قوله تعالى : { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } ، أي : نسائنا .
قال ابن عباس وقتادة ، والشعبي : أراد أجنة البحائر والسوائب ، فما ولد منها حياً فهو خالص للرجال دون النساء ، وما ولد ميتاً أكله الرجال والنساء جميعاً . وأدخل الهاء في { خالصة } للتأكيد كالخاصة والعامة ، كقولهم : نسابة ، وعلامة ، وقال الفراء رحمه الله : أدخلت الهاء لتأنيث الأنعام لأن ما في بطونها مثلها فأنثت بتأنيثها . وقال الكسائي : خالص وخالصة واحد ، مثل وعظ وموعظة .
قوله تعالى : { وإن يكن ميتةً } ، قرأ ابن عامر وأبو جعفر : { تكن } بالتاء { ميتة } رفع ذكر الفعل بعلامة التأنيث ، لأن الميتة في اللفظ مؤنثة . وقرأ أبو بكر عن عاصم : ( تكن ) بالتاء ( ميتة ) نصب ، أي : وإن تكن الأجنة ميتة ، وقرأ ابن كثير :{ وإن يكن } بالياء { ميتة } رفع ، لأن المراد بالميتة الميت ، أي : وإن يقع ما في البطون ميتاً ، وقرأ الآخرون : { وإن يكن } بالياء { ميتة } نصب ، رده إلى ما ، أي : وإن يكن ما في البطون ميتة ، يدل عليه أنه قال : { فهم فيه شركاء } ، ولم يقل فيها ، وأراد أن الرجال والنساء فيه شركاء .
قوله تعالى : { سيجزيهم وصفهم } ، أي : بوصفهم ، أو على وصفهم الكذب على الله . قوله تعالى : { إنه حكيم عليم } .
( وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . سيجزيهم وصفهم ، إنه حكيم عليم ) . .
لقد استطردوا في أوهام التصورات والتصرفات ، النابعة من انحرافات الشرك والوثنية ، ومن ترك أمر التحليل والتحريم للرجال ؛ مع الادعاء بأن ما يشرعه الرجال هو الذي شرعه الله . استطردوا في هذه الأوهام فقالوا عن الأجنة التي في بطون بعض الأنعام - ولعلها تلك المسماة البحيرة والسائبة والوصيلة - إنها خالصة للذكور منهم حين تنتج ، محرمة على الإناث ، إلا أن تكون ميتة فيشارك فيها الإناث الذكور . . هكذا بلا سبب ولا دليل ولا تعليل ، إلا أهواء الرجال التي يصوغون منها دينا غامضاً ملتبسا في الأفهام .
ويعقب السياق القرآني تعقيب التهديد ؛ لمن صاغوا هذه الشرائع وكذبوا على الله فوصفوها بأنها من شرع الله :
يعلم حقائق الأحوال ، ويتصرف فيها بحكمة ، لا كما يتصرف هؤلاء المشركون الجهال .
قال أبو إسحاق السبيعي ، عن عبد الله بن أبي الهُذَيل ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا } الآية ، قال : اللبن .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا } [ الآية ]{[11259]} : فهو اللبن ، كانوا يحرمونه على إناثهم ، ويشربه ذكرانهم . وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه ، وكان للرجال دون النساء . وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء . فنهى الله عن ذلك . وكذا قال السُّدِّي .
وقال الشعبي : " البحيرة " لا يأكل من لبنها إلا الرجال ، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء ، وكذا قال عِكْرِمة ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال مجاهد في قوله : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } قال : هي السائبة والبحيرة .
وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وقتادة [ في قول ]{[11260]} { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } أي : قولهم الكذب في ذلك ، يعني قوله{[11261]} تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ } الآية [ النحل : 116 ، 117 ] .
إنه { حَكِيمٌ } أي : في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، { عَلِيمٌ } بأعمال عباده من خير وشر ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هََذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لّذُكُورِنَا وَمُحَرّمٌ عَلَىَ أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ } .
اختلف أهل التأويل في المعنىّ بقوله : ما فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعامِ فقال بعضهم : عنى بذلك اللبن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، عن ابن عباس : وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنَا قال : اللبن .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن ابن أبي الهذيل ، عن ابن عباس مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الأنْعام خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ومُحَرّمٌ على أزْوَاجِنا ألبان البحائر كانت للذكور دون النساء ، وإن كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : خالِصَةٌ لِذكُورنا ومُحَرّمٌ على أزْوَاجِنا قال : ما فِي بُطون البحائر : يعني ألبانها ، كانوا يجعلونه للرجال دون النساء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن زكريا ، عن عامر ، قال : البحيرة لا يأكل من لبنها إلا الرجال ، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورنا . . . الاَية ، فهو اللبن كانوا يحرّمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم وكانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه وكان للرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى تركب فلم تذبح ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء . فنهى الله عن ذلك .
وقال آخرون : بل عنى بذلك ما في بطون البحائر والسوائب من الأجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورنا ومُحَرّمٌ على أزْوَاجِنا وَإنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ فهذه الأنعام ما ولد منها من حيّ فهو خالص للرجال دون النساء وأما ما ولد من ميت فيأكله الرجال والنساء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ما في بُطُونِ هَذِهِ الأنعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا السائبة والبحيرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الكفرة أنهم قالوا في أنعام بأعيانها : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا دون إناثنا . واللبن مما في بطونها ، وكذلك أجنتها ، ولم يخصص الله بالخبر عنهم أنهم قالوا بعض ذلك حرام عليهنّ دون بعض . وإذ كان ذلك كذلك ، فالواجب أن يقال : إنهم قالوا ما في بطون تلك الأنعام من لبن وجنين حلّ لذكورهم خالصة دون إناثهم ، وإنهم كانوا يؤثرون بذلك رجالهم ، إلا أن يكون الذي في بطونها من الأجنة ميتا فيشترك حينئذٍ في أكله الرجال والنساء .
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله أنثت الخالصة ، فقال بعض نحويي البصرة وبعض الكوفيين : أنثت لتحقيق الخلوص ، كأنه لما حقق لهم الخلوص أشبه الكثرة ، فجرى مجرى راوية ونسّابة . وقال بعض نحويي الكوفة : أنثت لتأنيث الأنعام ، لأن ما في بطونها مثلها ، فأنثت لتأنيثها . ومن ذكّره فلتذكير «ما » قال : وهي في قراءة عبد الله : «خالصٌ » قال : وقد تكون الخالصة في تأنيثها مصدرا ، كما تقول العافية والعاقبة ، وهو مثل قوله : إنّا أخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : أريد بذلك المبالغة في خلوص ما في بطون الأنعام التي كانوا حرّموا ما في بطونها على أزواجهم ، لذكورهم دون إناثهم ، كما فعل ذلك بالراوية والنسّابة والعلاّمة ، إذا أريد بها المبالغة في وصف من كان ذلك من صفته ، كما يقال : فلان خالصة فلان وخُلْصانه .
وأما قوله : ومُحَرّمٌ على أزْوَاجِنا فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنّي بالأزواج ، فقال بعضهم : عنى بها النساء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ومُحَرّمٌ على أزْوَاجِنا قال : النساء .
وقال آخرون : بل عنى بالأزواج البنات . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ومُحَرّمٌ على أزْوَاجنا قال : الأزواج : البنات . وقالوا : ليس للبنات منه شيء .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يقولون لما في بطون هذه الأنعام ، يعني أنعامهم : هذا محرّم على أزواجنا . والأزواج إنما هي نساؤهم في كلامهم ، وهن لا شكّ بنات من هن أولاده ، وحلائل من هنّ أزواجه . وفي قول الله عزّ وجلّ : وَمَحَرّمٌ على أزواجِنا الدليل الواضح على أن تأنيث «الخالصة » كان لما وصفت من المبالغة في وصف ما في بطون الأنعام بالخلوصة للذكور ، لأنه لو كان لتأنيث الأنعام لقيل : ومحرّمة على أزواجنا ، ولكن لما كان التأنيث في الخالصة لما ذكرت ، ثم لم يقصد في المحرّم ما قصد في الخالصة من المبالغة ، رجع فيها إلى تذكير «ما » ، واستعمال ما هو أولى به من صفته .
وأما قوله : وَإنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ فاختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه يزيد بن القعقاع وطلحة بن مصرّف في آخرين : «وَإنْ تَكُنْ مَيْتَةٌ » بالتاء في «تكن » ورفع «ميتة » ، غير أن يزيد كان يشدّد الياء من ميتة ، ويخففها طلحة .
حدثني بذلك المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي حماد ، قال : حدثنا عيسى ، عن طلحة بن مصرف .
وحدثنا أحمد بن يوسف ، عن القاسم ، وإسماعيل بن جعفر ، عن يزيد .
وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والكوفة والبصرة : وَإنْ يَكُنْ مَيْتَةً بالياء وميتة بالنصب وتخفيف الياء . وكأنّ من قرأ : وَإنْ يَكُنْ بالياء مَيْتَةً بالنصب ، أرادوا إن يكن ما في بطون تلك الأنعام ، فذكّر «يكن » لتذكير «ما » ، ونصب «الميتة » لأنه خبر «يكن » . وأما من قرأ : «وَإنْ تَكُنْ مَيْتَةٌ » فإنه إن شاء الله أراد وإن يكن ما في بطونها ميتة ، فأنث «تكن » لتأنيث «ميتة » .
وقوله : فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ فإنه يعني أن الرجال وأزواجهم شركاء في أكله لا يحرّمونه على أحد منهم ، كما ذكرنا عمن ذكرنا ذلك عنه قبل من أهل التأويل . وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَإنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ قال : تأكل النساء مع الرجال ، إن كان الذي يخرج من بطونها ميتة فهم فيه شركاء ، وقالوا : إن شئنا جعلنا للبنات فيه نصيبا وإن شئنا لم نجعل .
وظاهر التلاوة بخلاف ما تأوّله ابن زيد ، لأن ظاهرها يدلّ على أنهم قالوا : إن لم يكن ما في بطونها ميتة ، فنحن فيه شركاء بغير شرط مشيئة . وقد زعم ابن زيد أنهم جعلوا ذلك إلى مشيئتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إنّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ .
يقول جلّ ثناؤه : سيجزي : أي سيثيب ويكافىء هؤلاء المفترين عليه الكذب في تحريمهم ما لم يحرّمه الله ، وتحليلهم ما لم يحلله الله ، وإضافتهم كذبهم في ذلك إلى الله . وقوله : وَصْفَهُمْ يعني بوصفهم الكذب على الله ، وذلك كما قال جلّ ثناؤه في موضع آخر من كتابه : وَتَصِفُ ألْسِنَتُهُمْ الكَذِبَ والوصف والصفة في كلام العرب واحد ، وهما مصدران مثل الوزن والزنة .
وبنحو الذي قلنا في معنى «الوصف » قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ قال : قولهم الكذب في ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ : أي كذبهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ : أي كذبهم .
وأما قوله : حَكِيمٌ عَلِيمٌ فإنه يقول جلّ ثناؤه : إن الله في مجازاتهم على وصفهم الكذب وقيلهم الباطل عليه ، حكيم في سائر تدبيره في خلقه ، عليم بما يصلحهم وبغير ذلك من أمورهم .
هذه الآية تتضمن تعديد مذاهبهم الفاسدة ، وكانت سنتهم في بعض الأنعام أن يحرموا ما ولدت على نسائهم ويخصصونه لذكورهم ، والهاء في { خالصة } قيل هي للمبالغة كما هي في رواية غيرها{[5115]} ، وهذا كما تقول فلان خالصتي ، وإن كان باب هاء المبالغة أن يلحق بناء مبالغة كعلامة ونسابة وبصيرة ونحوه ، وقيل هي لتأنيث الأنعام إذ ما في بطونها أنعام أيضاً{[5116]} ، وقيل هي على تأنيث لفظ { ما } لأن { ما } واقعة في هذا الموضع موقع قولك جماعة وجملة{[5117]} ، وقرأ جمهور القراء والناس «خالصةٌ » بالرفع ، وقرأ عبد الله بن مسعود وابن جبير وابن أبي عبلة والأعمش «خالصٌُ » دون هاء ورفع هاتين القراءتين على خبر الابتداء .
وقرأ ابن عباس بخلاف{[5118]} والأعرج وقتادة وسفيان بن حسين «خالصةً » بالنصب ، وقرأ سعيد بن جبير فيما ذكر أبو الفتح «خالصاً » ونصب هاتين القراءتين على أن الحال من الضمير الذي في قوله { في بطون } ، وذلك على تقدير الكلام : وقالوا : ما استقر هو في بطون هذه الأنعام فحذف الفعل وحمل المجرور الضمير ، والحال من الضمير والعامل فيها معنى الاستقرار ، قال أبو الفتح ويصح أن يكون حالاً من { ما } على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها ، وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو حيوة والزهري «خالصه » بإضافة «خالص » إلى ضمير يعود على { ما } ، ومعناه ما خلص وخرج حياً ، والخبر على قراءة من نصب «خالصة » في قوله { لذكورنا } والمعنى المراد بما في قوله { ما في بطون } قال السدي : هي الأجنة ، وقال ابن عباس وقتادة والشعبي : هو اللبن ، قال الطبري واللفظ يعمهما ، وقوله { ومحرم } يدل على أن الهاء في { خالصة } للمبالغة ، ولو كانت لتأنيث لقال ومحرمة ، و { أزواجنا } يريد به جماعة النساء التي هي معدة أن تكون أزواجاً ، قال مجاهد ، وحكى الطبري عن ابن زيد أن المراد ب { أزواجنا } البنات .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يبعد تحليقه على المعنى ، وقوله { إن يكن ميتة } كان من سنتهم أن ما خرج من الأجنة ميتاً من تلك الأنعام الموقوفة فهو حلال للرجال والنساء جميعاً وكذلك ما مات من الأنعام الموقوفة نفسها ، وقرأ ابن كثير «وإن يكن » بالياء «ميتةٌ » بالرفع فلم يلحق الفعل علامة التأنيث لما كان تأنيث الفاعل المسند إليه غير حقيقي ، والمعنى وإن وقع ميتة أو حدث ميتة ، وقرأ ابن عامر «وإن تكن » بالتاء «ميتةٌ » بالرفع فألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل في اللفظ مؤنثاً ، وأسند الفعل إلى الميتة كما فعل ابن كثير ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه «تكن » بالتاء «ميتةً » بالنصب فأنث وإن كان المتقدم مذكراً لأنه حمله على المعنى .
قال القاضي أبو محمد : فالتقدير وإن تكن النسمة أو نحوها ميتة ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «يكن » بالياء «ميتةً » بالنصب ، فذكروا الفعل لأنهم أسندوه إلى ضميرما تقدم من قوله { ما في بطون هذه الأنعام } وهو مذكر ، وانتصبت الميتة على الخبر ، قال أبو عمرو بن العلاء ويقوي هذه القراءة قوله { فهم فيه } ولم يقل فيها{[5119]} ، وقرأ يزيد بن القعقاع «وإن تكن ميّتة » بالتشديد ، وقرأ عبد الله بن مسعود «فهم فيه سواء » ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من القربات إلى الله تعالى وشرعوه من الباطل والإفك{[5120]} { إنه حكيم } أي في عذابهم على ذلك { عليم } بقليل ما تقوّلوه من ذلك وكثيره .
عطف على قوله : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } [ الأنعام : 138 ] . وأعيد فعل : { قالوا } لاختلاف غرض المقول .
والإشارة إلى أنعام معروفة بينهم بصفاتها ، كما تقدّم ، أو إلى الأنعام المذكورة قبل . ولا يتعلّق غرض في هذه الآية بأكثر من إجمال الأشياء الّتي حرموها لأنّ المقصود التّعجيب من فساد شرعهم كما تقدّم آنفاً ، وهذا خبر عن دينهم في أجنّة الأنعام التي حجروها أو حرّموا ظهورها ، فكانوا يقولون في أجنّة البحيرة والسّائبة : إذا خرجت أحياء يحلّ أكلها للذكور دون النّساء ، وإذا خرجت ميّتة حلّ أكلها للذّكور والنّساء ، فالمراد بما في البطون الأجنة لا محالة لقوله : { وإن يكن ميتة } وقد كانوا يقولون في ألبان البحيرة والسّائبة : يشربها الرّجال دون النّساء ، فظنّ بعض المفسّرين أنّ المراد بما في بطون الأنعام ألبانها ، وروي عن ابن عَبّاس ، ولا ينبغي أن يكون هو معنى الآية ولكن محمل كلام ابن عبّاس أنّ ما في البطون يشمل الألبان لأنَّها تابعة للأجنّة وناشئة عن ولادتها .
والخالصة : السّائغة ، أي المباحة ، أي لا شائبةَ حَرج فيها ، أي في أكلها ، ويقابله قوله : { ومحرم } .
وتأنيث { خالصة } لأنّ المراد بمَا الموصولة { الأجِنَّة } فروعي معنى ( ما ) وروعي لفظ ( ما ) في تذكير { محرّم } .
والمحرّم : الممنوع ، أي ممنوع أكله ، فإسناد الخلوص والتّحريم إلى الذّوات بتأويل تحريم ما تقصد له وهو الأكل أو هو والشرب بدلالة الاقتضاء .
والأزواج جمع زوج ، وهو وصف للشّيء الثّاني لغيره ، فكلّ واحد من شيئين اثنين هو زوج ، ولذلك سمّي حليل المرأة زوجاً وسمّيت المرأة حليلةُ الرّجل زوجاً ، وهو وصف يلازم حالة واحدة فلا يُؤنث ولا يثنّى ولا يجمع . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة } في سورة البقرة ( 35 ) .
وظاهر الآية أن المراد أنّه محرّم على النساء المتزوّجات لأنّهم سمّوهنّ أزواجاً ، وأضافوهنّ إلى ضميرهم ، فتعيّن أنَّهن النّساء المتزوّجات بهم كما يقال : امرأة فلان . وإذا حملناه على الظاهر وهو الأوْلى عندي كان ذلك دالاً على أنّهم كانوا يتشاءمون بأكل الزّوجات لشيء ذي صفة كانوا يكرهون أن تصيب نساءَهم : مثللِ العقم ، أو سوءِ المعاشرة مع الأزواج ، والنّشوز ، أو الفراق ، أو غير ذلك من أوهام أهل الجاهليّة وتكاذيبهم ، أو لأنّه نَتاج أنعام مقدّسة ، فلا تحلّ للنّساء ، لأنّ المرأة مرموقة عند القدماء قبل الإسلام بالنّجاسة والخباثة ، لأجل الحيض ونحو ذلك ، فقد كانت بنو إسرائيل يمنعون النّساء دخول المساجد ، وكان العرب لا يؤاكلون الحائض ، وقالت كبشة بنت معديكرب تعيّر قومها :
ولا تَشرَبُوا إلاّ فُضُولَ نسائكم *** إذا ارتَمَلَتْ أعقابُهن منَ الدّم
وقال جمهور المفسّرين : أطلق الأزواج على النّساء مطلقاً ، أي فهو مجاز مرسل بعلاقة الإطلاق والتّقييد ، فيشمل المرأة الأيّم ولا يشمل البناتِ ، وقال بعضهم : أريد به البنات أي بمجاز الأوْل فلعلّهم كانوا يتشاءمون بأكل البنات منه أن يصيبهن عسر التّزوّج ، أو ما يتعيَّرون منه ، أو نحو ذلك .
وكانت الأحوال الشّائعة بينهم دالّة على المراد .
وأمّا قوله : { وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء } أي إنْ يولدْ ما في بطون الأنعام ميّتا جاز أكله للرّجال والأزواج ، أو للرّجال والنّساء ، أو للرّجال والنّساء والبنات ، وذلك لأنّ خروجه ميّتا يبطل ما فيه من الشّؤم على المرأة ، أو يذهب قداسته أو نحو ذلك .
وقرأ الجمهور : { وإن يكن } بالتحتيّة ونصب { ميتة } . وقرأ ابنُ كثير برفع { ميتة } ، على أنّ كان تامّة ، وقد أجري ضمير : { يَكُن } على التّذكير : لأنّه جائز في الخبر عن اسم الموصول المفرد اعتبار التّذكير لتجرّد لفظه عن علامة تأنيث ، وقد يراعى المقصود منه فيجري الإخبار على اعتباره ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك حتّى إذا خرجوا من عندك } [ محمد : 16 ] . وقرأ ابنُ عامر بالفوقيّة على اتّباع تأنيث { خالصة } ، أي إن تكن الأجنّة ، وقرأ { ميتة } بالنّصب ، وقرأه أبو بكر عن عاصم بالتّأنيث والنّصب .
وجملة : { سيجزيهم وصفهم } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، كما قلتُ في جملة : { سيجزيهم بما كانوا يفترون } [ الأنعام : 138 ] آنفاً .
والوصف : ذكر حالات الشّيء الموصوف وما يتيمّز به لمن يريد تمييزه في غرض ما ، وتقدّم في قوله : { سبحانه وتعالى عمّا يصفون } في هذه السّورة ( 100 ) . والوصف ، هنا : هو ما وصفوا به الأجنّة من حِلّ وحرمَة لفريق دون فريق ، فذلك وصف في بيان الحرام والحلال منه كقوله تعالى : { ولا تَقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } [ النحل : 116 ] .
وجزاؤهم عنه هو جزاء سوءٍ بقرينة المقام ، لأنّه سمّى مزاعمهم السّابقة افتراء على الله . وجُعل الجزاء متعدّيا للوصف بنفسه على تقدير مضاف ، أي : سيجْزيهم جزاءَ وصفهم . ضمّن { يجزيهم } معنى يُعطيهم ، أي جزاء وفاقاً له .
وجملة : { إنه حكيم عليم } تعليل لكون الجزاء موافقا لجرُم وصفهم . وتؤذن ( إنّ ) بالربط والتّعليل ، وتُغني غناء الفاء ، فالحكيم يضع الأشياء مواضعها ، والعليم يطّلع على أفعال المجزيين ، فلا يضيع منها ما يستحقّ الجزاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنهم، فقال: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا}، يعني من الولد والألبان، {ومحرم على أزواجنا}، يعني البحيرة، والسائبة، والوصيلة، فكانوا إذا أنتجوه حيا ذبحوه فأكله الرجال دون النساء، وكذلك الألبان، وإن وضعته ميتا اشترك في أكله الرجال والنساء، فذلك قوله: {وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم} الله العذاب في الآخرة، {وصفهم}، ذلك بالتحليل والتحريم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في المعنىّ بقوله:"ما فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعامِ"؛ فقال بعضهم: عنى بذلك اللبن... عن قتادة: "وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الأنْعام خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ومُحَرّمٌ على أزْوَاجِنا": ألبان البحائر كانت للذكور دون النساء، وإن كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم...
وقال آخرون: بل عنى بذلك ما في بطون البحائر والسوائب من الأجنة... وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الكفرة أنهم قالوا في أنعام بأعيانها: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا دون إناثنا. واللبن مما في بطونها، وكذلك أجنتها، ولم يخصص الله بالخبر عنهم أنهم قالوا بعض ذلك حرام عليهنّ دون بعض. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يقال: إنهم قالوا ما في بطون تلك الأنعام من لبن وجنين حلّ لذكورهم خالصة دون إناثهم، وإنهم كانوا يؤثرون بذلك رجالهم، إلا أن يكون الذي في بطونها من الأجنة ميتا فيشترك حينئذٍ في أكله الرجال والنساء...
وأما قوله: "ومُحَرّمٌ على أزْوَاجِنا "فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنّي بالأزواج؛ فقال بعضهم: عنى بها النساء.
وقال آخرون: بل عنى بالأزواج: البنات...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يقولون لما في بطون هذه الأنعام، يعني أنعامهم: هذا محرّم على أزواجنا، والأزواج إنما هي نساؤهم في كلامهم، وهن لا شكّ بنات من هن أولاده، وحلائل من هنّ أزواجه...
وقوله: "فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ" فإنه يعني أن الرجال وأزواجهم شركاء في أكله لا يحرّمونه على أحد منهم...
"سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إنّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ" يقول جلّ ثناؤه: سيجزي: أي سيثيب ويكافئ هؤلاء المفترين عليه الكذب في تحريمهم ما لم يحرّمه الله، وتحليلهم ما لم يحلله الله، وإضافتهم كذبهم في ذلك إلى الله.
وقوله: "وَصْفَهُمْ" يعني بوصفهم الكذب على الله، وذلك كما قال جلّ ثناؤه في موضع آخر من كتابه: "وَتَصِفُ ألْسِنَتُهُمْ الكَذِبَ"... عن مجاهد، في قوله: "سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ" قال: قولهم الكذب في ذلك...
وأما قوله: "حَكِيمٌ عَلِيمٌ" فإنه يقول جلّ ثناؤه: إن الله في مجازاتهم على وصفهم الكذب وقيلهم الباطل عليه، حكيم في سائر تدبيره في خلقه، عليم بما يصلحهم وبغير ذلك من أمورهم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وفي الآية دليل على أن العالم ينبغي له أن يتعلم قول من خالفه وإن لم يأخذ به، حتى يعرف فساد قوله، ويعلم كيف يرد عليه؛ لأن الله تعالى أعلم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قول من خالفهم من أهل زمانهم، ليعرفوا فساد قولهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء. سيجزيهم وصفهم، إنه حكيم عليم).. لقد استطردوا في أوهام التصورات والتصرفات، النابعة من انحرافات الشرك والوثنية، ومن ترك أمر التحليل والتحريم للرجال؛ مع الادعاء بأن ما يشرعه الرجال هو الذي شرعه الله. استطردوا في هذه الأوهام فقالوا عن الأجنة التي في بطون بعض الأنعام -ولعلها تلك المسماة البحيرة والسائبة والوصيلة- إنها خالصة للذكور منهم حين تنتج، محرمة على الإناث، إلا أن تكون ميتة فيشارك فيها الإناث الذكور.. هكذا بلا سبب ولا دليل ولا تعليل، إلا أهواء الرجال التي يصوغون منها دينا غامضاً ملتبسا في الأفهام. ويعقب السياق القرآني تعقيب التهديد؛ لمن صاغوا هذه الشرائع وكذبوا على الله فوصفوها بأنها من شرع الله: (سيجزيهم وصفهم).. (إنه حكيم عليم).. يعلم حقائق الأحوال، ويتصرف فيها بحكمة، لا كما يتصرف هؤلاء المشركون الجهال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على قوله: {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر} [الأنعام: 138]. وأعيد فعل: {قالوا} لاختلاف غرض المقول.
والإشارة إلى أنعام معروفة بينهم بصفاتها، كما تقدّم، أو إلى الأنعام المذكورة قبل. ولا يتعلّق غرض في هذه الآية بأكثر من إجمال الأشياء الّتي حرموها لأنّ المقصود التّعجيب من فساد شرعهم كما تقدّم آنفاً، وهذا خبر عن دينهم في أجنّة الأنعام التي حجروها أو حرّموا ظهورها، فكانوا يقولون في أجنّة البحيرة والسّائبة: إذا خرجت أحياء يحلّ أكلها للذكور دون النّساء، وإذا خرجت ميّتة حلّ أكلها للذّكور والنّساء، فالمراد بما في البطون الأجنة لا محالة لقوله: {وإن يكن ميتة} وقد كانوا يقولون في ألبان البحيرة والسّائبة: يشربها الرّجال دون النّساء، فظنّ بعض المفسّرين أنّ المراد بما في بطون الأنعام ألبانها، وروي عن ابن عَبّاس، ولا ينبغي أن يكون هو معنى الآية ولكن محمل كلام ابن عبّاس أنّ ما في البطون يشمل الألبان لأنَّها تابعة للأجنّة وناشئة عن ولادتها.
والخالصة: السّائغة، أي المباحة، أي لا شائبةَ حَرج فيها، أي في أكلها، ويقابله قوله: {ومحرم}...
والمحرّم: الممنوع، أي ممنوع أكله، فإسناد الخلوص والتّحريم إلى الذّوات بتأويل تحريم ما تقصد له وهو الأكل أو هو والشرب بدلالة الاقتضاء.
والأزواج جمع زوج، وهو وصف للشّيء الثّاني لغيره، فكلّ واحد من شيئين اثنين هو زوج، ولذلك سمّي حليل المرأة زوجاً وسمّيت المرأة حليلةُ الرّجل زوجاً، وهو وصف يلازم حالة واحدة فلا يُؤنث ولا يثنّى ولا يجمع. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة} في سورة البقرة (35).
وظاهر الآية أن المراد أنّه محرّم على النساء المتزوّجات لأنّهم سمّوهنّ أزواجاً، وأضافوهنّ إلى ضميرهم، فتعيّن أنَّهن النّساء المتزوّجات بهم كما يقال: امرأة فلان. وإذا حملناه على الظاهر وهو الأوْلى عندي كان ذلك دالاً على أنّهم كانوا يتشاءمون بأكل الزّوجات لشيء ذي صفة كانوا يكرهون أن تصيب نساءَهم... أو لأنّه نَتاج أنعام مقدّسة، فلا تحلّ للنّساء، لأنّ المرأة مرموقة عند القدماء قبل الإسلام بالنّجاسة والخباثة، لأجل الحيض ونحو ذلك...وكانت الأحوال الشّائعة بينهم دالّة على المراد.
وأمّا قوله: {وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء} أي إنْ يولدْ ما في بطون الأنعام ميّتا جاز أكله للرّجال والأزواج، أو للرّجال والنّساء، أو للرّجال والنّساء والبنات، وذلك لأنّ خروجه ميّتا يبطل ما فيه من الشّؤم على المرأة، أو يذهب قداسته أو نحو ذلك.
...جملة: {سيجزيهم وصفهم} مستأنفة استئنافاً بيانياً، كما قلتُ في جملة: {سيجزيهم بما كانوا يفترون} [الأنعام: 138] آنفاً.
والوصف: ذكر حالات الشّيء الموصوف وما يتيمّز به لمن يريد تمييزه في غرض ما، وتقدّم في قوله: {سبحانه وتعالى عمّا يصفون} في هذه السّورة (100). والوصف، هنا: هو ما وصفوا به الأجنّة من حِلّ وحرمَة لفريق دون فريق، فذلك وصف في بيان الحرام والحلال منه كقوله تعالى: {ولا تَقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} [النحل: 116].
وجزاؤهم عنه هو جزاء سوءٍ بقرينة المقام، لأنّه سمّى مزاعمهم السّابقة افتراء على الله. وجُعل الجزاء متعدّيا للوصف بنفسه على تقدير مضاف، أي: سيجْزيهم جزاءَ وصفهم. ضمّن {يجزيهم} معنى يُعطيهم، أي جزاء وفاقاً له.
وجملة: {إنه حكيم عليم} تعليل لكون الجزاء موافقا لجرُم وصفهم. وتؤذن (إنّ) بالربط والتّعليل، وتُغني غناء الفاء، فالحكيم يضع الأشياء مواضعها، والعليم يطّلع على أفعال المجزيين، فلا يضيع منها ما يستحقّ الجزاء.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإنه يجب أن ننبه هنا إلى أنهم في هذا الإفك الذي يأفكون يجعلون للمرأة من الطعام الشيء الذي يعاف ويجعلون للرجل الطيب من الطعام ولا يحرمونه مما يخص النساء...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولكن عبارة (وإِن يكن ميتة) تبيّن أنّ المقصود هو الجنين الذي إِذا ولد حيّاً فهو للذكور، وإِنّ ولد ميتاً وهو ما لم يكن مرغوباً عندهم فهم جميعاً شركاء فيه بالتساوي. هذا الحكم لا يقوم أوّلا على أي دليل، وهو ثانياً قبيح وبشع فيما يتعلق بالجنين الميت، لأنّ لحم الحيوان الميت يكون في الغالب فاسداً ومضراً، ثمّ هو ثالثاً نوع من التمييز بين الرجل والمرأة، بجعل الطيب للرجال فقط، وبجعل المرأة شريكة في الفاسد فقط...