اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡبَحۡرَانِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ سَآئِغٞ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞۖ وَمِن كُلّٖ تَأۡكُلُونَ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (12)

قوله : { وَمَا يَسْتَوِي البحران } يعني العذب والملح ثم ذكرهما فقال : { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ } طيب «سَائغٌ شَرَابُهُ » جائز في الحلق هنيء «وَهَذا مِلْحٌ أجَاجٌ » شديد الملوحة . وقال الضحاك : هو المُرُّ{[45145]} .

قوله : { سَآئِغٌ شَرَابُهُ } يجوز أن يكونا{[45146]} متبدأ وخبراً ، والجملة خبر ثانٍ وأن يكون «سائغٌ » خبراً و «شرابه » فاعلاً به لأنه اعتمد{[45147]} وقرأ عيسى - ويروى عن أبي عمرو وعاصم - سَيِّغٌ مثل سيِّد وميِّت{[45148]} وعن عيسى{[45149]} بتخفيف يائه كما يخفف هَيِّن ومَيِّت .

وقرأ طلحة وأبو نُهَيْك ملحٌ بفتح الميم وكسر{[45150]} اللام ، فقيل : هو مقصور من مَالِحٍ ومالٍح لغَيَّة{[45151]} شاذة . وقيل : مَلِح بالفَتْح والكسر لُغَةٌ في مِلْحٍ ، بالكسر والسكون{[45152]} .

فصل

قال أكثر المفسرين : إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن فالإيمان لا يُشَبَّه بالكفر كما لا يشبه البحر العَذْبُ الفراتُ بالبحر المَلِح الأجاج ثم على هذا فقوله : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } فالبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاجَ يشارك الفُرَاتَ في خير ونفع إذ اللحمُ الطريُّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منهما والفُلْكُ تجري فيهما ولا نفع في الكفر والكافر . وهذا على{[45153]} نَسَقِ قوله تعالى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] وقوله : { كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء } [ البقرة : 74 ] قال ابن الخطيب : والأظهر أن المراد منه ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى وذلك من حيث إن البحرين يَسْتَوِيَانِ في الصورة ويختلفان في الماء{[45154]} ، فإن أحدهما فُراتٌ والآخر مِلْح أُجَاج ولولا ذلك بإيجاب{[45155]} مُوجِب{[45156]} لما اختلفت المستويان ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد{[45157]} منهما أمور متشابهة فإن اللحم الطريَّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منهما ومن يوجد من المتشابهين اختلافاً ومن المختلفين اشتباهاً لا يكون إلا قادراً مختاراً فقوله : { مَا يَسْتَوِي البحران } إشارة إلى أن عدم استوئهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته .

فصل

قال أهل اللغة : لا يقال لماء البحر إذا كان فيه مُلُوحَةٌ مالحٌ وإنما يقال له : مِلْح .

وقد يذكر في بعض كتب الفقه يَصِيرُ بها ماءُ البَحْرِ مَالِحاً . ويؤاخذ{[45158]} قائله ( به ){[45159]} وهو أصح مما يذهب إليه القوم وذلك لأن الماء العذب إذا ألقي فيه مِلْح حتى مَلَحَ لا يقالُ له إلا مالح . وماء مِلْحٌ يقال للماء الذي صار من أصل خِلْقَتِهِ كذلك لأن المَالِحَ{[45160]} شيء فيه مِلْحٌ ظاهر في الذَّوْق والماء الملح ليس ماءً ومِلْحاً بخلاف الطعام المالح فالماء العذب المُلْقَى فيه المِلْح ما فيه ملح ظاهر في الذَّوْق بخلاف ( ما هو مِلْحٌ ظاهر{[45161]} في الذَّوْقِ بخلاف ) ما هو من أصل خلقته كذلك ( فلما ){[45162]} قال الفقيه : الملحُ أجزاء أرضيَّة سَبِخَة يصير بها ماءُ البَحْرِ مالحاً راعى فيه الأصل فإنه جعله ماءً جاوره مِلْحٌ . وأهل اللغة حيث قالوا في البحر ماؤه مِلْحٌ جعلوه كذلك من أصل الخلقة والأجَاجُ المُرُّ كما تقدم .

قوله : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } من الطَّيْر والسَّمَك من العَذْب والملح جميعاً «وتَسَتْخَرِجُونَ حِلْيَةً » يعني من الملح دون العذب «تَلْبَسُونَها » من اللُّؤْلُؤ والمَرجَان . وقيل : نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الأجاج ( عيون ){[45163]} عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من ذلك . وقرئ{[45164]} «الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ » أي ماخرات تَمْخُر البحر بالجَرَيَان أي تشُقّ جَوَارِي مقبلة ومدبرة بريح واحدة «لِتبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ » بالتجارة «ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ » الله على نعمه وهذا يدل على أن المراد من الآية الاستدلال بالبحرين وما فيهما على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته{[45165]} .


[45145]:انظر هذه معاني في القرطبي 14/334 والبغوي 5/299 .
[45146]:في ((ب)) يكون بالإفراد وانظر: التبيان – في الإعراب الثاني – 1074 والدر المصون والتبيان في الإعرابين 1074 والدر 4/471 .
[45147]:أي على نفي وهو ((ما)) في أول الآية .
[45148]:كذا رواها ابن خالويه في المختصر 123 بالتشديد وانظر البحر المحيط 7/305 .
[45149]:أورد ابن جني في المحتسب هذه القراءة ولم يورد الأولى ولعل ابن خالويه ومن تابعوه قد رووها خطأ عنه ولعلهما قراءتان تنسبان له. وانظر: البحر المحيط 7/305 والمحتسب 2/198.
[45150]:المحتسب والبحر المرجعان السابقان . وأبو نهيك هو: علباء بن أحمد أبو نهيك اليشكري الخراساني له حروف من الشواذ تنسب إليه عرض على شهر بن حوشب ، انظر: غاية النهاية 1/515 .
[45151]:تصغير لغة . وانظر المحتسب 1/171 و2/82 و 199 .
[45152]:انظر: البحر المحيط 7/305 .
[45153]:في ((ب)) نسق على بتقديم وتأخير .
[45154]:كذا هي في الرازي وما في ((ب)) المادة . وانظر في هذا تفسير الرازي 26/10 و 11 .
[45155]:في ((ب)) بإيجاد وفي الفخر كما في ((أ)) بإيجاب .
[45156]:في ((ب)) موجد ولم توجد تلك اللفظة في الرازي .
[45157]:في ((ب)) يؤخذ وما هنا يوافق الفخر الرازي .
[45158]:كذا في الرازي وما في ((ب)) يؤخذ .
[45159]:زيادة من ((ب)) والرازي .
[45160]:في ((ب)) الملح وهو تحريف .
[45161]:ما بين القوسين ساقط من ((ب)) .
[45162]:زيادة من الرازي عن النسختين .
[45163]:سقط من ((ب)) .
[45164]:الأصح: ((وترى)) لا قرئ كما في الرازي و((ب)) .
[45165]:وانظر في هذا التفسير الكبير للرازي 26/11 . وانظر اللغة في اللسان لابن منظور م.ل.ج .