فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰجٖۚ يَخۡلُقُكُمۡ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ خَلۡقٗا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡقٖ فِي ظُلُمَٰتٖ ثَلَٰثٖۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ} (6)

ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته وبديع صنعته فقال : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( 6 ) }{ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهي نفس آدم { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } جاء بثم للدلالة على ترتب خلق حواء على خلق آدم وتراخيه عنه لأنها خلقت منه ، والعطف إما على مقدر وهو صفة لنفس قال الفراء والزجاج : التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة ، ثم جعل منها زوجها ، ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة . أي من نفس انفردت بالإيجاد ثم جعل الخ ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم وللدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة ، دالة على كمال القدرة ، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه ، وخلقها على الصفة المذكورة لم يجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها ، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف . ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته الباهرة وأفعاله الدالة على ما ذكر فقال { وأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ } عبر بالإنزال لما يروي أنه خلقها في الجنة ، ثم أنزلها فيكون الإنزال حقيقة كما قيل في قوله { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } فإن آدم لما أهبط إلى الأرض أنزل معه الحديد ، ويحتمل أن يكون مجازا ؛ لأنها لما لم تعش إلا بالنبات والنبات إنما يعيش بالماء ، والماء منزل من السماء ، كانت الأنعام كأنها منزلة لأن سبب سببها منزل . وهذا يسمى التدريج ، ومنه قوله تعالى { قد أنزلنا عليكم لباسا } وقيل : إن أنزل بمعنى أنشأ وجعل ، أو بمعنى أعطى ، وقيل : جعل الخلق إنزالا لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء .

{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } هي ما في قوله : { مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ومِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } ويعني بالاثنين في الأربع المواضع الذكر والأنثى ، والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه ، ويحصل منهما النسل ، فيطلق لفظ الزوج على المفرد إذا كان معه آخر من جنسه لا ينفك عنه ، ويحصل منهما النسل ، وكذا يطلق على الاثنين فهو مشترك ، والمراد هنا الإطلاق الأول ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الأنعام ، ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته البديعة فقال : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } قرأ حمزة بكسر الهمزة وفتح الميم وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم ، وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم ، وإنما قال { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } مع أن الإنسان والحيوان مشترك في هذا الخلق لتغليب من يعقل ، ولشرف الإنسان على سائر الخلق { خَلْقًا } كائنا { مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } الجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم ، وخلقا مصدر مؤكد للفعل المذكور ، ومن بعد خلق صفة له . قال قتادة والسدي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما . وقال ابن زيد خلقكم خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم .

{ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ } هي ظلمة البطن وظلمة الرحم ؛ وظلمة المشيمة ؛ قاله مجاهد وقتادة والضحاك ، وقال سعيد بن جبير ظلمة المشيمة ، وظلمة الرحم وظلمة الليل وقال أبو عبيدة ظلمة صلب الرجل ، وظلمة بطن المرأة ؛ وظلمة الرحم والرحم داخل البدن والمشيمة داخل الرحم قال ابن الأعرابي يقال لما يكون فيه الولد المشيمة والكيس والغلاف ؛ والجمع مشيم بحذف الهاء ، ومشايم ، ويقال لها من غيره السلى ، والإشارة بقوله { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة والاسم الشريف خبره وربكم خبر آخر .

{ لَهُ الْمُلْكُ } الحقيقي في الدنيا والآخرة لا شراكة لغيره فيه ، وهو خبر ثالث وقوله : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } خبر رابع { فأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي فكيف تنصرفون عن عبادته ؟ وتتقلبون عنها إلى عبادة غيره ؟ أو تصرفون عن طريق الحق بعد هذا البيان ،