في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ} (50)

فأما موسى - عليه السلام - فيرد بالصفة المبدعة المنشئة المدبرة من صفات الله تعالى : ( قال : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) . . ربنا الذي وهب الوجود لكل موجود في الصورة التي أوجده بها وفطره عليها . ثم هدى كل شيء إلى وظيفته التي خلقه لها ؛ وأمده بما يناسب هذه الوظيفة ويعينه عليها . وثم هنا ليست للتراخي الزمني . فكل شيء مخلوق ومعه الاهتداء الطبيعي الفطري للوظيفة التي خلق لها ، وليس هناك افتراق زمني بين خلق المخلوق وخلق وظيفته . إنما هو التراخي في الرتبة بين خلق الشيء واهتدائه إلى وظيفته ؛ فهداية كل شيء إلى وظيفته مرتبة أعلى من خلقه غفلا . .

وهذا الوصف الذي يحكيه القرآن الكريم عن موسى - عليه السلام - يلخص أكمل آثار الألوهية الخالقة المدبرة لهذا الوجود : هبة الوجود لكل موجود . . وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها . وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها . . وحين يجول الإنسان ببصره وبصيرته - في حدود ما يطيق - في جنبات هذا الوجود الكبير تتجلى له آثار تلك القدرة المبدعة المدبرة في كل كائن صغير أو كبير . من الذرة المفردة إلى أضخم الأجسام ، ومن الخلية الواحدة إلى أرقى أشكال الحياة في الإنسان .

هذا الوجود الكبير المؤلف مما لا يحصى من الذرات والخلايا ، والخلائق والأحياء ؛ وكل ذرة فيه تنبض ، وكل خلية فيه تحيا ، وكل حي فيه يتحرك ، وكل كائن فيه يتفاعل أو يتعامل مع الكائنات الأخرى . . وكلها تعمل منفردة ومجتمعة داخل إطار النواميس المودعة في فطرتها وتكوينها بلا تعارض ولا خلل ولا فتور في لحظة من اللحظات !

وكل كائن بمفرده كون وحده وعالم بذاته ، تعمل في داخله ذراته وخلاياه وأعضاؤه وأجهزته وفق الفطرة التي فطرت عليها ، داخل حدود الناموس العام ، في توافق وانتظام .

وكل كائن بمفرده - ودعك من الكون الكبير - يقف علم الإنسان وجهده قاصرا محدودا في دراسة خواصه ووظائفه وأمراضه وعلاجه . دراستها مجرد دراسة لا خلقها ولا هدايتها إلى وظائفها ، فذلك خارج كلية عن طوق الإنسان . وهو خلق من خلق الله . . وهبه وجوده ، على الهيئة التي وجد بها ? للوظيفة التي خلق لها ، كأي شيء من هاته الأشياء !

إلا أنه للإله الواحد . . ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . .