قوله : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ }{[24651]} في هذه الآية وجهان :
أحدهما : أن يكون " كُلُّ شَيْءٍ " مفعول أول و " خَلْقَهُ " مفعولاً ثانياً{[24652]} على معنى أعطى كل شيء شكله وصورتَه{[24653]} التي تطابق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الهيئة التي تطابق الاستماع وتوافقه{[24654]} ، وكذلك اليد والرجل واللسان{[24655]} . قاله مجاهد{[24656]} . أو{[24657]} أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث جعل الحصان والحَجْر{[24658]} زوجين ، والناقة والبعير ، والرجل والمرأة ، ولم يزاوج شيئاً منها{[24659]} غير جنسه ، ولا ما هو مخالف لخلقه .
( وقيل : المعنى أَعْطَى كلَّ شيءٍ مخلوقٍ خلقهُ ، أي هو الذي ابتدعه{[24660]} ){[24661]} .
وقيل : المعنى أعطى كُلَّ شيءٍ مما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان ، لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا بالعكس ، بل خلق كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً{[24662]} .
الثاني : أن يكون " كُلَّ شَيْءٍ " مفعولاً ثانياً و " خَلْقَه " هو الأول{[24663]} فقدَّم{[24664]} الثاني عليه ، والمعنى : أعطى خليقَتَه كلَّ شيء يحتاجُون إليه ويرتفقون{[24665]} به .
وقرأ عبد الله والحسن والأعمش وأبو نُهَيْك وابن أبي إسحاق{[24666]} ونصرٌ{[24667]} عن الكسائيِّ وجماعةٌ من أصحاب رسول الله{[24668]} " خَلَقَهُ " بفتح اللام فعلاً ماضياً{[24669]} ، وهذه الجملة في هذه القراءة تحتمل أن تكون منصوبة المحلِّ لكلِّ أو في محل جرّ صفة لشيء . وهذا معنى قول الزمخشري : صفة المضاف يعني " كُلّ " {[24670]} ( أو للمضاف إليه يعني " شَيْء " {[24671]} ){[24672]} ، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف ، فيحتمل أن يكون حذفه حذف اختصار{[24673]} للدلالة عليه{[24674]} . أي : أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه ويصلحه أو كماله ، ويحتمل أن يكون حذفه حذف اقتصار ){[24675]} ، والمعنى أنَّ كلَّ شيءٍ خلقه الله تعالى{[24676]} لم يُخْلِهِ من إنعامه وعطائه{[24677]} .
فصل{[24678]}
اعلم أن فرعون كان شديد القوة عظيم الغلبة كثير العسكر ، ثم إن موسى لما دعاه إلى ربه{[24679]} لم يبطش به ، ولم يؤذه ، بل خرج معه في المناظرة ، لأنه لو أذاه لنُسب إلى الجهل والسفاهة ، فاستنكف من{[24680]} ذلك وشرع في المناظرة ، وذلك يدل على السفاهة من غير حجة شيء لم يرضه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم ؟ ثم إن فرعون لما سأل موسى -عليه السلام{[24681]}- عن ذلك قبل موسى ذلك السؤال ، واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع ، وذلك يدل على فساد التقليد ، ويدل أيضاً على قول التعليمية{[24682]} الذين يقولون : نستفيد معرفة الإله من قول الرسول ، لأن موسى -عليه السلام{[24683]}- اعترف هاهنا بأن معرفة الله تجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول . ودلت الآية أيضاً على أنه يجوز حكاية كلام المبطِل ، لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله ، وحكى شبهات منكري النبوة ، وشبهات منكري الحشر{[24684]} إلا أنه يجب أن يذكر الجواب مقروناً بالسؤال{[24685]} ( كما فعل الله{[24686]} تعالى في هذه المواضع لئلا يبقى الشك ){[24687]} .
ودلت الآية على أن المحق يجب عليه استماع كلام المبطِل عنه من غير إيذاء ولا إيحاش ، كما فعل موسى عليه السلام{[24688]} بفرعون هاهنا ، ولقوله تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة }{[24689]} ، وقال : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله }{[24690]} .
فصل{[24691]}
قال بعضهم : إنَّ فرعون كان عارفاً بالله تعالى إلا أنه كانَ يُظْهِرُ الإنكار{[24692]} تكبراً وتجبراً ، لقوله تعالى{[24693]} : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض }{[24694]} فيمن نصب التاء في " عَلِمْتَ " {[24695]} كان ذلك خطاباً لموسى -عليه السلام-{[24696]} مع فرعون ، وذلك يدل على أن فرعون كان عالماً{[24697]} بذلك ، وقوله : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً }{[24698]} . ولأنه لو لم يكن عاقلاً لم يجز تكليفه ، والعاقل بعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم ، ويعلم أن من كان كذلك افتقر إلى مدبَِّر ، وهذان العلمان الضروريان يستلزمان{[24699]} العلم بوجود المدبِّر ، ولأن قول موسى -عليه السلام{[24700]}- { رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } يقتضي ذلك{[24701]} ، لأن كلمة " الَّذِي " تقضي وصف المعرفة بجملةٍ{[24702]} معلومةٍ عند المخاطب . وأيضاً فإن مُلْك فرعون{[24703]} لم يتجاوز القبطَ ، ولم يبلغ الشام ، ولما هرب موسى إلى مَدْيَنَ قال له شعيبٌ : { لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين }{[24704]} ، فمع هذا يعتقد أنَّه إله العالم ؟
وقال آخرون : إنَّه كانَ جاهلاً بربِّه .
واتفقوا على أنَّ العاقل لا يَجُوزُ أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السموات والأرض والشمس والقمر ، وأنه خالقُ نفسه ، لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها ، ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله ، فَحَصَلَ له العلم الضروري بأنه ليس موجداً لها ولا خالقاً لها .
واختلفوا في كيفية جَهْلِه بالله تعالى ، فيحتمل أنه كان دهرياً نافياً للمدبِّر ، ويحتمل{[24705]} أنه كان فلسفياً قائلاً بالعلة الموجبة{[24706]} ، ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ، ويحتمل أنه كان من الحلوليَّة ، وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له .
فصل{[24707]}
قال هاهنا : { فَمَن رَّبُّكُمَا يا موسى } ، وقال في سورة الشعراء : { وَمَا رَبُّ العالمين }{[24708]} ، وهو سؤال عن الماهية ، فهما سؤالان مختلفان ، والواقعة واحدة ، والأقرب أن يقال{[24709]} : سؤال " مَنْ " كان مقدماً على سؤال " مَا " {[24710]} ، لأنه كان يقول : أنا اللهُ والرَّبُّ{[24711]} ، فقال : " فَمَنْ رَبُّكُما " ، فلما أقام موسى الدلالة على الوجود ، وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه{[24712]} في هذا المقام ، لظهوره وجلائه ، عدل إلى طلب الماهية ، وهذا ينبه{[24713]} على أنه كان عالماً بالله ، لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره ؛ وشرع في المقام الصعب ، لأن العلم بماهية الله تعالى{[24714]} غير حاصل للبشر .
قوله{[24715]} : { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا } ولم يقل : " فَمَن إلَهُكُمَا " لأنه أثبت نفسه رباً في قوله : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً }{[24716]} ، فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال : أنَا رَبُّكَ فَلِمَ تدعي رَبًّا آخر ، وهذا يشبه{[24717]} كلام نمروذ حين قال له إبراهيم { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ }{[24718]} قال نمروذ : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ }{[24719]} ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرها إبراهيم هي{[24720]} التي عارضه نمروذ بها إلا في اللفظ ، فكذا هاهنا لما ادعى{[24721]} موسى -عليه السلام{[24722]}- ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام ، أي : أنا الرَّبُّ الذي ربيتك ، ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى{[24723]} لله تعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما{[24724]} إلا في اللفظ{[24725]} .
استدل موسى{[24726]} عليه السلام{[24727]}- على{[24728]} إثبات الصانع بأحوال المخلوقات ، وهو قوله : { رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } ، وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد -عليه السلام{[24729]}- في قوله : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى }{[24730]} وقال إبراهيم -عليه السلام{[24731]}- : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }{[24732]} .
واعلم أن الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان ، والهدايةُ عبارة عن إيداع القُوَى المدركة والحركة في تلك الأجسام ، فالخلق مقدم على الهداية كما قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ }{[24733]} إلى أن قال : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ }{[24734]} .
واعلم{[24735]} أن عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية بحر لا ساحل له ولنذكر منه أمثلة{[24736]} :
أحدها{[24737]} : أنَّ الطبيعي يقول{[24738]} : الثقيل هابط ، والخفيف صاعد ، وأثقل الأشياء الأرض ثم الماء ، وأخفها النار ثم الهواء ، فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها ، ثم إنه تعالى قلب هذا{[24739]} في خلقة الإنسان ؛ فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر{[24740]} ، وهما{[24741]} أيْبَسُ ما في البدن ، وهما بمنزلة الأرض ، ثم جعل تحته الدماغ الذي هو{[24742]} بمنزلة الماء ، وجعل تحته النفس التي هو{[24743]} بمنزلة الهواء ، وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب ، وهي بمنزلة النار ، فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى ، وجعل مكان النار من البدن الأسفل ليعلم أن ذلك بتدبير{[24744]} القادر الحكيم لا باقتضاء العلة والطبيعة .
وثانيها{[24745]} : أنَّك إذا نظرت إلى عجائب النحل في تركيب البيوت المسدسة وقسمتها ، وعجائب أحوال البق والبعوض والنمل في اهتدائها{[24746]} إلى مصالح أنفسها لعرفت أن ذلك لا يمكن إلا بإلهام مدبر عالم بجميع المعلومات .
وثالثها{[24747]} : أنه تعالى هو الذي أنعم على الخلائق{[24748]} بما به قوامهم من المطعوم ، والمشروب ، والملبوس ، والمنكوح ، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون المعادن من الجبال ، واللآلئ من البحار ، ويركبون الأدوية{[24749]} والدرياقات النافعة ، ويجمعون بين الأشياء المختلفة ، ويستخرجون لذائذ الأطعمة ، فدل ذلك على أنه تعالى هو الذي خلق الأشياء{[24750]} ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها ، وليس هذا مختص بالإنسان بل عام في جميع الحيوان ، فأعطى الإنسان إنسانةً ، والحمار حمارةً ، والبعير ناقةً هداه لها ليدوم التناسل{[24751]} ، وهدى الأولاد لثدي الأمهات ، بل هذا غيب مختص بالحيوانات{[24752]} ، بل هو حاصل في أعضائها ، فخلق اليد على تركيب خاص ، وأودع فيها قوة الأخذ ، وخلق الرِّجل على تركيب خاص ، وأودع فيها قوَّة المشي ، وكذا العين ، والأذن ، وجميع الأعضاء ، ثم ربط البعض بالبعض على وجه يحصل من ارتباطها مجموع واحد هو الإنسان .
وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع ، لأن اتصاف كلِّ جسمٍ من هذه الأجسام بتلك الصفة أعني التركيب والقوة الهادية إما أن يكون واجباً أو جائزاً ، والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن ذلك التركيب والقوى ، فدل على أن ذلك جائز ، والجائز لا بد له من مرجِّح ، وليس ذلك المرجِّح هو الإنسان ، ولا قواه ، لأنَّ فعل ذلك يستدعي قدرةً عليه ، وعلماً بما فيه من المصالح والمفاسد ، والأمران نائيان عن الإنسان ، لأنه{[24753]} بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة ، وبعد{[24754]} البحث الشديد عن{[24755]} كتب التشريح لا يعرف من منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل ؛ فلا بد وأن{[24756]} يكون المتولي{[24757]} لتدبيرها وترتيبها موجوداً آخر ، وذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسماً ، لأن الأجسام متساوية في الجسمية ، واختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثرية{[24758]} لا بد وأن يكون جائزاً فيفتقر إلى سبب آخر ، والدور والتسلسل محالان ، فلا بد من الانتهاء في سلسلة الحاجة{[24759]} إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني ، ثم تأثير ذلك المؤثر{[24760]} إما أن يكون بالذات أو بالاختيار ، والأول محال لأن الموجب لا يميز{[24761]} مثلاً عن مثل ، وهذه الأجسام متساوية في الجسمية فَلِمَ{[24762]} اختص بعضها بالصورة الفلكية وبعضها بالصورة العنصرية وبعضها بالنباتية ، وبعضها بالحيوانية ؟
فثبت أن المؤثر والمدبر قادر ، والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالماً ، ثم إن هذا{[24763]} المدبر الذي ليس بجسم ولا جسماني ولا بد وأن{[24764]} يكون واجب الوجود في ذاته{[24765]} وصفاته ، وإلا لافتقر إلى مدبر آخر ، ولزم التسلسل ، وهو محال ، وإن كان واجب الوجود في قادريته وعالميته ، والواجب لذاته لا يتخصص ببعض الممكنات دون البعض ، فوجب أن يكون عالماً بكل ما صح أن يكون معلوماً ، وقادراً على كل ما صح أن يكون مقدوراً ، فظهر{[24766]} بهذه الدلالة التي تمسك بها{[24767]} موسى وقررها{[24768]} احتياج العالم إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني ، وهو واجب الوجود في ذاته وصفاته عالم بكل المعلومات ، قادر على كل المقدورات ، وذلك هو الله سبحانه وتعالى{[24769]} .