فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَالُواْ يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ} (81)

ولما سمعته الملائكة يقول هذه المقالة ، ووجدوا قومه قد غلبوه وعجز عن مدافعتهم { قَالُواْ يا لُوطٍ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } أخبروه أوّلاً أنهم رسل ربه ، ثم بشّروه بقولهم : { لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } وهذه الجملة موضحة لما قبلها ؛ لأنهم إذا كانوا مرسلين من عند الله إليه لم يصل عدوّه إليه ولم يقدروا عليه ، ثم أمروه أن يخرج عنهم ، فقالوا له : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ الليل } قرأ نافع وابن كثير بالوصل ، وقرأ غيرهما بالقطع ، وهما لغتان فصيحتان . قال الله تعالى : { والليل إِذَا يَسْرِ } وقال : { سُبْحَانَ الذي أسرى } وقد جمع الشاعر بين اللغتين فقال :

حي النضير وربة الخدر *** أسرت عليه ولم تكن تسري

وقيل : إن أسرى للمسير من أول الليل ، وسرى للمسير من آخره ، والقطع من الليل : الطائفة منه . قال ابن الأعرابي : بقطع من الليل : بساعة منه . وقال الأخفش : بجنح من الليل . وقيل : بظلمة من الليل . وقيل : بعد هدوّ من الليل ، قيل : إن السرى لا يكون إلا في الليل ، فما وجه زيادة بقطع من الليل ؟ قيل : لو لم يقل بقطع من الليل لجاز أن يكون في أوّله قبل اجتماع الظلمة ، وليس ذلك بمراد { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَد } أي : لا ينظر إلى ما وراءه ، أو يشتغل بما خلفه من مال أو غيره . قيل : وجه النهي عن الالتفات أن لا يروا عذاب قومهم ، وهول ما نزل بهم ، فيرحموهم ويرقوا لهم ، أو لئلا ينقطعوا عن السير المطلوب منهم بما يقع من الالتفات ، فإنه لا بدّ للملتفت من فترة في سيره { إِلاَّ امرأتك } بالنصب على قراءة الجمهور ، وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير بالرفع على البدل ، فعلى القراءة الأولى امرأته مستثناة من قوله : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } أي : أسر بأهلك جميعاً إلا امرأتك فلا تسر بها ، ف{ إنه مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ } من العذاب ، وهو رميهم بالحجارة لكونها كانت كافرة . وأنكر قراءة الرفع جماعة منهم أبو عبيد وقال : لا يصح ذلك إلا برفع يلتفت ويكون نعتاً ، لأن المعنى يصير إذا أبدلت وجزمت أن المرأة أبيح لها الالتفات وليس المعنى كذلك . قال النحاس : وهذا العمل من أبي عبيد وغيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحله من العربية لا يجب أن يكون ، والرفع على البدل له معنى صحيح ، وهو أن يكون استثناء من النهي عن الالتفات ، أي لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ، فإنها تلتفت وتهلك . وقيل : إن الرفع على البدل من أحد ، ويكون الالتفات بمعنى التخلف لا بمعنى النظر إلى الخلف ، فكأنه قال : ولا يتخلف منكم أحد إلا امرأتك ، فإنها تتخلف ، والملجئ إلى هذا التأويل البعيد الفرار من تناقض القراءتين ، والضمير في { إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ } للشأن ، والجملة خبر إنّ { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح } هذه الجملة تقليل لما تقدّم من الأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات ، والمعنى : أن موعد عذابهم الصبح المسفر عن تلك الليلة ، والاستفهام في { أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } للإنكار التقريري ، والجملة تأكيد للتعليل .

وقرأ عيسى بن عمر «أليس الصبح » بضم الباء وهي لغة ، ولعلّ جعل الصبح ميقاتاً لهلاكهم لكون النفوس فيه أسكن ، والناس فيه مجتمعون لم يتفرّقوا إلى أعمالهم .

/خ83