واليقين بلقاء الله - واستعمال ظن ومشتقاتها في معنى اليقين كثير في القرآن وفي لغة العرب عامة - واليقين بالرجعة إليه وحده في كل الأمور . . هو مناط الصبر والاحتمال ؛ وهو مناط التقوى والحساسية . كما أنه مناط الوزن الصحيح للقيم : قيم الدنيا وقيم الآخرة . ومتى استقام الميزان في هذه القيم بدت الدنيا كلها ثمنا قليلا ، وعرضا هزيلا ؛ وبدت الآخرة على حقيقتها ، التي لا يتردد عاقل في اختيارها وإيثارها .
وكذلك يجد المتدبر للقرآن في التوجيه الذي قصد به بنو إسرائيل أول مرة ، توجيها دائما مستمر الإيحاء للجميع . .
هذا من تمام الكلام الذي قبله ، أي : وإن الصلاة أو الوَصَاة{[1700]} لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ، أي : [ يعلمون أنهم ]{[1701]} محشورون إليه يوم القيامة ، معروضون عليه ، وأنهم إليه راجعون ، أي : أمورهم راجعة إلى مشيئته ، يحكم فيها ما يشاء بعدله ، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سَهُل عليهم فعلُ الطاعات وترك المنكرات .
فأما قوله : { يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } قال{[1702]} ابن جرير ، رحمه الله : العرب قد تسمي اليقين ظنا ، والشك ظنًا ، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفة ، والضياء سُدفة ، والمغيث صارخا ، والمستغيث صارخًا ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضدّه ، كما قال دُرَيد بن الصِّمَّة :
فقلت لهم ظُنُّوا بألفي مُدَجَّجٍ *** سَرَاتُهُم في الفَارسِيِّ المُسَرَّدِ{[1703]}
يعني بذلك تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم ، وقال عَمِيرة بن طارق :
بِأنْ يَعْتَزُوا{[1704]} قومي وأقعُدَ فيكم *** وأجعلَ مني الظنَّ غيبا مرجمّا{[1705]}
يعني : وأجعل مني اليقين غيبا مرجما ، قال : والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين ، أكثر من أن تحصر ، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية ، ومنه قول الله تعالى : { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا } [ الكهف : 53 ] .
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : كل ظن في القرآن يقين ، أي : ظننت وظَنوا .
وحدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا أبو داود الحَفَرِيّ ، عن سفيان عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، قال : كل ظن في القرآن فهو علم . وهذا سند صحيح .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله تعالى : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } قال : الظن هاهنا يقين .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وقتادة نحو قول أبي العالية .
وقال سُنَيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } علموا أنهم ملاقو ربهم ، كقوله : { إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 20 ] يقول : علمت .
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
قلت : وفي الصحيح : " أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : ألم أزوجك ، ألم أكرمك ، ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى . فيقول الله تعالى : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا . فيقول الله : اليوم أنساك كما نسيتني " . وسيأتي مبسوطا عند قوله : { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] إن شاء الله ، والله تعالى أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُم مّلاَقُو رَبّهِمْ وَأَنّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف أخبر الله جل ثناؤه عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة أنه يظنّ أنه ملاقيه ، والظنّ : شكّ ، والشاكّ في لقاء الله عندك بالله كافر ؟ قيل له : إن العرب قد تسمي اليقين ظنا ، والشك ظنا ، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفة والضياء سُدْفة ، والمغيث صارخا ، والمستغيث صارخا ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تسمي بها الشيء وضدّه . ومما يدل على أنه يسمى به اليقين قول دُريد بن الصمة :
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنّوا بإِلْفَيْ مُدَجّجٍ *** سَرَاتُهُمُ في الفارِسيّ المُسَرّدِ
يعني بذلك : تيقنوا ألفي مدجج تأتيكم . وقول عَميرة بن طارق :
بِأنْ تَغْتَزُوا قَوْمي وأقْعُدُ فِيكُمُ *** وأجْعَلَ مِنّي غَيْبا مُرَجّمَا
يعني : وأجعل مني اليقين غيبا مرجما . والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظنّ في معنى اليقين أكثر من أن تحصى ، وفيما ذكرنا لمن وُفّق لفهمه كفاية .
ومنه قول الله جل ثناؤه : ورأى المُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوا أنّهُمْ مُواقِعوها . وبمثل الذي قلنا في ذلك جاء تفسير المفسرين .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : يظّنونَ أنّهُمْ مُلاقُوا رَبّهمْ قال : إن الظنّ ههنا يقين .
وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : كل ظنّ في القرآن يقين ، إني ظننت وظنوا .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو داود الحفري ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كل ظنّ في القرآن فهو علم .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : الّذين يظنّون أنّهم مُلاقوا ربّهم أما يظنون فيستيقنون .
وحدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : الّذين يظنّونَ أنّهم مُلاقُوا ربّهم علموا أنهم ملاقوا ربهم ، هي كقوله : إنّي ظَنَنْتُ أني مُلاقٍ حِسابِيَه يقول علمت .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : الّذِينَ يَظُنون أنَهُمْ مُلاقُو رَبّهِمْ قال : لأنهم لم يعاينوا ، فكان ظنهم يقينا ، وليس ظنا في شك . وقرأ : إنّي ظَنَنْتُ أنّي مُلاقٍ حسابيَهْ .
القول في تأويل قوله تعالى : أنّهّمْ مُلاقُو رَبّهِمْ .
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف قيل إنهم ملاقو ربهم فأضيف الملاقون إلى الربّ جل ثناؤه وقد علمت أن معناه : الذين يظنون أنهم يلقون ربهم ؟ وإذا كان المعنى كذلك ، فمن كلام العرب ترك الإضافة وإثبات النون ، وإنما تسقط النون وتُضيف في الأسماء المبنية من الأفعال إذا كانت بمعنى فعل ، فأما إذا كانت بمعنى يفعل وفاعل ، فشأنها إثبات النون ، وترك الإضافة قيل : لا تَدَافُعَ بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب وألسنها في إجازة إضافة الاسم المبني من فعل ويفعل ، وإسقاط النون وهو بمعنى يفعل وفاعل ، أعني بمعنى الاستقبال وحالِ الفعل ولما ينقض ، فلا وجه لمسألة السائل عن ذلك : لم قيل ؟
وإنما اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله أضيف وأسقطت النون .
فقال نحويو البصرة : أسقطت النون من : مُلاقو رَبّهمْ وما أشبهه من الأفعال التي في لفظ الأسماء وهي في معنى يفعل وفي معنى ما لم ينقض استثقالاً لها ، وهي مرادة كما قال جل ثناؤه : كُلّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وكما قال : إنّا مُرْسِلُو النّاقَة فِتْنَةً لَهُمْ ولما يرسلها بعد وكما قال الشاعر :
هَلْ أَنْتَ باعِثُ دِينارٍ لِحاجَتِنا *** أوْ عَبْدَ رَبَ أخا عَوْنِ بْنِ مخْرَاقِ
فأضاف باعثا إلى الدينار ، ولما يبعث ، ونصب عبد ربّ عطفا على موضع دينار لأنه في موضع نصب وإن خفض . وكما قال الاَخر :
الحافِظُو عَوْرَةَ العَشِيرَةِ لا *** يَأتيهِمُ مِنْ وَرَائِهِمْ نَطَفُ
بنصب العورة وخفضها . فالخفض على الإضافة ، والنصب على حذف النون استثقالاً ، وهي مرادة . وهذا قول نحويي البصرة .
وأما نحويو الكوفة فإنهم قالوا : جائز في مُلاقُو الإضافة ، وهي في معنى يلقون ، وإسقاط النون منه لأنه في لفظ الأسماء ، فله في الإضافة إلى الأسماء حظّ الأسماء ، وكذلك حكم كل اسم له كان نظيرا . قالوا : وإذا أثبت في شيء من ذلك النون وتركت الإضافة ، فإنما تفعل ذلك به لأن له معنى يفعل الذي لم يكن ولم يجب بعد . قالوا : فالإضافة فيه للفظ ، وترك الإضافة للمعنى .
فتأويل الآية إذا : واستعينوا على الوفاء بعهدي بالصبر عليه والصلاة ، وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخائفين عقابي ، المتواضعين لأمري ، الموقنين بلقائي والرجوع إليّ بعد مماتهم .
وإنما أخبر الله جل ثناؤه أن الصلاة كبيرة إلا على من هذه صفته لأن من كان غير موقن بمعاد ولا مصدّق بمرجع ولا ثواب ولا عقاب ، فالصلاة عنده عناء وضلال ، لأنه لا يرجو بإقامتها إدراك نفع ولا دفع ضرّ ، وحقّ لمن كانت هذه الصفة صفته أن تكون الصلاة عليه كبيرة ، وإقامتها عليه ثقيلة ، وله فادحة .
وإنما خفت على المؤمنين المصدّقين بلقاء الله ، الراجين عليها جزيل ثوابه ، الخائفين بتضييعها أليم عقابه ، لما يرجون بإقامتها في معادهم من الوصول إلى ما وعد الله عليها أهلها ، ولما يحذرون بتضييعها ما أوعد مضيعها . فأمر الله جل ثناؤه أحبار بني إسرائيل الذين خاطبهم بهذه الاَيات أن يكونوا من مقيميها الراجين ثوابها إذا كانوا أهل يقين بأنهم إلى الله راجعون وإياه في القيامة ملاقون .
القول في تأويل قوله تعالى : وأنّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
قال أبو جعفر : والهاء والميم اللتان في قوله : وأنّهُمْ من ذكر الخاشعين ، والهاء في «إليه » من ذكر الربّ تعالى ذكره في قوله : مُلاقُو رَبّهِمْ فتأويل الكلمة : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الموقنين أنهم إلى ربهم راجعون .
ثم اختلف في تأويل الرجوع الذي في قوله : وأنّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ . فقال بعضهم بما :
حدثني به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وأنّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ قال : يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة .
وقال آخرون : معنى ذلك أنهم إليه يرجعون بموتهم .
وأولى التأويلين بالآية القول الذي قاله أبو العالية لأن الله تعالى ذكره ، قال في الآية التي قبلها كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وكُنْتُمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فأخبر الله جل ثناؤه أنَ مرجعهم إليه بعد نشرهم وإحيائهم من مماتهم ، وذلك لا شك يوم القيامة ، فكذلك تأويل قوله : وأنّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
{ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } أي يتوقعون لقاء الله تعالى ونيل ما عنده ، أو يتيقنون أنهم يحشرون إلى الله فيجازيهم ، ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود " يعلمون " وكأن الظن لما شابه العلم في الرجحان أطلق عليه لتضمن معنى التوقع ، قال أوس بن حجر :
فأرسلته مستيقن الظل أنه *** مخالط ما بين الشراسيف جائف
وإنما لم تثقل عليهم ثقلها على غيرهم فإن نفوسهم مرتاضة بأمثالها ، متوقعة في مقابلتها ما يستحقر لأجله مشاقها ويستلذ بسببه متاعبها ، ومن ثمة قال عليه الصلاة والسلام : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " .