فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡبَحۡرَانِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ سَآئِغٞ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞۖ وَمِن كُلّٖ تَأۡكُلُونَ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (12)

ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من بديع صنعه ، وعجيب قدرته ، فقال : { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 12 )

{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا } أي أحدهما { عَذْبٌ فُرَاتٌ } شديد العذوبة { سَائِغٌ شَرَابُهُ } مريء يسهل انحداره في الحلق لعذوبته { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } شديد الملوحة ، وقيل هو الذي يحرق الحلق بملوحته فالمراد بالبحرين :العذب والمالح ، فالعذب الفرات : الحلو ، والأجاج : المر ، وقرئ سيغ مشددا وقرئ ملح بفتح الميم ، وقيل : المقصود من الآية ضرب مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر .

{ وَمِن كُلٍّ } منهما { تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا } وهو ما يصاد منهما من حيواناتهما التي تؤكل ، وهذا وما بعد ذلك إما استطرادا في صفة البحرين وما فيهما من النعم والمنافع ، وإما تكملة للتمثيل ، والمعنى كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما متفاوتان فيما هو المقصود بالذات من الماء ، لما خالط أحدهما ما أفسده ، وغيره عن كمال فطرته ، كذلك لا يساوي الكافر المؤمن ، وإن شاركه في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة ونحوهما لتباينهما فيما هو الخاصية العظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصيلة وحيازته لكماله اللائق دون الآخر ، أو تفضيل للأجاج على الكافر من حيث إنه يشارك العذب في منافع كثيرة ، والكافر خلو من المنافع بالكلية على طريقة قوله تعالى : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) الخ . قاله أبو السعود .

{ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً } وهي اللؤلؤ والمرجان ، وهو صغار اللؤلؤ ، وقال الطرطوشي : هو عروق حمر تطلع من البحر كأصابع الكف وهكذا شاهدناه بمغارب الأرض كثيرا انتهى . والظاهر أن المعنى وتستخرجون منهما حلية ، وقال المبرد : إنما تستخرج الحلية من المالح ، وروي عن الزجاج أنه قال : إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا لا من كل واحد منهما على انفراده ورجح النحاس قول المبرد ، ومعنى .

{ تَلْبَسُونَهَا } تلبسون كل شيء منها بحسبه ، كالخاتم في الأصبع ، والسوار في الذراع ، والقلادة في العنق والخلخال في الرجل ، ومما يلبس حلية السلاح الذي يحمل كالسيف والدرع ونحوهما .

{ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ } أي في كل واحد من البحرين ، وقال النحاس : الضمير يعود إلى المالح خاصة ولولا ذلك لقال : فيهما { مَوَاخِرَ } يقال : مخرت السفينة تمخر إذا شقت الماء بجريها فيه فالمعنى : وترى السفن في البحرين شواق للماء . بعضها مقبلة وبعضها مدبرة ، بريح واحدة ، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة النحل { لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ } أي فعل ذلك لتبتغوا ، قال مجاهد ابتغاء الفضل هو التجارة في البحر إلى البلدان البعيدة في المدة القريبة كما تقدم في البقرة .

{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله على ما أنعم به عليكم من ذلك .