الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ} (50)

قوله : { أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ } : في هذه الآية وجهان : أحدهما : أن يكونَ " كلَّ شيءٍ " مفعولاً أولَ ، و " خَلْقَه " مفعولاً ثانياً على معنى : أعطى كلَّ شيءٍ شكلَه وصورَته ، الذي يطابقُ المنفعةَ المنوطةَ به ، كما أعطى العينَ الهيئةَ التي تطابق الإِبصارَ ، والأذنَ الشكلَ الذي يطابقُ الاستماعَ ويوافقه ، وكذلك اليدُ والرِّجلُ واللسانُ ، أو أعطى كلَّ حيوانٍ نظيرَه في الخَلْق والصورةِ حيث جعل الحصانَ والحِجْر زوجين ، والناقةَ والبعيرَ ، والرجلَ والمرأةَ ، ولم يزاوِجْ شيءٌ منها غيرَ جنسِه ، ولا ما هو مخالفٌ لخَلْقِه . وقيل : المعنى : أعطى كلَّ شيءٍ مخلوقٍ خَلْقَه أي : هو الذي ابتدعه . وقيل : المعنى : أعطى كلَّ شيءٍ ممَّا خَلَق خِلْقَتَه وصورتَه على ما يناسبه من الإِتقانِ . لم يجعل خَلْقَ الإِنسانِ في خَلْقِ البهائم ، ولا بالعكس ، بل خَلَق كلَّ شيءٍ فَقدَّره تقديراً .

والثاني : أن يكونَ " كلَّ شيءٍ " مفعولاً ثانياً ، و " خَلْقَه " هو الأول ، فَقَدَّم الثاني عليه ، والمعنى : أعطى خليقته كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه ويَرْتفقون به .

وقرأ عبدُ الله والحسنُ والأعمشُ وأبو نهيكٍ وابنُ أبي إسحاق ونصير عن الكسائي وناسٌ من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم " خَلَقَه " بفتح اللام فِعْلاً ماضياً . وهذه الجملةُ في هذه القراءةِ تحتمل أَنْ تكونَ منصوبةً المحلِّ صفةً ل " كل " أو في محلِّ جَرِّ صفةً ل " شيء " ، وهذا معنى قولِ الزمخشري : " صفةٌ للمضاف يعني " كل " أو للمضافِ إليه " يعني " شيءٍ " . والمفعولُ الثاني على هذه القراءةِ محذوفٌ ، فيُحتملُ أَنْ يكونَ حَذْفُه حَذْفَ اختصارٍ للدلالةِ عليه أي : أعطى كلَّ شيءٍ خَلَقَه ما يحتاج إليه ويُصْلحه أو كمالَه ، ويحتمل أن يكونَ حذفُه حَذْفَ اقتصارٍ ، والمعنى : أن كلَّ شيءٍ خَلَقه الله لم يُخْلِه من إنعامِه وعطائِه .