اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ} (81)

فلما رأت الملائكةُ ما يلقى لوطٌ بسببهم : { قَالُوا يا لوط } إنَّ ركنك شديدٌ { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ } بسوءٍ ومكروه فإنا نحولُ بينهم وبين ذلك ، فافتح الباب ، ودعنا وإيَّاهم ؛ ففتح الباب ودخلوا ، واستأذن جبريلُ - عليه الصلاة والسلام - ربه - عزَّ وجلَّ - في عقوبتهم فأذن لهُ - فقام في الصُّورة اليت يكون فيها ؛ فنشر جناحيه ، وعليه وشاح من دُرٍّ منظوم ، وهو براق الثَّنايا ، أجلى الجبين ، ورأسه مثل المرجان كأنَّه الثلج بياضاً ، وقدماه إلى الخضرة ، فضرب بجناحيه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطَّريق ، فانصرفوا وهم يقولون : النَّجاة النَّجاة في بيت لوطٍ أسحرُ قوم في الأرض ، سحرونا ، وجَعلوا يقولون : يا لوطُ كما أنت حتى تصبح ، وسترى ما تلقى منَّا غداً ، فقال لوطٌ للملائكةِ : متى موعد هلاكهم ؛ فقالوا : الصُّبح ، قال : أريدُ أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن ، فقالوا { أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } .

قوله : " فَأَسْرِ " قرأ نافعٌ{[18922]} وابنُ كثيرٍ : ( فأسر بأهلك ) هنا وفي الحجر ، وفي الدخان ( فاسر بعبادي ) ، وقوله : ( أن اسر ) في طه والشعراء ، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط درجاً وتثبتُ مكسورة ابتداء .

والباقُون : " فأسْرِ " بهمزة القطع تَثْبتُ مفتوحةً درجاً وابتداء ، والقراءتان مأخوذتان من لغتي هذا الفعل فإنَّهُ يقال : سَرَى ، ومنه { والليل إِذَا يَسْرِ } [ الفجر : 4 ] ، وأسْرَى ، ومنه : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] وهل هما بمعنى واحدٍ أو بينهما فرقٌ ؟ خلافٌ فقيل : هما بمعنى واحدٍ ، وهو قولُ أبي عبيدٍ .

وقيل : أسْرَى لأولِ الليل ، وسرى لآخره ، وهو قولُ اللَّيْثِ - رحمه الله - وأمَّا " سَارَ " فمختص بالنَّهار ، وليس مقلُوباً من " سَرَى " .

فإن قيل " السُّرى " لا يكون إلاَّ بالليل ، فما الفائدةُ في قوله : { بِقِطْعٍ مِّنَ الليل } ؟

فالجواب : أنه لو لم يقل " بقطع من الليل " جاز أن يكون أوله .

قوله : " بأهلك " يجوز أن تكون الباء للتعدية ، وأن تكون للحال أي : مصاحبا لهم .

وقوله : " بقطع " حال من " أهلك " أي : مصاحبين لقطع ، على أن المراد به الظلمة وقيل : الباء بمعنى " في " .

والقطع : نصف الليل ؛ لأنه قطعة منه مساوية لباقيه ؛ وأنشد : [ الوافر ]

3005- ونائحة تنوح بقطع ليل *** على رجل بقارعة الصعيد{[18923]}

وقال نافع بن الأزرق لعبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- : أخبرني عن قول الله- عز وجل-{ بقطع من الليل } قال : هو آخر الليل سحر{[18924]} وقال قتادةُ : بعد طائفة من اللَّيلِ{[18925]} .

وتقدم في سورة يونس .

ثم قال : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } في الالتفات وجهان :

أحدهما : نظر الإنسان إلى ما وراءه ، فيكونُ المرادُ أنه كان لهم في البلد أموال نهوا عن الالتفات إليها .

والثاني : أنَّ المراد بالالتفات الانصرافُ ؛ كقوله تعالى : { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } [ يونس : 78 ] أي : لتصرفنا والمراد نهيهم عن التَّخلُّفِ .

قوله : { إِلاَّ امرأتك } قرأ ابنُ كثير{[18926]} ، وأبو عمرو برفع " امْرأتُكَ " والباقون بنصبها . وفي هذه الآية كلامٌ كثيرٌ . أمَّا قراءةُ الرَّلإع ففيها وجهان :

أشهرهما - عند المعربين - أنَّه على البدل من " أحد " وهو أحسنُ من النَّصب ، لأنَّ الكلام غيرُ موجب .

وهذا الوجهُ ردَّهُ أبو عبيد بأنه يلزمُ منه أنَّهُم نُهُوا عن الالتفاتِ إلاَّ المرأة ، فإنَّها لم تُنْه عنه ، وهذا لا يجُوزُ ، ولوْ كان الكلامُ " ولا يَلْتَفِت " برفع " يَلْتَفتْ " يعني على أن تكون " لا " نافيةً ، فيكون الكلامُ خبراً عنهم بأنَّهُم لم يلتفتُوا إلاَّ امرأته فإنَّها تلتفتُ لكان الاستثناء بالبدليَّة واضحاً ، لكنَّهُ لم يقرأ برفع " يَلْتَفِتُ " أحد .

واستحسن ابنُ عيطة هذا الإلزامَ من أبي عبيدٍ .

وقال : " إنَّه واردٌ على القول باستثناءِ المرأة من " أحد " سواءً رفعت المرأة أو نصبتها " .

وهذا صحيحٌ ، فإنَّ أبا عبيد لم يُرد الرفع لخصوصِ كونه رفعاً ، بل لفسادِ المعنى ، وفسادُ المعنى دائر مع الاستثناء من " أحد " ، وأبو عبيد يخرِّجُ النصب على الاستثناء من " بِأَهْلِكَ " ولكنَّهُ يلزمُ من ذلك إبطالُ قراءة الرَّفع ، ولا سبيل إلى ذلك لتواتُرها .

وقد انفصل المبرِّدُ عن هذا الإشكال الذي أورده أبو عبيد بأنَّ النَّهْيَ في اللفظ ل " أحَد " وهو في المعنى للوط - عليه الصلاة والسلام - ، إذ التقدير : لا تدعْ منهم أحداً يلتفتُ ، كقولك لخادمك : " لا يَقُمْ أحَدٌ " النَّهْيُ ل " أحد " وهو في المعنى للخادم ، إذ المعنى : لا تدعْ أحداً يقومُ .

فآل الجوابُ إلى أنَّ المعنى لا تدعْ أحداً يلتفتُ إلاَّ امرأتك فدعها تلتفتُ ، هذا مقتضى الاستثناء كقولك : " لا تدَعْ أحَداً يقوم إلاَّ زيداً " معناه : فدعهُ يقوم . وفيه نظرٌ ، إذ المحذور الذي قد فرَّ منه أبو عبيد موجودٌ هو أو قريب منه هنا .

والثاني : أنَّ الرفع على الاستثناءِ المنقطع .

وقال أبو شامة : قراءةُ النَّصب أيضاً من الاستثناء المنقطع ، فالقراءتان عنده على حدِّ سواء ، ولنسرُدْ كلامه قال : " الذي يظهرُ أنَّ الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع ، لم يقصدْ به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيين عن الالتفات ، ولكن استؤنف الإخبار عنها ، فالمعنى : لكن امرأتكَ يجري لها كذا وكذا ، ويؤيدُ هذا المعنى أنَّ مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجرِ ، وليس فيها استثناءٌ ألبتَّة ، قال تعالى : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } [ الحجر : 65 ] الآية .

فلم تقع العنايةُ في ذلك إلاَّ بذكر من أنجاهم الله تعالى ، فجاء شرح حالِ امرأته في سورة [ هود ] تبعاً لا مقصوداً بالإخراج ممَّا تقدَّم ، وإذا اتَّضح هذا المعنى عُلم أنَّ القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع ، وفيه النصبُ والرفعُ ، فالنَّصب لغةُ أهلِ الحجاز ، وعليه الأكثر ، والرَّفعُ لغةُ تميم ، وعليه اثنان من القراء " .

قال أبُو حيَّان{[18927]} : " هذا الذي طوَّل به لا تحقيق فيه ، فإنَّه إذا لم يقصد إخراجها من المأمُور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ ، وجعل اسثناءً منقطعاً ، كان من المنقطع الذي لمْ يتوجَّهْ عليه العاملُ بحالٍ ، وهذا النَّوعُ يجبُ فيه النَّصْبُ على كلتا اللغتين وإنَّما تكون اللغتان فيما جاز توُّجهُ العامل عليهن وفي كلا النوعين يكون ما بعد " إلاَّ " من غير الجنس المستثنى ، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنَّهُ يتوجَّه عليه العاملُ وهو أنه قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ ؛ فكان يجبُ فيه إذ ذاك النَّصْبُ قولاً واحداً .

قال شهابُ الدِّين{[18928]} : " أمَّا قوله : " إنَّه لم يتوجَّه عليه العامل " ليس بمسلَّم ، بل يتوجَّهُ عليه في الجملة ، والذي قاله النُّحاة ممَّا لم يتوجَّه عليه العاملُ من حيثُ المعنى نحو : ما زاد إلاَّ ما نقص ، وما نفع إلاَّ ما ضرَّ ، وهذا ليس من ذاك ، فكيف يعترض به على أبي شامة ؟ " .

وأمَّا النصب ففيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنَّهُ مستثنى من " بأهلكَ " ، واستشكلُوا عليه إشكالاً من حيث المعنى : وهو أنه يلزمُ ألاَّ يكون سرى بها ، لكن الفرض أنه سرى بها يدلُّ عليه أنَّها التفتت ، ولو لم تكن معهم لما حسن الإخبار عنها بالالتفات ، فالالتفاتُ يدل على كونها سرت معهم قطعاً .

وقد أجيب عنه بأنه لم يَسْرِ هو بها ، ولكن لمَّا سرى هو وبنتاه تبعتهم فالتفتت ، ويؤيِّد أنَّه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد الله وسقط من مصحفه ، " فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقطْعٍ من اللَّيْلِ إلاَّ امرأتك " ولم يذكر قوله { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } .

والثاني : أنَّهُ مستثنى منْ " أحد " وإن كان الأحسنُ الرّفع إلاَّ أنَّهُ جاء كقراءة ابن عامرٍ : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] ، بالنَّصْبِ مع تقدُّم النفي الصَّريح .

وهناك تخريجٌ آخرُ لا يمكن هنا .

والثالث : أنه مستثنى منقطعٌ على ما تقدَّم عن أبي شامة .

وقال الزمخشري{[18929]} : " وفي إخراجها مع أهله روايتان ، روي أنَّه أخرجها معهم ، وأمر أن لا يلتفت منهم أحدٌ إلاَّ هي ، فلمَّا سمعتْ هدَّة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه ، فأدركها حجرٌ فقتلها ، وروي أنه أمر بأن يخلِّفها مع قومها فإنَّ هواها إليهم ولم يَسْرِ بها ، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين " .

قال أبُو حيَّان{[18930]} : " وهذا وهمٌ فاحشٌ ، إذْ بَنَى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنَّه سرى بها أو لم يسر بها وهذا تكاذبٌ في الإخبار ، يستحيلُ أن تكون القراءتان - وهما من كلام الله تعالى - يترتبان على التَّكاذُبِ " .

قال شهابُ الدِّين{[18931]} : " وحاش لله أن تترتب القراءتان على التَّكاذُبِ ، ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ ، الفرض أنَّهُ قد جاء القولان في التفسير ، ولا يلزم من ذلك التَّكاذبُ ؛ لأنَّ من قال إنَّه سرى بها يعني أنَّها سرتْ هي بنفسها مصاحبةً لهم في أوائل الأمر ، ثمَّ أخذها العذابُ فانقطع سُراها ، ومن قال إنَّه لم يسر بها ، أي : لَمْ يأمرها ، ولم يأخذها ، وأنَّهُ لم يدُم سراها معهم بل انقطع فصحَّ أن يقال : إنَّهُ سرى بها ولم يَسْرِ بها ، وقد أجاب النَّاسُ بهذا ، وهو حسنٌ " .

وقال أبو شامة : " ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاةُ معنى حسنٌ ، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبَّه عليه اختلاف القراءتين فكأنَّه قيل : فأسر بأهلك إلاَّ امرأتك ، وكذا روى أبو عبيد وغيره أنها في مصحف عبد الله هكذا ، وليس فيها : " ولا يلتفتْ منكمْ أحَدٌ " فهذا دليلٌ على استثنائها من السُّرَى بهم ثم كأنه سبحانه وتعالى قال : فإن خرجتْ معكم وتَبعتْكُم - غير أن تكون أنت سريتَ بها - فانْهَ أهلك عن الالتفات غيرها ، فإنَّها ستلتفت فيصيبها ما أصاب قومها ، فكانت قراءة النَّصب دالَّة على المعنى المتقدم ، وقراءةُ الرَّفعِ دالَّةٌ على المعنى المتأخر ، ومجموعهما دالٌّ على جملة المعنى المشروح " .

وهو كلامٌ حسنٌ شاهدٌ لما ذكرته .

قوله : { إِنَّهُ مُصِيبُهَا } الضَّميرُ ضمير الشَّأنِ ، " مُصِيبُهَا " خبرٌ مقدَّم ، و " مَا أصَابَهُمْ " مبتدأ مؤخَّر وهو موصولٌ بمعنى " الذي " ، والجملة خبرُ " إنَّ " ؛ لأنَّ ضمير الشَّأنِ يُفسَّر بجملةٍ مصرَّحٍ بجزأيها .

وأعرب أبو حيان{[18932]} : " مُصِيبُهَا " مبتدأ ، و " مَا أصَابهُمْ " الخبر وفيه نظرٌ من حيثُ الصَّناعة : فإنَّ الموصول معرفة ، فينبغي أن يكون المبتدأ : " مُصِيبُهَا " نكرةً ؛ لأنه عاملٌ تقديراً فإضافتهُ غير محضةٍ ، ومن حيث المعنى : إنَّ المراد الإخبار عن الذي أصابهم أنه مُصيبها من غير عكس ويجوز عند الكوفيين أن يكون " مُصِيبُهَا " مبتدأ ، و " ما " الموصولةُ فاعلٌ لأنَّهم يجيزون أن يفسَّر ضميرُ الشَّأن بمفرد عاملٍ فيما بعده نحو : " إنَّهُ قائمٌ أبواك " .

قوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ } أي : موعد إهلاكهم . وقرأ عيسى{[18933]} بن عمر " الصُّبُح " بضمتين فقيل : لغتان ، وقيل : بل هي إتباعٌ ، وقد تقدَّم البحثُ في ذلك [ الأنعام : 96 ] .


[18922]:ينظر: الحجة 4/367 وإعراب القراءات السبع 1/291 وحجة القراءات 347 وقرأ بها أيضا أبو جعفر ينظر: الإتحاف 2/132 والبحر المحيط 5/248 والدر المصون 4/119.
[18923]:البيت لمالك بن كنانة. ينظر: البحر المحيط 5/248 والقرطبي 9/54 وروح المعاني 12/109 والدر المصون 4/119.
[18924]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/623) وعزاه إلى ابن الأنباري في الوقف والابتداء عن ابن عباس.
[18925]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/263) وعزاه إلى عبد الرزاق.
[18926]:ينظر: الحجة 4/369 وإعراب القراءات السبع 1/292 وحجة القراءات 347 والإتحاف 2/133 والمحرر الوجيز 3/196، والبحر المحيط 5/248 والدر المصون 4/119.
[18927]:ينظر: البحر المحيط 5/249.
[18928]:ينظر: الدر المصون 4/120.
[18929]:ينظر: الكشاف 2/416.
[18930]:ينظر: البحر المحيط 5/249.
[18931]:ينظر: الدر المصون 4/120.
[18932]:ينظر: البحر المحيط 5/249.
[18933]:ينظر: البحر المحيط 5/248، والدر المصون 4/121.