{ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } ، والألف فيه للمبالغة في الحمد ، وله وجهان : أحدهما : أنه مبالغة من الفاعل ، أي الأنبياء كلهم حمادون لله عز وجل ، وهو أكثر حمداً لله من غيره ، والثاني : أنه مبالغة من المفعول ، أي الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو أكثرهم مناقب وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها ، { فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين } .
ثم جاء عيسى بن مريم . جاء يقول لبني إسرائيل :
( يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم ) . .
فلم يقل لهم : إنه الله ، ولا إنه ابن الله ، ولا إنه أقنوم من أقانيم الله .
( مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) . .
في هذه الصيغة التي تصور حلقات الرسالة المترابطة ، يسلم بعضها إلى بعض ، وهي متماسكة في حقيقتها ، واحدة في اتجاهها ، ممتدة من السماء إلى الأرض ، حلقة بعد حلقة في السلسلة الطويلة المتصلة . . وهي الصورة اللائقة بعمل الله ومنهجه . فهو منهج واحد في أصله ، متعدد في صوره ، وفق استعداد البشرية وحاجاتها وطاقاتها ، ووفق تجاربها ورصيدها من المعرفة حتى تبلغ مرحلة الرشد العقلي والشعوري ، فتجيء الحلقة الأخيرة في الصورة الأخيرة كاملة شاملة ، تخاطب العقل الراشد ، في ضوء تلك التجارب ، وتطلق هذا العقل يعمل في حدوده ، داخل نطاق المنهج المرسوم للإنسان في جملته ، المتفق مع طاقاته واستعداداته .
وبشارة المسيح بأحمد ثابتة بهذا النص ، سواء تضمنت الأناجيل المتداولة هذه البشارة أم لم تتضمنها . فثابت أن الطريقة التي كتبت بها هذه الأناجيل والظروف التي أحاطت بها لا تجعلها هي المرجع في هذا الشأن .
وقد قرئ القرآن على اليهود والنصارى في الجزيرة العربية وفيه : ( النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) . . وأقر بعض المخلصين من علمائهم الذين أسلموا كعبدالله بن سلام بهذه الحقيقة ، التي كانوا يتواصون بتكتمها !
كما أنه ثابت من الروايات التاريخية أن اليهود كانوا ينتظرون مبعث نبي قد أظلهم زمانه ، وكذلك بعض الموحدين المنعزلين من أحبار النصارى في الجزيرة العربية . ولكن اليهود كانوا يريدونه منهم . فلما شاء الله أن يكون من الفرع الآخر من ذرية إبراهيم ، كرهوا هذا وحاربوه !
وعلى أية حال فالنص القرآني بذاته هو الفيصل في مثل هذه الأخبار . وهو القول الأخير . .
وقوله : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } يعني : التوراة قد بَشَّرَت بي ، وأنا مصداقُ ما أخبرت عنه ، وأنا مُبَشّر بمن بعدي ، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد . فعيسى ، عليه السلام ، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل ، وقد أقام{[28783]} في ملأ بني إسرائيل مبشرًا بمحمد ، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة . وما أحسن ما أورد البخاري الحديثَ الذي قال فيه :
حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني محمد بن جُبَير بن مُطعم ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يَمحُو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب " .
ورواه مسلم ، من حديث الزهري ، به نحوه{[28784]} .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا المسعودي ، عن عمرو بن مُرّة ، عن أبي عُبَيدة ، عن أبي موسى قال : سَمَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفسه أسماءً ، منها ما حفظنا فقال : " أنا محمد ، وأنا أحمد ، والحاشر ، والمقفي ، ونبي الرحمة ، والتوبة ، والملحمة " .
ورواه مسلم من حديث الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، به{[28785]}
وقد قال الله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عمران : 81 ]
قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد : لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه ، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني ثور بن يَزيد ، عن خالد بن مَعْدَانَ ، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا : يا رسول الله ، أخبرنا عن نفسك . قال : " دعوة أبي إبراهيم ، وبُشْرَى عيسى ، ورأت أمي حين حملت بي{[28786]} كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام " {[28787]} .
وهذا إسناد جيد . ورُوي له شواهد من وجوه أخر ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن سعيد بن سُوَيد الكلبي ، عن عبد الأعلى بن هلال{[28788]} السلمي ، عن العِرْباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجَدلٌ في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك دَعْوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يَرَين " {[28789]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج بن فضالة ، حدثنا لقمان بن عامر قال : سمعت أبا أمامة قال : قلت يا نبي الله ، ما كان بدء أمرك ؟ قال : " دعوة أبي إبراهيم ، وبُشْرَى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرجُ منها نور أضاءت له قصورُ الشام " {[28790]}
وقال أحمد أيضا : حدثنا حسن بن موسى : سمعت خُدَيجًا أخا زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن مسعود قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحوٌ من ثمانين رجلا منهم : عبد الله بن مسعود ، وجعفر ، وعبد الله بن [ عُرْفُطَة ] {[28791]} وعثمان بن مظعون ، وأبو موسى . فأتوا النجاشي ، وبعثَت قريش عمرو بن العاص ، وعمارة بن الوليد بهدية ، فلما دخلا على النجاشي سَجَدا له ، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ، ثم قالا له : إن نفرًا من بني عمنا نزلوا أرضك ، ورغبوا عنا وعن ملتنا ، قال : فأين هم ؟ قالا هم في أرضك ، فابعث إليهم . فبعث إليهم . فقال جعفر : أنا خطيبكم اليوم . فاتبعوه فسلَّم ولم يسجد ، فقالوا له : ما لك لا تسجد للملك ؟ قال : إنا لا نسجد إلا لله عز وجل . قال وما ذاك ؟ قال : إن الله بعث إلينا رسوله ، فأمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل ، وأمرنا بالصلاة والزكاة .
قال عمرو بن العاص : فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم . قال : ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه ؟ قالوا : نقول كما قال الله عز وجل : هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البَتُول ، التي لم يمسها بَشَر ولم يَفْرضْها{[28792]} ولد . قال : فرفع عودًا من الأرض ثم قال : يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ، ما يساوي هذا . مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده ، أشهد أنه رسول الله ، وأنه الذي نجد في الإنجيل ، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم . انزلوا حيث شئتم ، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه . وأمَرَ بهدية الآخرَين فردت إليهما ، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرًا ، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلَغه موته{[28793]}
وقد رُويت هذه القصةُ عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما ، وموضع ذلك كتاب السيرة . والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها ، وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث . وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده ، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم ، وكذا على لسان عيسى ابن مريم ؛ ولهذا قالوا : " أخبرنا عن بَدْء أمرك " يعني : في الأرض ، قال : " دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى ابن مريم ، ورؤيا أمي التي رأت " أي : ظهر في أهل مكة أثر ذلك والإرهاص بذكره صلوات الله وسلامه عليه .
وقوله : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } قال ابن جريج وابن جرير : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ } أحمد ، أي : المبشر به في الأعصار المتقادمة ، المنَّوه بذكره في القرون السالفة ، لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون : { هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جَاءَهُم بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ هََذَا سِحْرٌ مّبِينٌ } .
يقول تعالى ذكره : واذكر أيضا يا محمد إذْ قالَ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ لقومه من بني إسرائيل يا بَنِي إسْرائِيلَ إنّي رَسُولُ اللّهِ إلَيْكُمْ مُصَدّقا لِمَا بَينِ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ التي أُنزلت على موسى وَمُبَشّرا أبشركم بِرَسُولٍ يأتي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني معاوية بن صالح ، عن سعيد بن سويد ، عن عبد الأعلى بن هلال السلميّ ، عن عرباض بن سارية ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّي عِنْدَ اللّهِ مَكْتُوبٌ لخَاتِمُ النّبِيّينَ ، وَإنّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ ، وسأُخْبِرُكُمْ بأوّلِ ذَلكَ : دَعْوَةُ أبي إبْرَاهِيمَ ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي ، وَالرّوءْيا التي رأتْ أُمّي ، وكَذلكَ أُمّهاتُ النّبِيّينَ ، يَرَيْنَ أنّها رأتْ حِينَ وَضَعَتْنِي أنّهُ خَرَجَ مِنْها نُورٌ أضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشّام » .
فَلَمّا جاءَهُمْ بالبَيّناتِ يقول : فلما جاءهم أحمد بالبينات ، وهي الدلالات التي آتاه الله حججا على نبوّته قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ يقول : ما أتى به غير أنني ساحر .
{ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل } ، ولعله لم يقل يا قوم كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لأنه لا نسب له فيهم ، { إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا }في حال تصديقي لما تقدمني من التوراة وتبشيري { برسول يأتي من بعدي } ، والعامل في الحالين ما في الرسول من معنى الإرسال لا الجار لأنه لغو إذ هو صلة للرسول فلا يعمل برسول يأتي من بعدي ، { اسمه أحمد }يعني محمدا صلى الله عليه وسلم والمعنى أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه فذكر أول الكتب المشهورة الذي حكم به النبيون والنبي الذي هو خاتم المرسلين ، { فلما جاءهم بالبينات قالوا سحر مبين } الإشارة إلى ما جاء به أو إليه وتسميته سحر للمبالغة ويؤيده قراءة حمزة والكسائي هذا ساحرا على أن الإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام .
المعنى : «واذكر يا محمد إذ قال عيسى » ، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لكفار قريش ، وحكي عن موسى أنه قال : { يا قوم } [ الصف : 5 ] وعن عيسى أنه قال : { يا بني إسرائيل } من حيث لم يكن له فيهم أب ، و { مصدقاً } ، حال مؤكدة ، { ومبشراً } عطف عليه ، وقوله تعالى : { يأتي من بعدي } ، وقوله : { اسمه أحمد } جملتان كل واحدة منهما في موضع خفض على الصفة لرسول ، و { أحمد } فعل سمي به ، ويحتمل أن يكون أفعل كأسود ، وهو في هذه الآية الكلمة لا الشخص ، وليست على حد قولك جاءنا أحمد لأنك ها هنا أوقعت الاسم على مسماه ، وفي الآية إنما أراد : اسمه هذه الكلمة ، وذكر أبو علي هذا الغرض ومنه ينفك إعراب قوله تعالى { يقال له إبراهيم }{[11076]} [ الأنبياء : 60 ] ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر : «بعديَ » بفتح الياء ، وقوله تعالى : { فلما جاءهم بالبينات } ، الآية يحتمل أن يريد { عيسى } ، وتكون الآية وما بعدها تمثيلاً بأولئك لهؤلاء المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون التمثيل قد فرغ عند قوله : { اسمه أحمد } ، ثم خرج إلى ذكر { أحمد } لما تطرق ذكره ، فقال مخاطبة للمؤمنين ، { فلما جاء } أحمد هؤلاء الكفار { قالوا هذا سحر مبين } ، و «البينات » هي الآيات والعلامات ، وقرأ جمهور الناس : «هذا ساحر » إشارة إلى ما جاء به ، وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش وابن وثاب : «هذا سحر » إشارة إليه بنفسه ، وقوله تعالى : { ومن أظلم } تعجيب وتقرير أي لا أحد أظلم منه ، و «افتراء الكذب » هو قولهم : { هذا سحر } ، وما جرى مجرى هذا من الأقوال التي هي اختلاق وبغير دليل .