود خلق وهداية، فلا بد من خالقٍ وهادٍ.
اعلم أن موسى عليه السلام استدل على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات وهو قوله: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى} قال إبراهيم عليه السلام: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين} وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمور يعول على دلائل إبراهيم عليه السلام وسيأتي تقرير ذلك في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى. واعلم أنه يشبه أن يكون الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان. والهداية عبارة عن إبداع القوى المدركة والمحركة في تلك الأجسام وعلى هذا التقدير يكون الخلق مقدما على الهداية ولذلك قال: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} فالتسوية راجعة إلى القالب ونفخ الروح إشارة إلى إبداع القوى وقال: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} إلى أن قال: {ثم أنشأناه خلقا آخر}...فظهر أن الخلق مقدم على الهداية، والشروع في بيان عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية شروع في...بحر لا ساحل له...
في قوله: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وجهان:
أحدهما: التقديم والتأخير أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به. وثانيهما: أن يكون المراد من الخلق الشكل والصورة المطابقة للمنفعة فكأنه سبحانه قال: أعطى كل شيء الشكل الذي يطابق منفعته ومصلحته...والمعنى أن كل شيء خلقه الله لم يخله من إعطائه وإنعامه،
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
أي ما هو عليه مما هو به أليق في المنافع المنوطة به، والآثار التي تتأثر عنه من الصورة و الشكل والمقدار واللون والطبع وغير ذلك مما يفوت الحصر، ويجل عن الوصف. ولما كان في إفاضة الروح من الجلالة والعظم ما يضمحل عنده غيره من المفاوتة، أشار إلى ذلك بحرف التراخي فقال: {ثم هدى} أي كل حيوان منه مع أن فيها العاقل وغيره إلى جميع منافعه فيسعى لها، ومضاره فيحذرها، فثبت بهذه المفاوتة والمفاصلة مع اتحاد نسبة الكل إلى الفاعل أنه واحد مختار، وأن ذلك لو كان بالطبيعة المستندة إلى النجوم أو غيرها كما كان يعتقده فرعون وغيره لم يكن هذا التفاوت.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وخلاصة هذا: ربنا الذي خلق كل شيء على الوجه الذي يليق بما قدر له من المنافع والخواص، وأرشده كيف ينتفع بما خلق له، وجعل ذلك دليلا على وجوده، وعظيم جوده، وكأنه يقول له: إن ذلك الخالق والهادي هو الله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما موسى -عليه السلام- فيرد بالصفة المبدعة المنشئة المدبرة من صفات الله تعالى: (قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى).. ربنا الذي وهب الوجود لكل موجود في الصورة التي أوجده بها وفطره عليها. ثم هدى كل شيء إلى وظيفته التي خلقه لها؛ وأمده بما يناسب هذه الوظيفة ويعينه عليها. وثم هنا ليست للتراخي الزمني. فكل شيء مخلوق ومعه الاهتداء الطبيعي الفطري للوظيفة التي خلق لها، وليس هناك افتراق زمني بين خلق المخلوق وخلق وظيفته. إنما هو التراخي في الرتبة بين خلق الشيء واهتدائه إلى وظيفته؛ فهداية كل شيء إلى وظيفته مرتبة أعلى من خلقه غفلا.. وهذا الوصف الذي يحكيه القرآن الكريم عن موسى -عليه السلام- يلخص أكمل آثار الألوهية الخالقة المدبرة لهذا الوجود: هبة الوجود لكل موجود.. وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها. وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها.. وحين يجول الإنسان ببصره وبصيرته -في حدود ما يطيق- في جنبات هذا الوجود الكبير تتجلى له آثار تلك القدرة المبدعة المدبرة في كل كائن صغير أو كبير. من الذرة المفردة إلى أضخم الأجسام، ومن الخلية الواحدة إلى أرقى أشكال الحياة في الإنسان. هذا الوجود الكبير المؤلف مما لا يحصى من الذرات والخلايا، والخلائق والأحياء؛ وكل ذرة فيه تنبض، وكل خلية فيه تحيا، وكل حي فيه يتحرك، وكل كائن فيه يتفاعل أو يتعامل مع الكائنات الأخرى.. وكلها تعمل منفردة ومجتمعة داخل إطار النواميس المودعة في فطرتها وتكوينها بلا تعارض ولا خلل ولا فتور في لحظة من اللحظات! وكل كائن بمفرده كون وحده وعالم بذاته، تعمل في داخله ذراته وخلاياه وأعضاؤه وأجهزته وفق الفطرة التي فطرت عليها، داخل حدود الناموس العام، في توافق وانتظام. وكل كائن بمفرده -ودعك من الكون الكبير- يقف علم الإنسان وجهده قاصرا محدودا في دراسة خواصه ووظائفه وأمراضه وعلاجه. دراستها مجرد دراسة لا خلقها ولا هدايتها إلى وظائفها، فذلك خارج كلية عن طوق الإنسان. وهو خلق من خلق الله.. وهبه وجوده، على الهيئة التي وجد بها؟ للوظيفة التي خلق لها، كأي شيء من هاته الأشياء! إلا أنه للإله الواحد.. ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تولى موسى الجواب لأنّه خصّ بالسؤال بسبب النّداء له دون غيره.
وأجاب موسى بإثبات الربوبية لله لجميع الموجودات جرياً على قاعدة الاستدلال بالكلية على الجزئية بحيث ينتظم من مجموعهما قياس، فإن فرعون من جملة الأشياء، فهو داخل في عموم {كل شيء}.
معنى: {أعطى كل شيء خلقه} أي: كل ما في الوجود، خلقه الله لمهمة، فجاء خلقه مناسبا للمهمة التي خلق لها {ثم هدى} أي: دل كل شيء على القيام بمهمته ويسره لها. والحق سبحانه أعطى كل شيء (خلقه) الخلق يطلق، ويراد به المخلوق، فالمخلوق شيء لا بد له من مادة، لا بد أن يكون له صورة وشكل، له لون ورائحة، له عناصر ليؤدي مهمته...والحق سبحانه وتعالى عندما أرسل موسى وهارون بآية دالة على صدقهما إلى فرعون كانت مهمتهما الأساسية أخذ بني إسرائيل، وإنقاذهم من طغيان فرعون، وجاءت المسألة الإيمانية تبعية، أما أصل مهمة موسى فكان: {فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم} والحق سبحانه حين يعرض قضية الإيمان يعرضها مبدوءة بالدليل دليل البدء الذي جاء في قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} لأن فرعون الذي ادعى الألوهية لا بد أن يكون له مألوهون، وهم خلق مثله، وهو يعتز بملكه وماله من أرض مصر ونيلها وخيراتها...فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يرد عليه: ألك شيء في خلق هؤلاء المألوهين لك؟...ولما كان دليل الخلق الابتدائي هو الدليل المقنع، لم يكن لفرعون رد عليه، لذلك لما سمع هذه المسألة {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} لم يستطع أن ينقض هذا الدليل، فأراد أن يخرج الحوار من دليل الجد إلى مسألة أخرى يهرب إليها، مسألة فرعية لا قيمة لها: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى؟}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(قال ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى) ففي هذه العبارة الموجزة إشارة إلى أصلين أساسيين من الخلقة والوجود، وكلّ واحد منهما دليل وبرهان مستقل يوصل إلى معرفة الله: الأوّل: إنّ الله سبحانه قد وهب لكلّ موجود ما يحتاجه، وهذا أمرٌ في غاية الأهميّة...والثّاني: مسألة هداية وإرشاد الموجودات، وقد جعلها القرآن باستعماله (ثمّ) في الدرجة الثّانية بعد تأمين الاحتياجات. إنّ من الممكن أن يمتلك الإنسان أي شيء من أسباب الحياة، إلاّ أنّه يجهل كيفيّة الاستفادة منها، والمهمّ أن يعرف طريقة استعمالها، وهذا هو الشيء الذي نراه في الموجودات المختلفة بوضوح، وكيف أنّ كلاًّ منها يستغلّ طاقته بصورة دقيقة في إدامة حياته...والبشر أيضاً لديهم هذه الهداية التكوينيّة، إلاّ أنّ الإنسان لمّا كان موجوداً يمتلك عقلا وشعوراً، فقد جعل الله سبحانه هدايته التكوينيّة مع هدايته التشريعيّة بواسطة الأنبياء متلازمة ومتزامنة، بحيث إنّه إذا لم ينحرف عن ذلك الطريق، فإنّه سيصل حتماً إلى مقصده.