ثم استثنى فقال :{ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر } ، قال مجاهد : هم بنو مقرن من مزينة . وقال الكلبي : أسلم وغفار وجهينة . أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنا جدي عبد الرحمن البزار ، أنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري ، أنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، أنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان " . { ويتخذ ما ينفق قربات عند الله } ، القربات جمع القربة ، أي : يطلب القربة إلى الله تعالى ، { وصلوات الرسول } ، أي : دعاءه واستغفاره ، قال عطاء : يرغبون في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم . { ألا إنها قربة لهم } . قرأ نافع برواية ورش " قربة " بضم الراء ، والباقون بسكونها . { سيدخلهم الله في رحمته } ، في جنته ، { إن الله غفور رحيم* }
وهناك الفريق الآخر ممن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان :
( ومن الأعراب من يؤمن باللّه واليوم الآخر ، ويتخذ ما ينفق قربات عند اللّه وصلوات الرسول . ألا إنها قربة لهم . سيدخلهم اللّه في رحمته . إن اللّه غفور رحيم )
فهو الإيمان باللّه واليوم الآخر باعث الإنفاق عند هذا الفريق ، لا الخوف من الناس ، ولا الملق للغالبين ، ولا حساب الربح والخسارة في دنيا الناس !
وهذا الفريق المؤمن باللّه واليوم الآخر يبتغي بما ينفق أن يكون قربى من اللّه ؛ ويتطلب صلوات الرسول . . أي دعواته . . الدالة على رضاه [ ص ] ، المقبولة عند اللّه ، وهو يدعو بها للمؤمنين باللّه واليوم الآخر ، المنفقين ابتغاء القربى من اللّه ورضاه .
لذلك يبادر السياق فيقرر لهم أنها قربى مقبولة عند اللّه :
ويبشرهم بحسن العاقبة وعداً من اللّه حقاً :
( سيدخلهم اللّه في رحمته ) . .
ويجسم الرحمة كأنها دار يدخلونها فتحتويهم ؛ وذلك في مقابل تجسيم ( دائرة السوء )على الفريق الاخر ، الذي يتخذ ما ينفق مغرماً ، ويتربص بالمؤمنين الدوائر .
يقبل التوبة ، ويتقبل النفقة ، ويغفر ما كان من ذنب ، ويرحم من يبتغون الرحمة .
وقوله : { وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } هذا هو القسم الممدوح من الأعراب ، وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله ، ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم ، { أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ } أي : ألا إن ذلك حاصل لهم ، { سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ الأعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَيَتّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرّسُولِ أَلآ إِنّهَا قُرْبَةٌ لّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ومن الأعراب من يصدق الله ويقرّ بوحدانيته وبالبعث بعد الموت والثواب والعقاب ، وينوي بما ينفق من نفقة في جهاد المشركين وفي سفره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قُرُباتٍ عِنْدَ اللّهِ القربات : جمع قُرْبة ، وهو ما قربه من رضا الله ومحبته . وَصَلوَاتِ الرّسُولِ ، يعني بذلك : ويبتغي بنفقة ما ينفق مع طلب قربته من الله دعاء الرسول واستغفاره له .
وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن من معاني الصلاة الدعاء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَصَلوَاتِ الرّسُولِ يعني استغفار النبيّ عليه الصلاة والسلام .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ومِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرّسُولِ قال : دعاء الرسول ، قال : هذه ثنية الله من الأعراب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ قال : هم بنو مقرن من مزينة ، وهم الذين قال الله فيهم : وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أجِدُ ما أحْمِلُكُمْ علَيْهِ تَوَلّوْا وأعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْع حَزَنا قال : هم بنو مُقَرن من مزينة .
قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : الأعْرَابُ أشَدّ كُفْرا وَنِفاقا ثم استثنى فقال : وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ . . . الآية .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا جعفر ، عن البختري بن المختار العبدي ، قال : سمعت عبد الله بن مُغَفّل قال : كنا عشرة ولد مُقَرّن ، فنزلت فينا : وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ . . . إلى آخر الآية .
قال الله : أَلاَ إنهَا قُرْبةٌ لَهُمْ ، يقول تعالى ذكره : ألا إن صلوات الرسول قربة لهم من الله ، وقد يحتمل أن يكون معناه : ألا إن نفقته التي ينفقها كذلك قربة لهم عند الله . سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ في رحْمَتِهِ يقول : سيدخلهم الله فيمن رحمه فأدخله برحمته الجنة ، إن الله غفور لما اجترموا ، رحيم بهم مع توبتهم وإصلاحهم أن يعذبهم .
{ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قُربات عند الله } سبب { قربات } وهي ثاني مفعولي { يتخذ } ، وعند الله صفتها أو ظرف ل { يتخذ } . { وصلوات الرسول } وسبب صلواته لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم ، ولذلك سن للمصدق عليه أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه كما قال صلى الله عليه وسلم " اللهم صل على آل أبي أوفى " ، لأنه منصبه فله أن يتفضل به على غيره . { إلا إنها قُربة لهم } شهادة من الله بصحة معتقدهم وتصديق لرجائهم على الاستئناف مع حرف التنبيه وإن المحققة للنسبة والضمير لنفقتهم وقرأ ورش { قربة } بضم الراء . { سيدخلهم الله في رحمته } وعدلهم بإحاطة الرحمة عليهم والسين لتحقيقه وقوله : { إن الله غفور رحيم } لتقريره . وقيل الأولى في أسد وغطفان وبني تميم والثانية في عبد الله ذي البجادين وقومه .
هؤلاء هم المؤمنون من الأعراب وفَّاهم الله حقهم من الثناء عليهم ، وهم أضداد الفريقين الآخَرين المذكورين في قوله : { الأعراب أشد كفراً ونفاقاً } [ التوبة : 97 ] وقوله { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مَغرماً } [ التوبة : 97 ] . قيل : هم بنو مُقَرّن من مزينة الذين نزل فيهم قوله تعالى : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } [ التوبة : 92 ] الآية كما تقدم . ومن هؤلاء عبد الله ذو البجادين المزَني هو ابن مغفل . والإنفاق هنا هو الإنفاق هناك . وتقدم قريباً معنى { يتخذ } .
و { قربات } بضم القاف وضم الراء : جمع قربة بسكون الراء . وهي تطلق بمعنى المصدر ، أي القرب وهو المراد هنا ، أي يتخذون ما ينفقون تقرباً عند الله . وجَمْع قربات باعتبار تعدد الإنفاق ، فكل إنفاق هو قربة عند الله لأنه يوجب زيادة القرب . قال تعالى : { يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيُّهم أقرب } [ الإسراء : 57 ] . ف { قربات } هنا مجاز مستعمل في رضى الله ورفع الدرجات في الجنة ، فلذلك وصفت ب { عند } الدالة على مكان الدنو . و ( عند ) مجاز في التشريف والعناية ، فإن الجنة تشبّه بدار الكرامة عند الله . قال تعالى : { إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر } [ القمر : 54 ، 55 ] .
و { وصلوات الرسول } دعواته . وأصل الصلاة الدعاء . وجمعت هنا لأن كل إنفاق يقدمونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لهم بسببه دعوة ، فبتكرر الإنفاق تتكرر الصلاة . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على كل من يأتيه بصدقته وإنفاقه امتثالاً لما أمره الله بقوله : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم } [ التوبة : 103 ] . وجاء في حديث ابن أبي أوفَى أنه لما جاء بصدقته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اللهم صل على آل أبي أوْفَى » .
ويجوز عطف { صلوات الرسول } على اسم الجلالة معمولاً ل { عند } ، أي يتخذون الإنفاق قربة عند صلوات الرسول ، أي يجعلونه تقرباً كائناً في مكان الدنو من صلوات الرسول تشبيهاً للتسبب في الشيء بالاقتراب منه ، أي يجعلون الإنفاق سبباً لدعاء الرسول لهم . فظرف ( عند ) مستعمل في معنيين مجازيين . ويجوز أن يكون { وصلوات الرسول } عطفاً على { قربات عند الله } ، أي يتخذ ما ينفق دعوات الرسول . أخبر عن الإنفاق باتخاذه دعوات الرسول لأنه يتوسل بالإنفاق إلى دعوات الرسول إذ أمر بذلك في قوله تعالى : { وصل عليهم } [ التوبة : 103 ] .
وجملة : { ألا إنها قربة لهم } مستأنفة مسوقة مساق البشارة لهم بقبول ما رجوه . وافتتحت الجملة بحرف الاستفتاح للاهتمام بها ليعيها السامع ، وبحرف التأكيد لتحقيق مضمونها ، والضمير الواقع اسم ( إنَّ ) عائد إلى ما ( ينفق ) باعتبار النفقات . واللام للاختصاص ، أي هي قربة لهم ، أي عند الله وعند صلوات الرسول . وحذف ذلك لدلالة سابق الكلام عليه . وتنكير { قربة } لعدم الداعي إلى التعريف ، ولأن التنكير قد يفيد التعظيم .
وجملة : { سيدخلهم الله في رحمته } واقعة موقع البيان لجملة { إنها قربة لهم } ، لأن القربة عند الله هي الدرجات العلى ورضوانه ، وذلك من الرحمة . والقربة عند صلوات الرسول صلى الله عليه وسلم إجابة صلاته . والصلاة التي يدعو لهم طلب الرحمة ، فمآل الأمرين هو إدخال الله إياهم في رحمته . وأوثر فعل الإدخال هنا لأنه المناسب للكون في الجنة ، إذ كثيراً ما يقال : دخل الجنة . قال تعالى : { وادخلي جنتي } [ الفجر : 30 ] .
وجملة : { إن الله غفور رحيم } تذييل مناسب لما رجوه وما استجيب لهم . وأثبت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الخبر ، أي غفور لما مضى من كفرهم ، رحيم بهم يفيض النعم عليهم .
وقرأ الجمهور { قرْبة } بسكون الراء ، وقرأه ورش وحده بضم الراء لاتباع القاف .