معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ} (81)

فلما رأت الملائكة ما يلقى لوط بسببهم : { قالوا يا لوط } ، إن ركنك لشديد ، { إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } ، فافتح الباب ودعنا وإياهم ، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل ربه عز وجل في عقوبتهم ، فأذن له ، فقام في الصورة آلتي يكون فيها فنشر جناحه وعليه وشاح من در منظوم ، وهو براق الثنايا ، أجلى الجبين ، ورأسه حبك مثل المرجان ، كأنه الثلج بياضا وقدماه إلى الخضرة ، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعمى ابصارهم ، فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم . فانصرفوا وهم يقولون : النجاء النجاء ، فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض سحرونا ، وجعلوا يقولون : يا لوط كما أنت حتى تصبح فسترى ما تلقى منا غدا . يوعدونه ، فقالت الملائكة : لا تخف إنا أرسلنا لإهلاكهم . فقال لوط للملائكة : متى موعد إهلاكهم ؟ فقالوا : الصبح ، قال : أريد أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن ، فقالوا أليس الصبح بقريب ؟ ثم قالوا ، { فأسر } ، يا لوط ، { بأهلك } . قرأ أهل الحجاز فاسر وأن اسر بوصل الألف حيث وقع في القرآن من سرى يسري ، وقرأ الباقون بقطع الألف من أسرى يسري ، ومعناهما واحد وهو المسير بالليل .

قوله تعالى : { بقطع من الليل } ، قال ابن عباس : بطائفة من الليل . وقال الضحاك : ببقية . وقال قتادة : بعد مضي أوله وقيل : إنه السحر الأول .

قوله تعالى : { ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك } ، قرأ ابن كثير و أبو عمرو : { امرأتك } برفع التاء على الاستثناء من الالتفات ، أي : لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت فتهلك ، وكان لوط قد أخرجها معه ، ونهى من تبعه ممن أسرى بهم أن يلتفت ، سوى زوجته ، فإنها لما سمعت هذه العذاب التفتت ، وقالت : يا قوماه ، فأدركها حجر فقتلها . وقرأ الآخرين : بنصب التاء على الاستثناء من الإسراء ، أي : فأسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسر بها وخلفها مع قومها ، فإن هواها إليهم ، وتصديقه قراءة ابن مسعود : { فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك } . { إنه مصيبها ما أصابهم } ، من العذاب ، { إن موعدهم الصبح } ، أي : موعد هلاكهم وقت الصبح ، فقال لوط : أريد أسرع من ذلك ، فقالوا { أليس الصبح بقريب } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ} (81)

69

وعندما ضاقت واستحكمت حلقاتها ، وبلغ الكرب أشده . . كشف الرسل للوط عن الركن الشديد الذي يأوي إليه :

( قالوا : يا لوط ، إنا رسل ربك ، لن يصلوا إليك ) . .

وأنبأوه نبأهم ، لينجو مع أهل بيته الطاهرين ، إلا امرأته فإنها كانت من القوم الفاسدين :

( فأسر بأهلك بقطع من الليل ، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك . إنه مصيبها ما أصابهم ، إن موعدهم الصبح . أليس الصبح بقريب ؟ ) . .

والسرى : سير الليل ، والقطع من الليل : بعضه ، ولا يلتفت منكم أحد . أى لا يتخلف ولا يعوق . لأن الصبح موعدهم مع الهلاك . فكل من بقي في المدينة فهو هالك مع الهالكين .

( أليس الصبح بقريب ؟ ) . .

سؤال لإنعاش نفس لوط بعد ما ذاق . لتقريب الموعد وتأكيده . فهو قريب . مع مطلع الصباح . ثم يفعل الله بالقوم - بقوته - ما لم تكن قوة لوط التي تمناها فاعلة !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ} (81)

يقول تعالى مخبرًا عن نبيه لوط ، عليه السلام : إن لوطا توعدهم بقوله{[14793]} : { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [ أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ] } {[14794]} أي : لكنت نكلت بكم وفعلت بكم الأفاعيل [ من العذاب والنقمة وإحلال البأس بكم ]{[14795]} بنفسي وعشيرتي ، ولهذا ورد في الحديث ، من طريق محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رحمة الله على لوط ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني : الله عز وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه " {[14796]} .

[ وروي من حديث الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا ومن حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به ، ومن حديث ابن لهيعة عن أبي يونس سمع أبا هريرة به وأرسله الحسن وقتادة ]{[14797]} . فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم{[14798]} رُسل الله إليه ، و[ وبشروه ]{[14799]} أنهم لا وصول لهم إليه [ ولا خلوص ]{[14800]} { قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل ، وأن يتَّبع أدبارهم ، أي : يكون ساقة لأهله ، { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ } أي : إذا سمعت{[14801]} ما نزل بهم ، ولا تهولنَّكم{[14802]} تلك الأصوات المزعجة ، ولكن استمروا ذاهبين [ كما أنتم ]{[14803]} .

{ إِلا امْرَأَتَكَ } قال الأكثرون : هو استثناء من المثبت{[14804]} وهو قوله : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } تقديره { إِلا امْرَأَتَكَ } وكذلك قرأها ابن مسعود ونصب هؤلاء امرأتك ؛ لأنه من مثبت{[14805]} فوجب نصبه عندهم .

وقال آخرون من القراء والنحاة : هو استثناء من قوله : { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ } فجَّوزوا الرفع والنصب ، وذكر هؤلاء [ وغيرهم من الإسرائيليات ]{[14806]} أنها خرجت معهم ، وأنها لما سمعت الوَجْبَة التفتت وقالت{[14807]} واقوماه . فجاءها حجر من السماء فقتلها{[14808]} .

ثم قربوا له هلاك قومه تبشيرًا له ؛ لأنه قال لهم : " أهلكوهم الساعة " ، فقالوا : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } هذا وقومُ لُوطِ وقُوف على الباب وعُكوف قد جاءوا يُهرعون إليه من كل جانب ، ولوط واقف على{[14809]} الباب يدافعهم ويردعهم وينهاهم عما هم فيه ، وهم لا يقبلون منه ، بل يتوعدونه ، فعند ذلك خرج عليهم جبريل ، عليه السلام ، فضرب وجوههم بجناحه ، فطمس أعينهم ، فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ] } [ القمر : 37 - 39 ]{[14810]} .

وقال مَعْمَر ، عن قتادة ، عن حذيفة بن اليمان قال : كان إبراهيم ، عليه السلام ، يأتي{[14811]} قوم لوط ، فيقول : أنَهاكم{[14812]} الله أن تَعَرّضوا لعقوبته ؟ فلم يطيعوه ، حتى إذا بلغ الكتاب أجله [ لمحل عذابهم وسطوات الرب بهم قال ]{[14813]} انتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له ، فدعاهم إلى الضيافة فقالوا : إنا ضيوفك{[14814]} الليلة ، وكان الله قد عهد إلى جبريل ألا يُعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شَهادات فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة ، ذكر ما يعمل قومه من الشر [ والدواهي العظام ]{[14815]} ، فمشى معهم ساعة ، ثم التفت إليهم فقال : أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض شرا منهم . أين أذهب بكم ؟ إلى قومي وهم [ من ]{[14816]} أشر خلق الله ، فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال : احفظوها{[14817]} هذه واحدة . ثم مشى معهم ساعة ، فلما توسط القرية وأشفق عليهم واستحيا منهم قال : أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض أشر منهم ، إن قومي أشر خلق الله . فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال : احفظوا ، هاتان اثنتان ، فلما انتهى إلى باب الدار بكى حياء منهم وشفقة عليهم فقال{[14818]} إن قومي أشر من خلق الله ؟{[14819]} أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرًا منهم . فقال جبريل للملائكة : احفظوا ، هذه ثلاث ، قد حق العذاب . فلما دخلوا ذهبت عجوز السوء فصعدت فلوحت بثوبها ، فأتاها الفساق يُهرَعون سراعا ، قالوا : ما عندك ؟ قالت : ضَيَّف لوطًا قوم{[14820]} ما رأيت قط أحسن وجوها منهم ، ولا أطيب ريحًا منهم . فهُرعوا يسارعون إلى الباب ، فعالجهم لوط على الباب ، فدافعوه طويلا هو داخل وهم خارج ، يناشدهم الله ويقول : { هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } فقام الملك فَلَزّ{[14821]} بالباب - يقول فسده{[14822]} - واستأذن جبريل في عقوبتهم ،

فأذن الله له ، فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء ، فنشر جناحه . ولجبريل جناحان ، وعليه وشاح من درّ منظوم ، وهو براق الثنايا ، أجلى الجبين ، ورأسه حُبُكٌ حُبُك مثل المرجان وهو اللؤلؤ ، كأنه الثلج ، ورجلاه إلى الخضرة . فقال يا لوط : { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } امض يا لوط عن الباب ودعني وإياهم ، فتنحى لوط عن الباب ، فخرج إليهم ، فنشر جناحه ، فضرب به وجوههم ضربة شدخ أعينهم ، فصاروا عُمْيًا لا يعرفون الطريق [ ولا يهتدون بيوتهم ]{[14823]} ثم أمر لوط فاحتمل بأهله في ليلته قال : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ } {[14824]} .

وروي عن محمد بن كعب [ القرظي ]{[14825]} وقتادة ، والسدي نحو هذا .


[14793]:- في ت ، أ : "عليه السلام إنه توعدهم بهذا الكلام وهو قوله".
[14794]:- زيادة من ت ، أ ، وفي هـ : "الآية".
[14795]:- زيادة من ت ، أ.
[14796]:- رواه الترمذي في السنن برقم (3116) من طريق الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو به ، ورواه عن طريق عبدة وعبد الرحيم عن محمد بن عمرو ونحو حديث الفضل بن موسى ، وقال الترمذي : "وهذا - أي الطريق الثاني - أصح من رواية الفضل بن موسى وهذا حديث حسن".
[14797]:- زيادة من ت ، أ.
[14798]:- في ت : "بأنهم".
[14799]:- زيادة من ت ، أ.
[14800]:- زيادة من ت ، أ.
[14801]:- في ت ، أ : "إذا سمعتم".
[14802]:- في ت : "ولا تهيلنكم".
[14803]:- زيادة من ت ، أ.
[14804]:- في ت : "من المبيت".
[14805]:- في ت : "من مبيت".
[14806]:- زيادة من ت ، أ.
[14807]:- في ت : "فقالت".
[14808]:- في ت : "فقتلتها".
[14809]:- في ت ، أ : "في".
[14810]:- زيادة من ت ، أ ، وفي هـ : "الآية".
[14811]:- في ت ، أ : "يأتيهم يعني".
[14812]:- في ت ، أ : "أنهاكم الله عنه".
[14813]:- زيادة من ت ، أ ، والطبري.
[14814]:- في ت : "مضيفوك".
[14815]:- زيادة ، ت ، أ.
[14816]:- زيادة من ت ، أ.
[14817]:- في ت ، أ : "احفظوا".
[14818]:- في ت : "وقال".
[14819]:- في ت ، أ : "أشر".
[14820]:- في ت ، أ : "الليلة".
[14821]:- في أ : "فكن".
[14822]:- في ت : "فشده" ، وفي أ : "نسده".
[14823]:- زيادة من ت ، أ ، والطبري.
[14824]:- رواه الطبري في تفسيره (15/429).
[14825]:- زيادة من ت ، أ.

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ} (81)

فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب { قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا فهون عليك ودعنا وإياهم ، فخلاهم أن يدخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم ، فخرجوا يقولون النجاء النجاء فإن في بيت لوط سحرة . { فأسْرِ بأهلك } بالقطع من الإسراء ، وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث وقع في القرآن من السري . { بقطع من الليل } بطائفة منه . { ولا يلتفت منكم أحد } ولا يتخلف أو لا ينظر إلى ورائه والنهي في اللفظ أحد وفي المعنى للوط . { إلا امرأتك } استثناء من قوله : { فأسر بأهلك } ويدل عليه أنه قرئ فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك ، وهذا إنما يصح على تأويل الالتفات بالتخلف فإنه إن فسر بالنظر إلى الوراء في الذهاب ناقض ذلك قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالرفع على البدل من أحد ، ولا يجوز حمل القراءتين على الروايتين في أنه خلفها مع قومها أو أخرجها فلما سمعت صوت العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأدركها حجر فقتلها ، لأن القواطع لا يصح حملها على المعاني المتناقضة ، والأولى جعل الاستثناء في القراءتين من قوله : { ولا يلتفت } مثله في قوله تعالى : { ما فعلوه إلا قليل } ولا يبعد أن يكون أكثر القراء على غير الأفصح ، ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل عدم نهيها عنه استصلاحا ولذلك علل طريقة الاستئناف بقوله : { إنه مُصيبها ما أصابهم } ولا يحسن جعل الاستثناء منقطعا على قراءة الرفع . { إن موعدهم الصبح } كأنه علة الأمر بالإسراء . { أليس الصّبح بقريب } جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ} (81)

الضمير في { قالوا } ضمير الملائكة ، ويروى أن لوطاً لما غلبوه وهموا بكسر الباب وهو يمسكه قالت له الرسل : تنح عن الباب : فتنحى وانفتح الباب فضربهم جبريل عليه السلام بجناحه فطمس أعينهم وعموا ، وانصرفوا على أعقابهم يقولون : النجاء النجاء ، فعند لوط قوم سحرة ، وتوعدوا لوطاً ، ففزع حينئذ من وعيدهم ، فحينئذ قالوا له : { إنا رسل ربك } فأمن ، ذكر هذا النقاش ؛ وفي تفسير غيره ما يقتضي أن قولهم : { إنا رسل ربك } كان قبل طمس العيون ، ثم أمروه بالسرى وأعلموه أن العذاب نازل بالقوم ، فقال لهم لوط : فعذبوهم الساعة ، قالوا له : { إن موعدهم الصبح } أي بهذا أمر الله ، ثم أنسوه في قلقه بقولهم : { أليس الصبح بقريب } .

وقرأ نافع وابن كثير «فأسر » من سرى إذا سار في أثناء الليل ، وقرأ الباقون «فاسرِ » إذا سار في أول الليل و «القطع » القطعة من الليل ، ويحتمل أن لوطاً أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوز البلد المقتلع ، ووقعت نجاته بسحر فتجتمع هذه الآية مع قوله : { إلا آل لوط نجيناهم بسحر }{[6451]} وبيت النابغة جمع بين الفعلين في قوله : [ البسيط ]

أسرت عليه من الجوزاء سارية*** تزجي الشمال عليه جامد البرد{[6452]}

فذهب قوم إلى أن سرى وأسرى بمعنى واحد واحتجوا بهذا البيت .

قال القاضي أبو محمد : وأقول إن البيت يحتمل المعنيين ، وذلك أظهر عندي لأنه قصد وصف هذه الديمة ، وأنها ابتدأت من أول الليل وقت طلوع الجوزاء في الشتاء .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «إلا امرأتُك » بالرفع على البدل من { أحد } وهذا هو الأوجه إذا استثني من منفي ، كقولك : ما جاءني أحد إلا زيد ، وهذا هو استثناء الملتفتين ، وقرأ الباقون «إلا أمرأتَك » بالنصب ، ورأت ذلك فرقة من النحاة الوجه في الاستثناء من منفي ، إذ الكلام المنفي في هذا مستقل بنفسه كالموجب ، فإذ هو مثله في الاستقلال ، فحكمه كحكمه في نصب المستثنى ؛ وتأولت فرقة ممن قرأ : «إلا امرأتَك » بالنصب أن الاستثناء وقع من الأهل كأنه قال : «فأسر بأهلك إلا امرأتَك » . وعلى هذا التأويل لا يكون إلا النصب ، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : لو كان الكلام : «ولا يلتفتُ » - بالرفع - لصح الرفع في قوله : «إلا أمرأتُك » ولكنه نهي ، فإذا استثنيت «المرأة » من { أحد } وجب أن تكون «المرأة » أبيح لها الالتفات فيفسد معنى الآية .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الاعتراض حسن ، يلزم الاستثناء من { أحد } رفعت التاء أو نصبت والانفصال عنه يترتب بكلام حكي عن المبرد ، وهو أن النهي إنما قصد به لوط وحده ، و «الالتفات » منفي عنهم بالمعنى ، أي لا تدع أحداً منهم يلتفت ، وهذا كما تقول لرجل : لا يقم من هؤلاء أحد إلا زيد ، وأولئك لم يسمعوك ، فالمعنى : لا تدع أحداً من هؤلاء يقوم والقيام بالمعنى منفي عن المشار إليهم .

قال القاضي أبو محمد : وجملة هذا أن لفظ الآية هو لفظ قولنا : لا يقم أحد إلا زيد ، ونحن نحتاج أن يكون معناها معنى قولنا : لا يقم أحد إلا زيد وذلك اللفظ لا يرجع إلى هذا المعنى إلا بتقدير ما حكيناه عن المبرد ، فتدبره . ويظهر من مذهب أبي عبيد أن الاستثناء ، إنما هو من الأهل{[6453]} . وفي مصحف ابن مسعود : «فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك » وسقط قوله : { ولا يلتفت منكم أحد }{[6454]} . والظاهر في { يلتفت } أنها من التفات البصر ، وقالت فرقة : هي من لفت الشيء يلفته إذا ثناه ولواه ، فمعناه : ولا يتثبط . وهذا شاذ مع صحته وفي كتاب الزهراوي : أن المعنى : ولا يلتفت أحد إلى ما خلف ، بل يخرج مسرعاً مع لوط عليه السلام : وروي أن امرأة لوط لما سمعت الهدة ردت بصرها وقالت : واقوماه ، فأصابها حجر فقتلها .

وقرأت فرقة : «الصبُح » بضم الباء .


[6451]:- من الآية (34) من سورة (القمر).
[6452]:- البيت من قصيدة النابغة المشهورة التي يقول في مطلعها: يا دار ميّة بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد ورواية الديوان: (سرت)، والجوزاء: منزلة من منازل الشمس الربيعية، وهي من الأنواء إذا نشأ السحاب من جهتها كان شديد المطر. والساريّة: السحابة تسير بالليل، وتُزجي: تسوق وتدفع. والبرد: الماء المتجمد في قطع صغيرة تنزل من السحاب، ويسمى حب الغمام وحب المزن.
[6453]:- قيل: إذا جعلنا الاستثناء من الأهل كان فيه إشكال من جهة المعنى، إذ يلزم ألا يكون أسري بها، ولما التفتت دلّ ذلك على أنها قد سرت معهم قطعا، وأجيب بانها لم يسر بها ولكنها تبعتهم ثم التفتت فأصابها الهلاك.
[6454]:- قال بعض العلماء: الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، ولكن استؤنف الإخبار عنها، فالمعنى: "لكن أمرتك يجري لها كذا وكذا"، ويؤيد هذا المعنى أن مثل هذه الآية جاءت في (الحجر) وليس فيها استثناء ألبتة، قال تعالى: {فأسر بأهلك بقطع من الليل واتّبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون} (الآية 65) من سورة (الحجر)- فلم تقع العناية في ذلك إلا بذكر من أنجاهم الله تعالى، فجاء شرح حال امرأة لوط في سورة (هود) تبعا لا مقصودا مما تقدم، وإذا اتضح هذا المعنى عُلم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع، ففيه النصب والرفع، فالنّصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر، والرفع لبني تميم وعليه اثنان من القراء. اهـ. ولكن أبا حيان لم يقبل هذا الكلام، وردّ عليه بأنه لا تحقيق فيه، فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات وجُعل استثناء منقطعا كان من الاستثناء المنقطع الذي لم يتوجه عليه العامل بحال، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع العرب، وليس فيه النصب والرفع باعتبار اللغتين، وإنما هذا في الاستثناء المنقطع الذي يمكن توجّه العامل عليه، وفي كلا النوعين من الاستثناء المنقطع يكون ما بعد (إلا) من غير الجنس المستثنى منه، وكونه هنا جاز فيه اللغتان دليل على أنه مما يمكن أن يتوجه عليه العامل، وهو قد فرض أنه لم يُقصد بالاستثناء إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات، فكان يجب فيه النصب إذ ذاك قولا واحدا".اهـ
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ} (81)

هذا كلام الملائكة للوط عليه السّلام كاشفوه بأنّهم ملائكة مرسلون من الله تعالى . وإذ قد كانوا في صورة البشر وكانوا حاضري المجادلة حكى كلامهم بمثل ما تحكى به المحاورات فجاء قولهم بدون حرف العطف على نحو ما حكي قول : لوط عليه السّلام وقول قومه . وهذا الكلام الذي كلّموا به لوطاً عليه السّلام وحي أوحاه الله إلى لوط عليه السّلام بواسطة الملائكة ، فإنه لمّا بلغ بِلُوط توقعُ أذى ضيفه مبلغَ الجزع ونفاد الحيلة جاءه نصر الله على سنّة الله تعالى مع رسله { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا } [ يوسف : 110 ] .

وابتدأ الملائكة خطابهم لوطاً عليه السّلام بالتعريف بأنفسهم لتعجيل الطمأنينة إلى نفسه لأنّه إذا علم أنهم ملائكة علم أنهم ما نزلوا إلاّ لإظهار الحق . قال تعالى : { ما تنزّل الملائكةُ إلاّ بالحق وما كانوا إذاً منْظرين } [ الحجر : 8 ] . ثم ألحقوا هذا التعريف بالبشارة بقولهم : { لن يصلوا إليك } . وجيء بحرف تأكيد النفي للدّلالة على أنهم خاطبوه بما يزيل الشك من نفسه . وقد صرف الله الكفّار عن لوط عليه السّلام فرجعوا من حيث أتوا ، ولو أزال عن الملائكة التشكّل بالأجساد البشرية فأخفاهم عن عيون الكفّار لحسبوا أنّ لوطاً عليه السّلام أخفاهم فكانوا يؤذون لوطاً عليه السّلام . ولذلك قال له الملائكة { لن يصلوا إليك } ولم يقولوا لن ينالوا ، لأنّ ذلك معلوم فإنهم لمّا أعلموا لوطاً عليه السّلام بأنهم ملائكة ما كان يشك في أن الكفّار لا ينالونهم ، ولكنّه يخشى سورتهم أن يتّهموه بأنه أخفاهم .

ووقع في التوراة أن الله أعمى أبصار المراودين لوطاً عليه السّلام عن ضيفه حتى قالوا : إنّ ضيف لوط سَحرة فانصرفوا . وذلك ظاهر قوله تعالى : في سورة [ القمر : 37 ] { ولقد رَاودوه عن ضيفه فطمسْنا أعينهم . } وجملة لن يصلوا إليك } مبيّنة لإجمال جملة { إنّا رسُل ربّك } ، فلذلك فصلت فلم تعطف لأنها بمنزلة عطف البيان .

وتفريع الأمر بالسُرى على جملة { لن يصلوا إليك } لما في حرف { لَن } من ضمان سلامته في المستقبل كلّه . فلمّا رأى ابتداء سلامته منهم بانصرافهم حسن أن يبين له وجه سلامته في المستقبل منهم باستئصالهم وبنجاته ، فذلك موقع فاء التفريع .

و ( أسْر ) أمر بالسُرى بضم السين والقصر . وهو اسم مصدر للسير في الليل إلى الصباح . وفعله : سَرى يقال بدون همزة في أوّله ويقال : أسرى بالهمزة .

قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو جعفر بهمزة وصل على أنه أمر من سَرى . وقرأه الباقون بهمزة قطع على أنه من أسرى .

وقد جمعوه في الأمر مع أهله لأنه إذا سرى بهم فقد سرى بنفسه إذ لو بعث أهله وبقي هو لَمَا صحّ أن يقال : أسْر بهم للفرق بين أذهبت زيداً وبين ذهبت به .

والقِطْع بكسر القاف : الجزء من الليل .

وجملة { ولا يلتفت منكم أحد } معترضة بين المستثنى والمستثنى منه . والالتفات المنهي عنه هو الالتفات إلى المكان المأمور بمغادرته كَمَا دَلّت عليه القرينة .

وسبب النهي عن الالتفات التقصي في تحقيق معنى الهجرة غضباً لحرمات الله بحيث يقطع التعلق بالوطن ولو تعلّق الرؤية . وكان تعيين الليل للخروج كَيْلاَ يُلاَقِي ممانعة من قومه أو من زوجه فيشقُّ عليه دفاعهم .

و { إلاّ امرأتَك } استثناء من { أهلك } ، وهو منصوب في قراءة الجمهور اعتباراً بأنه مستثنى من { أهلك } وذلك كلام موجب ، والمعنى : لا تسْر بها ، أريد أن لا يعلمها بخروجه لأنها كانت مخلصة لقومها فتخبرهم عن زوجها . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو برفع { امرأتك } على أنه استثناء من { أحد } الواقع في سياق النهي ، وهو في معنى النفي . قيل : إنّ امرأته خرجت معهم ثم التفتت إلى المدينة فحنّت إلى قومها فرجعت إليهم . والمعنى أنه نهاهم عن الالتفات فامتثلوا ولم تمتثل امرأتُه للنهي فالتفتت ، وعلى هذا الوجه فالاستثناء من كلام مقدّر دلّ عليه النهي . والتقدير : فلا يلتفتون إلاّ امرأتك تلتفتُ .

وجملة { إنّه مصيبها ما أصابهم } استئناف بياني ناشىء عن الاستثناء من الكلام المقدّر .

وفي قوله : { ما أصابهم } استعمال فعل المضي في معنى الحال ، ومقتضى الظاهر أن يقال : ما يصيبهم ، فاستعمال فعل المضي لتقريب زمن الماضي من الحال نحو قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية ، أو في معنى الاستقبال تنبيهاً على تحقق وقوعه نحو قوله تعالى : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] .

وجملة { إنّ موعدهم الصبح } مستأنفة ابتدائية قُطعت عن التي قبلها اهتماماً وتهويلاً .

والموعد : وقت الوعد . والوعد أعمّ من الوعيد فيطلق على تعيين الشرّ في المستقبل . والمراد بالموعد هنا موعد العذاب الذي علمه لوط عليه السّلام إما بوحي سابق ، وإما بقرينة الحال ، وإما بإخبار من الملائكة في ذلك المقام طَوته الآية هنا إيجازاً ، وبهذه الاعتبارات صحّ تعريف الوعد بالإضافة إلى ضميرهم .

وجملة { أليس الصبح بقريب } استئناف بيانيّ صدر من الملائكة جواباً عن سؤال بجيش في نفسه من استبطاء نزول العذاب .

والاستفهام تقريريّ ، ولذلك يقع في مثله التقرير على النفي إرخاء للعنان مع المخاطب المقرّر ليعرف خطأه . وإنّما قالوا ذلك في أوّل الليل .