اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُم مُّصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولٖ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِي ٱسۡمُهُۥٓ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٞ} (6)

قوله : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ } أي اذكر لهم هذه القصة أيضاً ، وقال : { يا بني إِسْرَائِيلَ } ولم يقل : «يا قوم » كما قال موسى ؛ لأنه لأنه لا نسب له فيهم ، فيكونون قومه{[56420]} ، وقوله : { إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم } أي : بالإنجيل .

قوله : «مُصدِّقاً » حال ، وكذلك : «مُبَشِّراً » والعامل فيه : «رسول » ؛ لأنه بمعنى المرسل{[56421]} .

قال الزمخشري{[56422]} : فإن قلت : بم انتصب : «مصدقاً ، ومبشراً » أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم ؟ قلت : بمعنى : الإرسال ؛ لأن «إليكم » صلة للرسول ، فلا يجوز أن تعمل شيئاً لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها ، ولكن بما فيها من معنى الفعل ، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل فمن أين تعمل ؟ انتهى .

يعني بقوله : صلات ، أنها متعلقة ب «رسول » صلة له ، أي : متصل معناها به لا الصلة الصناعية .

قوله : { يأتي من بعدي } ، وقوله : «اسمه أحمد » ، جملتان في موضع جر نعتاً لرسول .

أو «اسْمهُ أحمدُ » في موضع نصب على الحال من فاعل «يأتي »{[56423]} .

أو تكون الأولى نعتاً ، والثانية حالاً ، وكونهما حالين ضعيف ، لإتيانهما من النكرة وإن كان سيبويه يجوزه{[56424]} .

وقرأ نافع وابن كثير{[56425]} وأبو عمرو : «مِنْ بَعدِيَ » - بفتح الياء - وهي قراءة السلمي ، وزرّ بن حبيش ، وأبو بكر عن عاصم ، واختاره أبو حاتم ؛ لأنه اسم ، مثل الكاف من «بعدك » ، والتاء من «قمت »{[56426]} .

والباقون : قرءوا بالإسكان .

وقرئ{[56427]} : { من بعد اسمه أحمد } ، فحذف الياء من اللفظ .

و«أحمدُ » اسم نبينا صلى الله عليه وسلم هو اسم علم .

يحتمل أن يكون من صفة ، وهي : «أفعل » التفضيل ، وهو الظَّاهر ، فمعنى «أحمد » أي : أحمدُ الحامدين لربِّه .

والأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - كلهم حمادون لله ، ونبينا «أحْمَد » أكثرهم حمداً{[56428]} .

قال البغويُّ{[56429]} : والألف في «أحْمَد » ، للمبالغة في الحمد ، وله وجهان :

أحدهما : أنه مبالغة من الفاعل ، أي : الأنبياء كلهم حمادون الله - عز وجل - ، وهو أكثر حمداً لله من غيره .

والثاني : أنه مبالغة في المفعول ، أي : الأنبياء كلهم محمودون ، لما فيهم من الخصال الحميدة ، وهو أكثر مبالغة ، وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها ، انتهى .

وعلى كلا الوجهين ، فمنعه من الصرف للعلمية والوزن الغالب ، إلاَّ أنَّهُ على الاحتمال الأول يمتنع معرفة وينصرف نكرة . وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً ؛ لأنه يخلف العلمية للصفة .

وإذا أنكر بعد كونه علماً جرى فيه خلاف سيبويه{[56430]} والأخفش ، وهي مسألة مشهورة بين النحاة .

وأنشد حسان - رضي الله عنه - يمدحه - عليه الصلاة والسلام - ويصرفه : [ الكامل ]

4764 - صَلَّى الإلَهُ ومَنْ يَحُفُّ بِعرْشِهِ***والطَّيِّبُونَ على المُبَارَكِ أحْمَدِ{[56431]}

«أحمد » : بدل أو بيان «للمُبَارك » .

وأما «مُحَمَّد » فمنقول من صفة أيضاً ، وهو في معنى «محمود » ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار ، ف «محمّد » هو الذي حمد مرة بعد أخرى{[56432]} .

قال القرطبي{[56433]} : «كما أن المكرَّم من الكرم مرة بعد أخرى ، وكذلك المدح ونحو ذلك ، فاسم " محمد " مطابق لمعناه ، فالله - سبحانه وتعالى - سماه قبل أن يسمي به نفسه ، فهذا علم من أعلام نبوته ، إذ كان اسمه صادقاً عليه ، فهو محمود في الدنيا لما هدي إليه ، ونفع به من العلم والحكمة ، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة ، فقد تكرر معنى الحمد ، كما يقتضي اللفظ ، ثم إنه لم يكن محمداً حتى كان : " أحمد " حمد ربه فنبأه وشرفه ، فلذلك تقدم اسم : " أحمد " على الاسم الذي هو محمد ، فذكره عيسى فقال : " اسمه أحمد " ، وذكره موسى - عليه الصلاة والسلام - حين قال له ربه : تلك أمة أحمد ، فقال : اللهم اجعلني من أمَّة محمد ، فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد ؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له ، فلما وجد وبعث ، كان محمداً بالفعل ، وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه ، فيكون أحمد الناس لربه ، ثم يشفع فيحمد على شفاعته » .

رُوِيَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : «اسْمِي في التَّوراةِ أحْيَدُ ؛ لأنِّي أحِيدُ أمَّتِي عن النَّارِ ، واسمي في الزَّبُورِ : المَاحِي ، مَحَا اللَّهُ بي عبدةَ الأوثانِ ، واسْمِي في الإنجيلِ : أحْمَدُ ، وفي القُرْآنِ : مُحَمَّدٌ ؛ لأنِّي محمُود فِي أهْلِ السَّماءِ والأرْضِ »{[56434]} .

وفي الصحيح : «لِي خَمْسَةُ أسْمَاء : أنَا مُحمَّدٌ وأحمدُ ، وأنا المَاحِي الذي يَمحُو اللَّهُ بِيَ الكُفر ، وأنا الحَاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ على قدمِي ، وأنَا العَاقِبُ »{[56435]} وقد تقدم .

قوله : { فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات } ، قيل : عِيْسَى ، وقيل : مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم .

{ قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } ، قرأ حمزة{[56436]} والكسائي : «ساحر » نعتاً للرجل ، وروي أنها قراءة ابن مسعود .

والباقون : «سحر » نعتاً لما جاء به الرسول ، قال أبو حيان هنا{[56437]} : وقرأ الجمهور : «سحر » ، وعبد الله ، وطلحة والأعمش ، وابن وثاب : «ساحر » ، وترك ذكر الأخوين{[56438]} .


[56420]:ينظر: القرطبي 18/55.
[56421]:ينظر: الدر المصون 6/310.
[56422]:ينظر: الكشاف 4/525.
[56423]:ينظر: الدر المصون 6/310.
[56424]:ينظر: الكتاب 1/199.
[56425]:ينظر: السبعة 235، والحجة 6/288، وإعراب القراءات 2/363، والعنوان 190، وشرح الطيبة 6/53، وشرح شعلة 603، وإتحاف 2/536.
[56426]:ينظر: القرطبي 18/55.
[56427]:ينظر السابق.
[56428]:القرطبي 18/55.
[56429]:ينظر: معالم التنزيل 4/337.
[56430]:ينظر: الكتاب 2/5.
[56431]:البيت لحسان بن ثابت ينظر ديوانه 153، والبحر 8/259، والدر المصون 6/310.
[56432]:ينظر: الدر المصون 6/310.
[56433]:الجامع لأحكام القرآن 18/55.
[56434]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (5/529) والقرطبي (18/55).
[56435]:أخرجه البخاري 8/509، كتاب التفسير، باب:"يأتي من بعدي اسمه أحمد" (4896)، ومسلم 4/1828، كتاب الفضائل، باب: في أسمائه صلى الله عليه وسلم (124-235).
[56436]:ينظر: حجة القراءات 707، والعنوان 190، وإتحاف 2/536، وينظر: المحرر الوجيز 5/303، والبحر المحيط 8/259، والدر المصون 6/311.
[56437]:ينظر: البحر المحيط 8/259.
[56438]:الدر المصون 6/311.