الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰجٖۚ يَخۡلُقُكُمۡ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ خَلۡقٗا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡقٖ فِي ظُلُمَٰتٖ ثَلَٰثٖۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ} (6)

ثم قال تعالى : { خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها } ، أي : من آدم عليه السلام وخلق حواء من ضلعه .

وإنما ذكر الخلق قبل حواء وهي قبلهم في الخلق ، لأن العرب ربما أخبرت عن رجل بفعلين . فترد الأول منهما على المعنى ( بثم ) إذا كان من{[58655]} خبر المتكلم يقال : قد بلغني ما كان منك اليوم ثم بما{[58656]} كان منك أمس أعجب{[58657]} .

وقيل معناه : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله جل ذكره لما خلق آدم{[58658]} مسح ظهره وأخرج كل نسمة{[58659]} هي كائنة إلى يوم القيامة ثم أسكنه{[58660]} بعد ذلك الجنة ، ( فخلق بعد ذلك ){[58661]} حواء من ضلع من{[58662]} أضلاعه{[58663]} .

وقيل المعنى : خلقكم من نفس وحدها{[58664]} ثم جعل منها زوجها{[58665]} . ثم قال تعالى : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } وهي المفسرة في سورة الأنعام : الإبل والضأن والمعز والبقر كل زوجين ذكر وأنثى{[58666]} .

وإنما أخبر عنها بالنزول ، لأنها إنما نشأت وتكونت بالنبات ، والنبات إنما نشأ وتكوّن بالمطر ، فالمطر هو المُنْزَلُ ، فأخبر عما اندرج وتكوّن منه بالإنزال . وهذا من التدريج وله نظائر كثيرة ، ومنه قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا }{[58667]} فاللباس لم ينزل لكنه تكوّن عما نبت بالمطر{[58668]} الذي هو مُنْزَلٌ ، فسمي ما تكوّن{[58669]} عن المطر : منزل{[58670]} .

ثم قال { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق } ، / أي : يبتدئ خلقكم في بطون أمهاتكم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ، ثم يكسو العظام لحما ثم ينشئه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ، هذا قول جماعة المفسرين{[58671]} إلا ابن زيد فإنه{[58672]} قال : معناه ، يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد الخلق{[58673]} الأول في الأصلاب{[58674]} .

وقوله : { في ظلمات ثلاث } يعني به ظُلْمَةُ البطن{[58675]} وظلمة الرَّحم وظلمة المشيمة{[58676]} ، هذا قول جميع المفسرين إلا أبا عبيدة فإنه قال : هي{[58677]} ظلمة الصلب ثم ظلمة الرحم ثم ظلمة البطن{[58678]} .

ثم قال : { ذلكم الله ربكم } ذا : إِشارة إلى اسم الله جل ذكره ، والكاف والميم للمخاطبة .

والمعنى : الذي فعل هذه{[58679]} الأشياء ربكم لا الأوثان التي تعبدونها لا تضر{[58680]} ولا تنفع .

{ له الملك لا إله إلا هو } أي : لا ينبغي أن يكون معبودا سواه ، له ملك كل شيء .

{ فأنى تصرفون } ، أي : كيف تُصْرَف عقولكم عن هذا ومن أين تعدلون عن الحق بعد هذا البيان .


[58655]:في طرة (ح).
[58656]:في طرة (ع)، وساقط من (ح).
[58657]:وانظر: ذلك في معاني الفراء 2/415. وقال صحاب الجنى الداني 427 (ثم: بمنزلة الواو، لا ترتب).
[58658]:ساقط من (ح).
[58659]:(ح): (نسلة). والنسمة: نفس الروح. انظر: القاموس المحيط 4/180، واللسان: مادة نسم.
[58660]:(ح): أمسكته.
[58661]:ساقط من (ح).
[58662]:(ح): أضلاعه.
[58663]:أخرجه الترمذي في أبواب التفسير، سورة الأعراف 11/159 عن عمر بن الخطاب، وقال حديث حسن، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة الباب 77، الحديث 525، وابن جرير في جامع البيان 23/124. مع الإشارة أن لفظ: (فخلق بعد ذلك حواء من ضلع من أضلاعه لا وجود له في كتب السنن (المدقق).
[58664]:(ح): واحدة.
[58665]:قاله الفراء في معانيه 2/415، والزجاج في معانيه 4/345.
[58666]:وهي الأيات 143 و144 و145 من سورة الأنعام.
[58667]:الأعراف آية 25.
[58668]:(ح): من المطر.
[58669]:(ح): من.
[58670]:كذا ف (ع) و(ح)، ولعله سهو من الناسخ والصواب (منزلا) لأنه مفعول ثان.
[58671]:من المفسرين الذين قالوا بهذا: عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك: انظر: جامع البيان 23/125، وتفسير مجاهد 2/556.
[58672]:ساقط من (ح).
[58673]:(ح): خلق.
[58674]:انظر: جامع القرطبي 15/236.
[58675]:متآكل في (ح).
[58676]:جاء في اللسان أن المشيمة (هي المرأة التي فيها الولد، نقله عن التهذيب... وعن ابن الأعرابي: يقال لما يكون فيه الولد: المشيمة، والكيس، والحوران، والقميص. انظر: اللسان (مادة: شيم).
[58677]:(ح): في.
[58678]:انظره في مجاز أبي عبيدة 2/188، ومعاني الزجاج 4/345، وجامع القرطبي 15/236 وتفسير الثوري 262، وتفسير 2/556.
[58679]:(ع): هذا.
[58680]:كذا في (ع) و(ح). ولعل الصواب: (فإنها لا تضر...) والله أعلم.