قوله تعالى : { وما يستوي البحران } يعني : العذب والمالح ، ثم ذكرهما فقال : { هذا عذب فرات } طيب ، { سائغ شرابه } أي : جائز في الحلق هنيء ، { وهذا ملح أجاج } شديد الملوحة . وقال الضحاك : هو المر . { ومن كل تأكلون لحماً طرياً } يعني : الحيتان من العذب والمالح جميعاً ، { وتستخرجون حلية } أي : من المالح دون العذب { تلبسونها } يعني اللؤلؤ . وقيل : نسب اللؤلؤ إليهما ، لأنه يكون في البحر الأجاج عيون عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من ذلك ، { وترى الفلك فيه مواخر } جواري مقبلة ومدبرة بريح واحدة ، { لتبتغوا من فضله } بالتجارة ، { ولعلكم تشكرون } الله على نعمه .
ويمضي السياق إلى لفتة أخرى في هذه الجولة الكونية المتعددة اللفتات . يمضي إلى مشهد الماء في هذه الأرض من زاوية معينة . زاوية تنويع الماء . فهذا عذب سائغ ، وهذا ملح مر . وكلاهما يفترقان ويلتقيان - بتسخيرالله - في خدمة الإنسان .
( وما يستوي البحران . . هذا عذب فرات سائغ شرابه ، وهذا ملح أجاج . . ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها . وترى الفلك فيه مواخر . لتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون ) . .
إن إرادة التنويع في خلق الماء واضحة ؛ ووراءها حكمة - فيما نعلم - ظاهرة ؛ فأما الجانب العذب السائغ اليسير التناول فنحن نعرف جانباً من حكمة الله فيما نستخدمه وننتفع به ؛ وهو قوام الحياة لكل حي . وأما الجانب الملح المر وهو البحار والمحيطات فيقول أحد العلماء في بيان التقدير العجيب في تصميم هذا الكون الضخم :
؛ وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور - ومعظمها سام - فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع ، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان . وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء - أي المحيط - الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل ، والنباتات . وأخيراً الإنسان نفسه . . " .
وهذا بعض ما تكشف لنا من حكمة الخلق والتنويع ، واضح فيه القصد والتدبير ، ومنظور فيه إلى تناسقات وموازنات يقوم بعضها على بعض في حياة هذا الكون ونظامه . ولا يصنع هذا إلا الله خالق هذا الكون وما فيه ومن فيه . فإن هذا التنسيق الدقيق لا يجيء مصادفة واتفاقاً بحال من الأحوال . والإشارة إلى اختلاف البحرين توحي بمعنى القصد في هذه التفرقة وفي كل تفرقة أخرى . وستأتي في السورة إشارات إلى نماذج منها في عالم المشاعر والاتجاهات والقيم والموازين .
ثم يلتقي البحران المختلفان في تسخيرهما للإنسان :
( ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر ) . .
واللحم الطري هو الأسماك والحيوانات البحرية على اختلافها . والحلية من اللؤلؤ والمرجان . واللؤلؤ يوجد في أنواع من القواقع يتكون في أجسامها نتيجة دخول جسم غريب كحبة رمل أو نقطة ماء ، فيفرز جسم القوقعة داخل الصدفة إفرازاً خاصاً يحيط به هذا الجسم الغريب ، كي لا يؤذي جسم القوقعة الرخو . وبعد زمن معين يتصلب هذا الإفراز ، ويتحول إلى لؤلؤة ! والمرجان نبات حيواني يعيش ويكون شعاباً مرجانية تمتد في البحر أحياناً عدة أميال ، وتتكاثر حتى تصبح خطراً على الملاحة في بعض الأحيان ؛ وخطراً على كل حي يقع في براثنها ! وهو يقطع بطرق خاصة وتتخذ منه الحلى !
والفلك تمخر البحار والأنهار - أي تشقها - بما أودع الله الأشياء في هذا الكون من خصائص . ولكثافة الماء وكثافة الأجسام التي تتكون منها السفن دخل في إمكان طفو السفن على سطح الماء وسيرها فيه . وللرياح كذلك . وللقوى التي سخرها الله للإنسان وعرفه كيف يستخدمها كقوة البخار وقوة الكهرباء وغيرهما من القوى . وكلها من تسخير الله للإنسان .
( لتبتغوا من فضله ) . . بالسفر والتجارة ، والانتفاع باللحم الطري والحلى واستخدام الماء والسفن في البحار والأنهار .
( ولعلكم تشكرون ) . . وقد يسر الله لكم أسباب الشكر ، وجعلها حاضرة بين أيديكم . ليعينكم على الأداء .
يقول تعالى منبها على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة : وخلق البحرين العذب الزلال ، وهو هذه الأنهار السارحة بين الناس ، من كبار وصغار ، بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار ، والعمران والبراري والقفار ، وهي عذبة سائغ شرابها لمن أراد ذلك ، { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } ، وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار ، وإنما تكون مالحة زُعَاقًا مُرَّة ، ولهذا قال : { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } ، أي : مُرّ .
ثم قال : { وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا } يعني : السمك ، { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } ، كما قال تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 22 ، 23 ] .
وقوله : { وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ }{[24498]} أي : تمخره وتشقه بحيزومها ، وهو مقدمها المُسَنَّم الذي يشبه جؤجؤ الطير - وهو : صدره .
وقال مجاهد : تمخر الريح السفن ، ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام .
وقوله : { لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } أي : بأسفاركم بالتجارة ، من قطر إلى قطر ، وإقليم إلى إقليم ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تشكرون ربكم على تسخيره لكم هذا الخلق العظيم ، وهو البحر ، تتصرفون فيه كيف شئتم ، وتذهبون أين أردتم ، ولا يمتنع عليكم شيء منه ، بل بقدرته قد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض ، الجميع من فضله ومن رحمته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هََذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهََذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وما يعتدل البحران فيستويان ، أحدهما عَذْب فُرات والفرات : هو أعذب العذب ، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ يقول : والاَخر منهما ملح أجاج ، وذلك هو ماء البحر الأخضر والأُجاج : المرّ ، وهو أشدّ المياه مُلوحة ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَهَذَا مِلْحٌ أُجاجٌ والأُجاج : المرّ .
وقوله : وَمِنْ كُل تَأْكُلُونَ لَحْما طَرِيّا يقول : ومن كلّ البحار تأكلون لحما طَرِيا ، وذلك السمك من عذبهما الفرات ، وملحهما الأجاج وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني : الدرّ والمرجان تستخرجونها من الملح الأجاج . وقد بيّنا قبل وجه تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً ، وإنما يستخرج من الملح فيما مضى بما أغنى عن إعادته وَتَرَى الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ يقول تعالى ذكره : وترى السفن في كل تلك البحار مواخر ، تمخُر الماء بصدورها ، وذلك خرقها إياه إذا مرّت واحدتها ماخرة . يقال منه : مَخَرت تمخُر ، وتمخَر مَخْرا ، وذلك إذا شقّت الماء بصدورها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمِنْ كُلّ تَأكُلُونَ لَحْما طَرِيّا : أي منهما جميعا وتَسْتَخْرِجونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها هذا اللؤلؤ ، وترى الفُلك فيه مواخر : فيه السفن مُقبلةً ومدبرة بريح واحدة .
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَتَرَى الفُلْكَ فِيه مَوَاخِرَ يقول : جَوارِي .
وقوله : لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يقول : لتطلبوا بركوبكم في هذه البحار في الفلك من معايشكم ، ولتتصرّفوا فيها في تجاراتكم ، وتشكروا الله على تسخيره ذلك لكم ، وما رزقكم منه من طيبات الرزق ، وفاخر الحليّ .