تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰجٖۚ يَخۡلُقُكُمۡ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ خَلۡقٗا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡقٖ فِي ظُلُمَٰتٖ ثَلَٰثٖۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ} (6)

قوله تعالى : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ظاهر هذا أنه خلقنا من تلك النفس قبل خلق زوجه منها ، لأن حرف ثم إنما هو حرف اتباع وإرداف ، وحرف ترتيب ، لا حرف جمع . فإذا كان كذلك فظاهره يوجب ما ذكرنا . لكن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك وتفسيره : من ذلك ما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه في بعض الروايات أنه تأول في ذلك وقال : قال عز وجل : { خلقكم من نفس واحدة } كانت { ثم جعل منها زوجها } أو كلام نحو هذا . وعندنا أن قوله عز وجل : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } يخرج على ظاهر ما ذكر ، لكن الخلق هو التقدير في اللغة ؛ كأنه قال عز وجل : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي قدركم جميعا على كثرتكم من أول ما أنشأكم إلى آخر ما ينشئكم من تلك النفس الواحدة ، منها قدركم .

وقوله عز وجل : { ثم جعل منها زوجها } ثم أخرجنا منها من تلك النفس زوجها ، وإلا كان تقديره إيانا منها كان قبل خلق زوجها منها ، وهو الظاهر على ما خرج الكلام ، والله أعلم . ثم كان منه خلق ما ذكر ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } ظاهر الإنزال ، هو أن ينزل من علو مرتفع إلى سفل ومنحدر . لكن اللغة لا تمتنع عن استعمال لفظ الإنزال لا على حقيقة الإنزال من علو إلى سفل ؛ يقال : نزل فلان بأرض أو بمكان كذا ، وإن لم يكن هناك منه نزول من علو إلى منحدر وسفل . فعلى ذلك هذا .

وأصله أن كل حرف من حروف الإنزال وغيره مما أضيف إلى الله عز وجل مما يستقيم صرفه إلى خلقه إنما المراد منه خلقه نحو قوله عز وجل : { أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءتكم } [ الأعراف : 26 ] وقوله : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } [ الحديد : 25 ] وغير ذلك مما يكثر ذكره ، فهو خلقه إياه . فعلى ذلك قوله عز وجل : { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أي خلق لكم من الأنعام ما ذكر على ما ذكر : { وجعل لكم السمع والأبصار و الأفئدة } [ النحل : 78 } أي خلق لكم ما ذكر . فعلى ذلك حرف الإنزال ، والله أعلم .

ثم ظاهر قوله : { مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } يجيء أن يكون على أحد وجوه ثلاثة :

إما ألا يسمى الأنعام ، ولا يكون إلا ثمانية الأزواج التي ذكر أنه خلقها لنا . فإن كان على هذا فيكون حرف من ههنا صلة ، كأنه قال عز وجل : وأنزل لكم أنعاما ، وهي ثمانية أزواج .

وإما أن يسمى كل ما خلق من الدواب أنعاما ، إلا إنه لم يحل لنا منها إلا ثمانية الأزواج التي ذكر . فإن كان هذا فيكون حرف من حرف تبعيض وتجزئة .

وإما أن يسمي كل ما خلق من الدواب أنعاما ، إلا أنه لم يحل لنا كل شيء منها من جميع أنواع الانتفاع بها من الأزواج التي ذكر ، فإنه قد أحل لنا كل شيء من الأصناف الثمانية من لحومها وألبانها وأصوافها وكل شيء منها . وأما ما سوى ذلك من الأنعام فإنه لم يحل لنا كل شيء منها من اللحوم وغيرها ، ولكن أحل لنا الانتفاع بظهورها من نحو الحمير والبغال وغير ذلك مما يشتهى ، والله أعلم .

ثم ثمانية الأزواج التي ذكر التي ذكر أنه خلقها لنا في هذه الآية هي في سورة الأنعام ، وهي قوله : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } إلى قوله : { وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ } [ الأنعام : 143 و144 ] إلى آخر ما ذكر .

فيشبه أن يكون ما ذكر من ثمانية الأزواج ما أنزل لنا في سورة الزمر التي فيها أحل لنا كل شيء منها . وأما ما سوى ذلك فإنه إنما أحل لنا الانتفاع بها ما لم يحل لنا أكلها ، لأنه ذكر في سوره الأنعام الأكل ثم ذكر على إثره ثمانية الأزواج هذه : الإبل والبقر والمعز والضأن حين قال عز وجل : { كلوا مما رزقكم الله } [ الآية : 142 ] ثم قال عز وجل : { ثمانية أزواج من الضأن اثنين } إلى آخر ما ذكر .

وهذا يدل على أن قوله عز وجل : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } [ الأنعام : 145 ] إنما هو مما ذكر ، أي لا أجد محرما من هذه الأصناف إلا ما ذكر من الدم والميتة ولحم الخنزير . ثم يخرج استثناؤه لحم الخنزير مخرج استثناء غير جنس المذكور على إضمار كون ذلك الغير فيه . وذلك غير جائز في الكلام كقوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] كأنه قال { أحلت لكم بهيمة الأنعام } والاصطياد { إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد } فعلى ذلك الأول ، كأنه أضمر فيه استثناء لحم الخنزير منه ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } قال أهل التأويل : تحويله من حال إلى حال من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة حتى يتم خلقا مستويا { في ظلمات ثلاث } قيل : الرحم والبطن والمشيمة ، وقيل : الظهر ؛ يخبر عن قدرته وعلمه وتدبيره أنه حين قدر على خلق الإنسان وكل خلق في تلك الظلمات الثلاث والتسوية بين كل شيء منه من اليدين والرجلين والعينين والأذنين والسمعين والبصرين وقسمة الأعضاء على السواء حتى لا تزاد إحدى اليدين على الأخرى ، وكذلك إحدى الرجلين وإحدى العينين وإحدى الشفتين ، وكذلك كل شيء منه هو في تلك النطفة من العينين واليدين والرجلين والبصر وكل الجوارح ما لو اجتمع الحكماء جميعا حكماء البشر لا يعرفون كون شيء من الجوارح والنفس وتقديرها من تلك النطفة وتصويرها منها ليعلم أنه قادر على خلق الأشياء من لا شيء وبسبب وغير سبب ، وما جعل من الأسباب لبعض الأشياء لم يجعلها استعانة منه على إنشاء ذلك ، وأن من قدر على تقدير ما ذكر تصويره في الظلمات التي ذكر على السبيل الذي ذكر فإنه لا يخفى عليه شيء ، ولا يعجزه شيء .

يحتج عليهم لإنكارهم البعث وإنكارهم بعث الرسول والحجج ؛ يخبر أن من فعل ما ذكر من تغييرهم من حال إلى حال وتحويلهم من صورة إلى صورة أخرى أنه لا يفعل ذلك ليتركهم سدى لا يأمرهم ، ولا ينهاهم ، ولا يمتحنهم . ثم إذا امتحنهم لا يحتمل ألا يبعثهم ليجزي المسيء منهم والعاصي جزاء الإساءة والعصيان والمحسن منهم والمطيع جزاء الإحسان والطاعة ؛ إذ قد سوى بينهم في هذه الدار . وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما . فلا بد من دار أخرى ، يفرق بينهما ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } يحتمل { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي ذلكم الله الذي ذكر من تقديركم وتصويركم في ظلمات تلك النطفة ، هو ربكم الذي فعل ذلك .

ويحتمل أن يكون قوله عز وجل : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } أي جميع ما ذكر من قوله عز وجل : { خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار } [ الزمر : 5 ] وما ذكر من تسخير الشمس والقمر وجريانهما على سنن واحد وعلى قدر واحد ، وما ذكر من خلقنا جميعا من تلك النفس الواحدة إلى آخر ما ذكر ، يقول : { ذلكم الله } الذي فعل ذلك كله ، هو ربكم .

وقوله تعالى : { لا إله إلا هو فأنى تصرفون } أي فأنى عبادتكم إلى غيره ؟ أو فأنى تصرفون ألوهيته وربوبيته إلى غيره ؟ وتجعلون له شركاء وأعدالا ، وتعلمون أن الذي فعل ذلك كله ، هو الله الواحد الذي ، لا شريك له ، ولا مثيل .

أو يذكر أن من ذكر النعم التي أعطاكم ، وأسدى إليكم ، هو ربكم الذي خلقكم ، فكيف تصرفون شكرها إلى غيره ؟ والله أعلم .