قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية . الغنيمة والفيء اسمان لما يصيبه المسلمون من أموال الكفار ، فذهب جماعة إلى أنهما واحد ، وذهب قوم إلى أنهما يختلفان ، فالغنيمة : ما أصابه المسلمون منهم عنوة بقتال ، والفيء : ما كان عن صلح بغير قتال ، فذكر الله عز وجل في هذه الآية حكم الغنيمة فقال : { فأن لله خمسه وللرسول } . فذهب أكثر المفسرين والفقهاء إلى أن قوله : { لله } افتتاح كلام على سبيل التبرك ، وإضافة هذا المال إلى نفسه لشرفه ، وليس المراد منه أن سهماً من الغنيمة لله منفرداً ، فإن الدنيا والآخرة كلها لله عز وجل ، وهو قول الحسن ، وقتادة وعطاء ، وإبراهيم ، والشعبي ، قالوا : سهم الله وسهم الرسول واحد ، والغنيمة تقسم خمسة أخماس ، أربعة أخماسها لمن قاتل عليها ، والخمس لخمسة أصناف ، كم ذكر الله عز وجل .
قوله تعالى : { وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } . قال بعضهم : يقسم الخمس على ستة أسهم ، وهو قول أبي العالية ، سهم لله فيصرف إلى الكعبة . والأول أصح ، أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم ، سهم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام ، وهو قول الشافعي رحمه الله . وروى الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح ، وقال قتادة : هو للخليفة بعده . وقال بعضهم : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس ، والخمس لأربعة أصناف . قوله : { ولذي القربى } أراد أن سهماً من الخمس لذوي القربى ، وهم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلفوا فيهم ، فقال قوم : جميع قريش . وقال قوم : هم الذين لا تحل لهم الصدقة ، وقال مجاهد وعلي بن الحسين : هم بنو هاشم ، وقال الشافعي : هم بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء ، وإن كانوا إخوة ، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا الثقة ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ، ولم يعط منه أحدا من بني عبد شمس ، ولا بني نوفل شيئا .
وأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا مطرف بن مازن ، عن معمر بن راشد ، عن ابن شهاب ، أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : ( لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلنا : يا رسول الله ، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا ، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا ، وشبك بين أصابعه ) .
واختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم ؟ . فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وذهب أصحاب الرأي إلى أنه غير ثابت ، وقالوا : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردودان في الخمس ، وخمس الغنيمة لثلاثة أصناف : اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . وقال بعضهم : يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء ، والكتاب والسنة يدلان على ثبوته ، والخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه ، ولا يفضل فقير على غني ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله ، فألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة ، غير أنه يعطى القريب والبعيد ، وقال : يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين والأنثى سهماً واحداً . قوله : { واليتامى } وهو جمع اليتيم ، واليتيم الذي له سهم في الخمس هو الصغير المسلم ، الذي لا أب له ، إذا كان فقيراً ، و{ المساكين } هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين ، { وابن السبيل } هو المسافر البعيد عن ماله ، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة ، للفارس منهم ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم واحد ، لما : أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، أنا عبد الله بن يوسف ، أنا أبو سعيد بن الأعرابي ، ثنا سعدان بن نصر ، ثنا أبو معاوية ، عن عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم : سهماً له ، وسهمين لفرسه .
وهذا قول أكثر أهل العلم ، وإليه ذهب الثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : للفارس سهمان ، وللراجل سهم واحد ، ويرضخ للعبيد والنسوان والصبيان إذا حضروا القتال ، ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقول ، وعند أبي حنيفة : يتخير الإمام في العقار بين أن يقسمه بينهم ، وبين أن يجعله وقفاً على المصالح ، وظاهر الآية لا يفرق بين العقار و المنقول ، ومن قتل مشركاً في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة ، لما روي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين : ( من قتل قتيلاً له عليه بينة له سلبه ) . والسلب : كل ما يكون من المقتول من ملبوس وسلاح ، وفرسه الذي هو راكبه . ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة ، لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب . يخصه به من بين سائر الجيش ، ويجعله أسوة الجماعة في سهمان الغنيمة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة ، سوى قسم عامة الجيش . وروي عن حبيب بن مسلمة الفهري ، قال : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة ، والثلث في الرجعة . واختلفوا في النفل من أين يعطى ؟ فقال قوم : من خمس الخمس ، منهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وبه قال الشافعي ، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم ) . وقال قوم : هو من الأربعة الأخماس بعد إفراز الخمس كسهام الغزاة ، وهو قول أحمد وإسحاق . وذهب بعضهم : إلى أن النفل من رأس الغنيمة قبل الخمس كالسلب للقاتل ، وأما الفيء ، وهو ما أصابه المسلمين من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ، ولا ركاب ، بأن صالحهم على مال يؤدون ، ومال الجزية ، وما يؤخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة ، أو يموت واحد منهم في دار الإسلام ، ولا وارث له ، فهذا كله في فيء . ومال الفيء كان خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، قال عمر رضي الله عنه : إن الله قد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، ثم قرأ : { ما أفاء الله على رسوله منهم } إلى قوله : { قدير } وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله عز وجل ، واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قوم : هو للأئمة بعده . وللشافعي فيه قولان : أحدهما : للمقاتلة الذين أثبتت أساميهم في ديوان الجهاد ، لأنهم القائمون مقام النبي صلى الله عليه وسلم في إرهاب العدو . والقول الثاني : أنه لمصالح المسلمين ، ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منه كفايتهم ، ثم بالأهم فالأهم من المصالح ، واختلف أهل العلم في تخميس الفيء ، فذهب الشافعي إلى أنه يخمس ، فخمسه لأهل الغنيمة ، على خمسة أسهم ، وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح . وذهب الأكثرون إلى أن الفيء لا يخمس ، بل مصرف جميعه واحد ، ولجميع المسلمين فيه حق .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنا محمد بن زكريا العذافري ، أنا إسحاق الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ( ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق ، إلا ما ملكت أيمانكم ) .
وأخبرنا أبو سعيد الطاهر ، أنبأنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنبأنا محمد بن زكريا العذافري ، أنبأنا أبو إسحاق الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة بن خالد ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } حتى بلغ { عليم حكيم } [ التوبة :60 ] فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } حتى بلغ { وابن السبيل } ، ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } حتى بلغ { للفقراء } والذين جاءوا من بعدهم ثم قال : هذه استوعبت المسلمين عامة ، فلئن عشت ، فليأتين الراعي وهو بسر وحمير فنصيبه منها ، لم يعرق فيها جبينه .
قوله تعالى : { إن كنتم آمنتم بالله } ، قيل : أراد اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول يأمر فيه بما يريد ، فاقبلوه إن كنتم آمنتم بالله .
قوله تعالى : { وما أنزلنا على عبدنا } ، أي : إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا ، يعني : قوله { يسألونك عن الأنفال }
قوله تعالى : { يوم الفرقان } ، يعني يوم بدر ، فرق الله بين الحق والباطل وهو { يوم التقى الجمعان } ، حزب الله وحزب الشيطان ، وكان يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان .
قوله تعالى : { والله على كل شيء قدير } ، على نصركم مع قلتكم وكثرتهم .
يتألف هذا الجزء من بقية سورة الأنفال - التي وردت أوائلها في الجزء التاسع - ومن قسم كبير من سورة التوبة . . وسنمضي أولاً مع بقية الأنفال ، أما سورة التوبة فسنعرّف بها في موضعها من هذا الجزء إن شاء الله .
لقد ألممنا بالخطوط الرئيسية للسورة في مطلعها عند نهاية الجزء التاسع . وهذه البقية منها تمضي على هذه الخطوط الرئيسية فيها . . إلا أن الظاهرة التي تلمح بوضوح في سياق السورة ، هي أن هذا الشطر الأخير منها ، يكاد يكون مماثلا في سياقه وترتيب موضوعاته للشطر الأول منها ، ومع انتفاء التكرار بسبب تجدد الموضوعات ، إلا أن ترتيب هذه الموضوعات في السياق يكاد يجعل هذا الشطر دورة ، والشطر الأول دورة ، بينهما هذا التناسق العجيب !
لقد بدأ الشطر الأول بالحديث عن الأنفال وتنازعهم عليها ؛ فردها إلى اللّه والرسول . . ثم دعاهم إلى التقوى ، وبين لهم حقيقة الإيمان ليرتفعوا إليها . . ثم كشف لهم عن تدبير الله وتقديره في الموقعة التي يتنازعون أنفالها ، مستحضراً جانباً من مواقف المعركة مشاهدها ، فإذا التدبير كله للّه والمدد كله من الله ، والمعركة كلها مسوقة لتحقيق إرادة الله وإن هم فيها إلا ستار وأداة . . ثم أهاب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند الزحف ؛ وطمأنهم إلى نصرة اللّه ومعيته ، وإلى تخذيل اللّه لأعدائهم وأخذهم بذنوبهم . . ثم حذرهم خيانة اللّه وخيانة الرسول وفتنة الأموال والأولاد ؛ وأمر الرسول - [ ص ] - أن يحذر الذين كفروا عاقبة ما هم فيه ؛ وأن يقبل منهم الاستجابة - لو استجابوا - ويكل خبيئهم إلى اللّه ؛ وأمر المسلمين أن يقاتلوهم إن تولوا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للّه . .
وكذلك يسير هذا الشطر الثاني . . يبدأ ببيان حكم اللّه في الغنائم - بعد أن ردها إلى اللّه ورسوله - ثم يدعوهم إلى الإيمان باللّه وما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . ثم يكشف لهم عن تدبير اللّه وتقديره في الموقعة التي جاءت بهذه الغنائم ؛ ويستحضر جانبا آخر من مواقف المعركة ومشاهدها ، يتجلى فيه هذا التقدير وذلك التدبير ، كما يتجلى فيه أنهم لم يكونوا سوى أداة لقدر اللّه وستار . . ثم يهيب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند اللقاء ، وإلى ذكر اللّه ، وطاعته وطاعة رسوله ؛ ويحذرهم التنازع مخافة الفشل والانكسار ؛ ويدعوهم إلى الصبر ؛ وتجنب البطر والرياء في الجهاد ؛ ويحذرهم عاقبة الكفار الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، منخدعين بمكر الشيطان ؛ ويدعوهم إلى التوكل على الله وحده ، القوي القادر على النصر الحكيم في تقديره وتدبيره . . ثم يريهم سنة اللهفي أخذ الكافرين المكذبين بذنوبهم . . وكما ذكر الملائكة في الشطر الأول وهم يثبتون المؤمنين ويضربون أعناق الكفار وأيديهم ، فكذلك يذكر في هذا الشطر الثاني أن الملائكة يتوفون الذين كفروا يضربون وجوههم وأدبارهم . . وكما قال في الشطر الأول عن الذين كفروا : إنهم شر الدواب ، فكذلك يكرر هنا هذا الوصف بمناسبة الحديث عن نقضهم لعهدهم كلما عاهدوا ، وتمهيدا لما يأمر به الله رسوله [ ص ] من أحكام التعامل معهم في الحرب والسلم ؛ وهي أحكام مفصلة للعلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات المعادية والمسالمة ، بعضها أحكام نهائية ، وبعضها أحكام استكملت فيما بعد في سورة التوبة .
وإلى هنا تكاد تكون هذه الدورة الثانية في السورة مطابقة - من حيث طبيعة الموضوعات ومن حيث ترتيبها في السياق - لما جاء في الدورة الأولى ، مع شيء من التفصيل في أحكام المعاملات بين المعسكر الإسلامي وسائر المعسكرات .
ثم تزيد في ختام السورة موضوعات وأحكام أخرى متصلة بها ، ومكملة لها :
يذكر الله - سبحانه - رسوله [ ص ] والذين آمنوا معه ، بمنته عليهم في تأليف قلوبهم ، وقد كانت مستعصية على التأليف لولا إرادة الله ورحمته ومنته .
ويطمئنهم الله كذلك إلى كفايته لهم وحمايته . . ومن ثم يأمر رسوله بتحريضهم على القتال ؛ ويريهم أنهم بإيمانهم - إذا صبروا - أكفاء لعشرة أضعافهم من الذين كفروا الذين لا يفقهون ، لأنهم لا يؤمنون ! وأنهم في أضعف حالاتهم أكفاء لضعفهم من الذين كفروا - متى صبروا . والله مع الصابرين .
ثم يعاتبهم الله سبحانه على قبولهم الفدية في الأسرى ؛ وهم لم يثخنوا في الأرض بعد ، ولم يخضدوا شوكة عدوهم ؛ ولم يستقر سلطانهم وتثبت دولتهم . فيقرر بهذا منهج الحركة الإسلامية في المراحل المختلفة والأحوال المتعددة ، ويدل على مرونة هذا المنهج وواقعيته في مواجهة الواقع في المراحل المختلفة . . وكذلك يبين الله لهم كيف يعاملون من في أيديهم من الأسرى ، وكيف يحببونهم في الإيمان ، ويزينونه في قلوبهم ؛ ثم يخذل الله هؤلاء الأسرى عن محاولة الخيانة مرة أخرى وييئسهم من جدواها ؛ فالله الذي أمكن منهم أول مرة حين خانوه بالكفر ، سيمكن منهم مرة أخرى لو خانوا رسوله [ ص ] .
وأخيراً تجيء الأحكام المنظمة لعلاقات الجماعة المسلمة فيما بينها ، وعلاقاتها بالمجموعات التي تدخل في الإسلام ، ولكنها لا تلحق بدار الإسلام ، ثم علاقاتها بالذين كفروا في حالات معينة ، ومن حيث المبدأ العام أيضاً . حيث تتجلى في هذه الأحكام طبيعة التجمع الإسلامي ؛ وطبيعة المنهج الإسلامي كله ؛ وحيث يبدو بوضوح كامل أن " التجمع الحركي " هو قاعدة الوجود الإسلامي ، الذي تنبثق منه أحكامه في المعاملات الداخلية والخارجية ؛ وأنه لا يمكن فصل العقيدة والشريعة في هذا الدين عن الحركة والوجود الفعلي للمجتمع المسلم .
وهذا حسبنا في هذا التمهيد القصير ، لنواجه بعده النصوص القرآنية بالتفصيل :
( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . والله على كل شيء قدير ) . .
وبين الروايات المأثورة والآراء الفقهية خلاف طويل . . أولاً : حول مدلول " الغنائم " ومدلول " الأنفال " هل هما شيء واحد ، أم هما شيئان مختلفان ? وثانياً : حول هذا الخمس - الذي يتبقى بعد الأخماس الأربعة التي منحها الله للمقاتلين - كيف يقسم ? وثالثاً : حول خمس الخمس الذي لله . أهو الخمس الذي لرسول الله ، أم هو خمس مستقل ? : ورابعا : حول خمس الخمس الذي لرسول الله [ ص ] أهو خاص به أم ينتقل لكل إمام بعده ? وخامساً : حول خمس الخمس الذي لأولي القربى ، أهو باق في قرابة رسول الله [ ص ] من بني هاشم وبني عبد المطلب ، كما كان على عهد رسول الله [ ص ] ، أم يرجع إلى الإمام يتصرف فيه ? وسادساً : أهي أخماس محددة يقسم إليها الخمس ، أم يترك التصرف فيه كله لرسول الله [ ص ] ولخلفائه من بعده ? . . . وخلافات أخرى فرعية .
ونحن - على طريقتنا في هذه الظلال - لا ندخل في هذه التفريعات الفقهية التي يحسن أن تطلب في مباحثها الخاصة . . هذا بصفة عامة . . وبصفة خاصة فإن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعا إسلاميا يواجهنا اليوم أصلا . فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة ، لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة مسلمة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله ، ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها ! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية أول مرة ؛ ورجع الناس إلى الجاهلية التي كانوا عليها ، فأشركوا مع الله أرباباً أخرى تصرف حياتهم بشرائعها البشرية ! ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد إلى الدخول فيه . . إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية والسلطان . والتلقي في هذا الشأن عن رسول الله وحده ! وإلى التجمع تحت قيادة مسلمة تعمل لإعادة إنشاء هذا الدين في حياة البشر ، والتوجه بالولاء كله لهذا التجمع ولقيادته المسلمة ؛ ونزع هذا الولاء من المجتمعات الجاهلية وقياداتها جميعاً .
هذه هي القضية الحية الواقعية التي تواجه اليوم هذا الدين ؛ وليس هناك - في البدء - قضية أخرى سواها . . ليس هناك قضية غنائم ، لأنه ليس هناك قضية جهاد ! بل ليس هناك قضية تنظيمية واحدة ، لا في العلاقات الداخلية ولا في العلاقات الخارجية ، وذلك لسبب بسيط : هو أنه ليس هناك مجتمع إسلامي ذو كيان قائم مستقل ، يحتاج إلى الأحكام التي تضبط العلاقات فيه والعلاقات بينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى ! ! !
والمنهج الإسلامي منهج واقعي ، لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل ؛ ومن ثم لا يشتغل أصلاً بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع ! . . إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام ! هذا ليس منهج هذا الدين . هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية ، حيث لا مقابل لها من الواقع أصلا ! بدلا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين نفسه : دعوة إلى لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؛ ينشأ عنها دخول فئة في هذا الدين من جديد - كما دخل فيه الناس أول مرة - كما ينشأ عن هذا الدخول في الدين تجمع حركي ذو قيادة مسلمة وذو ولاء خاص به وذو كينونة مستقلة عن المجتمعات الجاهلية . . ثم يفتح الله بينه وبين قومه بالحق . . ثم يحتاج حينئذ - وحينئذ فقط - إلى الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه ؛ كما يحتاج إلى الأحكام التي تنظم علاقاته مع غيره . . وحينئذ - وحينئذ فقط - يجتهد المجتهدون فيه لاستنباط الأحكام التي تواجه قضاياه الواقعية - في الداخل وفي الخارج - وحينئذ - وحينئذ فقط - تكون لهذا الاجتهاد قيمته ، لأنه تكون لهذا الاجتهاد جديته وواقعيته !
من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين ، لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم ؛ حتى يحين وقتها عندما يشاء الله ؛ وينشأ المجتمع الإسلامي ، ويواجه حالة جهاد فعلي ، تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام ! وحسبنا - في هذه الظلال - أن نتتبع الأصل الإيماني في السياق التاريخي الحركي ، والمنهج القرآني التربوي . فهذا هو العنصر الثابت ، الذي لا يتأثر بالزمن في هذا الكتاب الكريم . . وكل ما عداه تبع له وقائم عليه :
إن الحكم العام الذي تضمنه النص القرآني :
( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ) .
يتلخص في رد أربعة أخماس كل شيء من الغنيمة إلى المقاتلين ، واستبقاء الخمس يتصرف فيه رسول الله [ ص ] والأئمة المسلمون القائمون على شريعة الله المجاهدون في سبيل الله ، من بعده في هذه المصارف : لله وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . . بما يواجه الحاجة الواقعة عند وجود ذلك المغنم . . . وفي هذا كفاية . .
أما التوجيه الدائم بعد ذلك فهو ما تضمنه شطر الآية الأخير :
( إن كنتم آمنتم بالله ، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ، والله على كل شيء قدير ) . .
إن للإيمان إمارات تدل عليه ؛ والله - سبحانه - يعلق الاعتراف لأهل بدر - وهم أهل بدر - بأنهم آمنوا بالله ، وبما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . يعلق الاعتراف لأهل بدر هؤلاء بالإيمان ، على قبولهم لما شرع الله لهم في أمر الغنائم في صدر الآية ؛ فيجعل هذا شرطاً لاعتبارهم عنده قد آمنوا بالله وبما أنزله على عبده من القرآن ؛ كما يجعله مقتضى لإعلانهم الإيمان لا بد أن يتحقق ليتحقق مدلول هذا الإعلان .
وهكذا نجد مدلول الإيمان - في القرآن - واضحاً جازماً لا تميع فيه ، ولا تفصيص ولا تأويل مما استحدثته التطويلات الفقهية فيما بعد ، عندما وجدت الفرق والمذاهب والتأويلات ، ودخل الناس في الجدل والفروض المنطقية الذهنية ، كما دخل الناس - بسبب الفرق المذهبية والسياسية - في الاتهامات ودفع الاتهامات ؛ وصار النبز بالكفر ، ودفع هذا النبز ، لا يقومان على الأصول الواضحة البسيطة لهذا الدين ؛ إنما يقومان على الغرض والهوى ومكايدة المنافسين والمخالفين ! عندئذ وجد من ينبز مخالفيه بالكفر لأمور فرعية ؛ ووجد من يدفع هذا الاتهام بالتشدد في التحرج والتغليظ على من ينبز غيره بهذه التهمة . . وهذا وذلك غلو سببه تلك الملابسات التاريخية . . أما دين الله فواضح جازم لا تميع فيه ولا تفصيص ولا غلو . . " ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل " . . ولا بد لقيامه من قبول ما شرع الله وتحقيقه في واقع الحياة . . والكفر : رفض ما شرع الله ، والحكم بغير ما أنزل الله ، والتحاكم إلى غير شرع الله . . في الصغير وفي الكبير سواء . . أحكام صريحة جازمة بسيطة واضحة . . وكل ما وراءها فهو من صنع تلك الخلافات والتأويلات . .
وهذا نموذج من التقريرات الصريحة الواضحة الجازمة من قول الله سبحانه :
( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) . .
ومثله سائر التقريرات الواضحة الجازمة الصريحة التي ترسم حقيقة الإيمان وحدوده في كتاب الله .
لقد نزع الله ملكية الغنيمة ممن يجمعونها في المعركة ؛ وردها الى الله والرسول - في أول السورة - ليخلص الأمر كله لله والرسول ؛ وليتجرد المجاهدون من كل ملابسة من ملابسات الأرض ؛ وليسلموا أمرهم كله - أوله وآخره - لله ربهم وللرسول قائدهم ؛ وليخوضوا المعركة لله وفي سبيل الله ، وتحت راية الله ، طاعة لله ؛ يحكمونه في أرواحهم ، ويحكمونه في أموالهم ويحكمونه في أمرهم كله بلا تعقيب ولا اعتراض . . فهذا هو الايمان . . كما قال لهم في مطلع السورة وهو ينتزع منهم ملكية الغنيمة ويردها إلى الله ورسوله : ( يسألونك عن الأنفال . قل الأنفال لله والرسول ، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، وأطيعوا الله ورسوله . . إن كنتم مؤمنين )
حتى إذا استسلموا لأمر الله ، وارتضوا حكمه ذاك ، فاستقر فيهم مدلول الإيمان . . عاد ليرد عليهم أربعة أخماس الغنيمة ، ويستبقي الخمس على الأصل - لله والرسول - يتصرف فيه رسول الله [ ص ] ، وينفق منه على من يعولهم في الجماعة المسلمة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . عاد ليرد عليهم الأخماس الأربعة ، وقد استقر في نفوسهم أنهم لا يملكونها ابتداء بحق الغزو والفتح ، فهم إنما يغزون لله ويفتحون لدين الله ؛ إنما هم يستحقونها بمنح الله لهم إياها ؛ كما أنه هو الذي يمنحهم النصر من عنده ؛ ويدبر أمر المعركة وأمرهم كله . . وعاد كذلك ليذكرهم بأن الاستسلام لهذا الأمر الجديد هو الإيمان . . هو شرط الإيمان ، وهو مقتضى الإيمان . .
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . .
وهكذا تتواتر النصوص ، لتقرر أصلا واضحاً جازماً من أصول هذا الدين في اعتبار مدلول الإيمان وحقيقته وشرطه ومقتضاه .
ثم نقف أمام وصف الله - سبحانه - لرسوله [ ص ] بقوله : ( عبدنا )في هذا الموضع الذي يرد إليه فيه أمر الغنائم كلها ابتداء ، وأمر الخمس المتبقي أخيراً :
( إن كنتم آمنتم بالله ، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) . .
إنه وصف موحٍ . . إن العبودية لله هي حقيقة الإيمان ؛ وهي في الوقت ذاته أعلى مقام للإنسان يبلغ إليه بتكريم الله له ؛ فهي تجلى وتذكر في المقام الذي يوكل فيه إلى رسول الله [ ص ] التبليغ عن الله ، كما يوكل إليه فيه التصرف فيما خوله الله .
وإنه لكذلك في واقع الحياة ! إنه لكذلك مقام كريم . . أكرم مقام يرتفع إليه الإنسان . .
إن العبودية لله وحده هي العاصم من العبودية للهوى ، والعاصم من العبودية للعباد . . وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له ، إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه .
إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده ، يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى . يقعون من فورهم عبيداً لهواهم وشهواتهم ونزواتهم ودفعاتهم ؛ فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع " الإنسان " من بين سائر الأنواع ؛ وينحدرون في سلم الدواب فإذا هم شر الدواب ، وإذا هم كالأنعام بل هم أضل ، وإذا هم أسفل سافلين بعد أن كانوا - كما خلقهم الله - في أحسن تقويم .
كذلك يقع الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله في شر العبوديات الأخرى وأحطها . . يقعون في عبودية العبيد من أمثالهم ، يصرفون حياتهم وفق هواهم ، ووفق ما يبدو لهم من نظريات واتجاهات قصيرة النظر ، مشوبة بحب الاستعلاء ، كما هي مشوبة بالجهل والنقص والهوى !
ويقعون في عبودية " الحتميات " التي يقال لهم : إنه لا قبل لهم بها ، وإنه لا بد من أن يخضعوا لها ولا يناقشوها . . " حتمية التاريخ " . . و " حتمية الاقتصاد " . . و " حتمية التطور " وسائر الحتميات المادية التي تمرغ جبين " الإنسان " في الرغام وهو لا يملك أن يرفعه ، ولا أن يناقش - في عبوديته البائسة الذليلة - هذه الحتميات الجبارة المذلة المخيفة !
ثم نقف كذلك أمام وصف الله - سبحانه - ليوم بدر بأنه يوم الفرقان :
( إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) . .
لقد كانت غزوة بدر - التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده - فرقاناً . . فرقاناً بين الحق والباطل - كما يقول المفسرون إجمالاً - وفرقاناً بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيراً . .
كانت فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً . . ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض ، وقامت عليه فطرة الأشياء والأحياء . . الحق الذي يتمثل في تفرد الله - سبحانه - بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير ، وفي عبودية الكون كله : سمائه وأرضه ، أشيائه وأحيائه ، لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد ، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك . . والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك ؛ ويغشي على ذلك الحق الأصيل ؛ ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء ، وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء ! . . فهذا هو الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر ؛ حيث فرق بين ذلك الحق الكبير وهذا الباطل الطاغي ؛ وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان !
لقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق ، على أبعاد وآماد : كانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير . . فرقاناً بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور ، وفي الخلق والسلوك ، وفي العبادة والعبودية ؛ وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات . . .
وكانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك . . فرقانا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء ، وللقيم والأوضاع ، وللشرائع والقوانين ، وللتقاليد والعادات . . . وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره ولا متسلط سواه ولا حاكم من دونه ، ولا مشرع إلا إياه . . فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله ؛ وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه ؛ وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة . .
وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية : عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار . وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع . . والإسلام بوصفه تصورا جديدا للحياة ، ومنهجا جديدا للوجود الإنساني ، ونظاما جديداً للمجتمع ، وشكلاً جديداً للدولة . . بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير " الإنسان " في " الأرض " بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته ، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته . . الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع ، لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد . لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه ، تتمثل في شعائر تعبدية لله ، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم . ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد ، والمنهج الجديد ، والدولة الجديدة ، والمجتمع الجديد ، في واقع الحياة ؛ وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً ؛ ثم في حياة البشرية كلها أخيراً . . وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله . .
وكانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ البشرية . . فالبشرية بمجموعها قبل قيام النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام . . هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام . وهذا النظام الجديد الذي انبثق من هذا التصور . وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلاداً جديداً للإنسان . وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها ويقوم عليها النظام الاجتماعي والتشريع القانوني سواء . . هذا كله لم يعد ملكاً للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر وتوكيد وجود المجتمع الجديد . إنما صار - شيئا ًفشيئا - ملكاً للبشرية كلها ؛ تأثرت به سواءفي دار الإسلام أم في خارجها ، سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته ! . . والصليبيون الذين زحفوا من الغرب ، ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه ، قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاءوا ليحطموه ؛ وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائدا عندهم ، بعد ما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي ! والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه - بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام ! - قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية ؛ وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة ؛ وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوربا ! . . وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله - منذ وقعة بدر - متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام ، أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء .
وكانت فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة . فجرت وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين ؛ وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة ، حتى لقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ( غر هؤلاء دينهم ) . . وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو - وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة - لتكون فرقاناً بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة ؛ ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد ؛ فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية ، لا لمجرد السلاح والعتاد ؛ وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية ، لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة ؛ وأن هذا ليس كلاماً يقال ، إنما هو واقع متحقق للعيان .
وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل بمدلول آخر . ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى في أوائل هذه السورة :
( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) .
لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين ، إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة . فأراد الله لهم غير ما أرادوا . أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان [ غير ذات الشوكة ] وأن يلاقوا نفير أبي جهل [ ذات الشوكة ] وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر ؛ ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة ! وقال لهم الله - سبحانه - إنه صنع هذا :
( ليحق الحق ويبطل الباطل ) . .
وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة . . إن الحق لا يحق ، وإن الباطل لا يبطل - في المجتمع الإنساني - بمجرد البيان " النظري " للحق والباطل . ولا بمجرد الاعتقاد " النظري " بأن هذا حق وهذا باطل . . إن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس ؛ وإن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس . إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق ، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا ، ويهزم جند الباطل ويندحروا . . فهذا الدين منهج حركي واقعي ، لا مجرد " نظرية " للمعرفة والجدل ! أو لمجرد الاعتقاد السلبي !
ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة ؛ وكان هذا النصر العملي فرقاناً واقعياً بين الحق والباطل بهذا الاعتبارالذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته - سبحانه -من وراء المعركة ، ومن وراء إخراج الرسول [ ص ] من بيته بالحق ؛ ومن وراء إفلات القافلة [ غير ذات الشوكة ] ولقاء الفئة ذات الشوكة . .
ولقد كان هذا كله فرقاناً في منهج هذا الدين ذاته ، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم . . وإنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته ؛ حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين ! حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين !
وهكذا كان يوم بدر ( يوم الفرقان يوم التقى الجمعان )بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة . .
وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء . . مثل لا يجادل فيه مجادل ، ولا يماري فيه ممار . . مثل من الواقع المشهود ، الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله . وأن الله على كل شيء قدير .
يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصا لهذه الأمة الشريفة ، من بين سائر الأمم المتقدمة ، من إحلال المغانم . و " الغنيمة " : هي المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب . و " الفيء " : ما أخذ منهم بغير ذلك ، كالأموال التي يصالحون عليها ، أو يتوفون عنها ولا وارث لهم ، والجزية والخراج ونحو ذلك . هذا مذهب الإمام الشافعي في طائفة من علماء السلف{[12948]} والخلف .
ومن العلماء من يطلق الفيء على ما تطلق{[12949]} عليه الغنيمة ، والغنيمة على الفيء أيضا ؛ ولهذا ذهب قتادة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية " الحشر " : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } الآية [ الحشر : 7 ] ، قال : فنسخت آية " الأنفال " تلك ، وجعلت الغنائم : أربعة أخماسها{[12950]} للمجاهدين ، وخمسًا منها لهؤلاء المذكورين . وهذا الذي قاله بعيد ؛ لأن هذه الآية نزلت بعد وقعة بَدْر ، وتلك نزلت في بني النَّضِير ، ولا خلاف بين علماء السير والمغازي قاطبة أن بني النضير بعد بدر ، هذا أمر لا يشك فيه ولا يرتاب ، فمن يفرق بين معنى الفيء والغنيمة يقول : تلك نزلت في أموال الفيء وهذه في المغانم . ومن يجعل أمر المغانم والفيء راجعا{[12951]} إلى رأي الإمام يقول : لا منافاة بين آية الحشر وبين التخميس إذا رآه الإمام ، والله أعلم .
وقوله{[12952]} تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } توكيد لتخميس كل قليل وكثير حتى الخيط{[12953]} والمخيط ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [ آل عمران : 161 ] .
وقوله : { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } اختلف المفسرون هاهنا ، فقال بعضهم : لله نصيب من الخمس يجعل في الكعبة .
قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية الرِّيَاحي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة ، تكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه ، فيأخذ منه الذي قبض كفه ، فيجعله للكعبة{[12954]} وهو سهم الله . ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم ، فيكون سهم للرسول ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل{[12955]}
وقال آخرون : ذكر الله هاهنا استفتاح كلام للتبرك ، وسهم{[12956]} لرسوله عليه السلام{[12957]}
قال الضحاك ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سَرِيَّة فغنموا ، خَمَّس الغنيمة ، فضرب ذلك الخمس في خمسة . ثم قرأ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ قال : وقوله ]{[12958]} { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } مفتاح كلام ، لله ما في السموات وما في الأرض ، فجعل سهم الله وسهم الرسول واحدًا .
وهكذا قال إبراهيم النَّخَعي ، والحسن بن محمد ابن الحنفية . والحسن البصري ، والشعبي ، وعَطاء بن أبي رباح ، وعبد الله بن بريدة{[12959]} وقتادة ، ومغيرة ، وغير واحد : أن سهم الله ورسوله واحد .
ويؤيد هذا ما رواه الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناد صحيح ، عن عبد الله بن شقيق ، عن رجل من بلقين قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القُرى ، وهو يعرض فرسًا ، فقلت : يا رسول الله ، ما تقول في الغنيمة ؟ فقال : " لله خمسها ، وأربعة أخماس للجيش " . قلت : فما أحد أولى به من أحد ؟ قال : " لا ولا السهم تستخرجه من جنبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم " {[12960]}
وقال ابن جرير : حدثنا عمران بن موسى ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أبان ، عن الحسن قال : أوصى أبو بكر بالخمس{[12961]} من ماله ، وقال : ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه{[12962]}
ثم اختلف قائلو هذا القول ، فروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : كانت الغنيمة تقسم{[12963]} على خمسة أخماس ، فأربعة منها بين من قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربعة{[12964]} فربع لله وللرسول ولذي القربى - يعني : قرابة النبي صلى الله عليه وسلم . فما كان لله وللرسول فهو لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا ، [ والربع الثاني لليتامى ، والربع الثالث للمساكين ، والربع الرابع لابن السبيل ] . {[12965]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو مَعْمَر المِنْقَرِي ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن حسين المعلم ، عن عبد الله بن بُرَيْدَة في قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } قال : الذي لله فلنبيه ، والذي للرسول لأزواجه .
وقال عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح قال : خمس الله والرسول{[12966]} واحد ، يحمل منه ويصنع فيه ما شاء - يعني : النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا أعم وأشمل ، وهو أن الرسول{[12967]} صلى الله عليه وسلم{[12968]} يتصرف في الخمس الذي جعله الله له بما شاء ، ويرده في أمته كيف شاء - ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم ، عن أبي سلام الأعرج ، عن المقدام بن معد يكرب الكندي : أنه جلس مع عبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء ، والحارث بن معاوية الكندي ، رضي الله عنهم ، فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو الدرداء لعبادة : يا عبادة ، كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ؟ فقال عبادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم ، فلما سلم قام{[12969]} رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وَبَرة بين أنملتيه فقال : " إن هذه من غنائمكم ، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط ، وأكبر{[12970]} من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا ، فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس في الله{[12971]} القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر ، وجاهدوا في [ سبيل ]{[12972]} الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة [ عظيم ]{[12973]} ينجي به الله من الهم والغم " {[12974]}
هذا حديث حسن عظيم ، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه . ولكن روى الإمام أحمد أيضًا ، وأبو داود ، والنسائي ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده عن عبد الله بن عمرو ، عن{[12975]} رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه في قصة الخمس والنهي عن الغلول{[12976]}
وعن عمرو بن عَبَسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة{[12977]} من ذلك البعير ثم قال : " ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه ، إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم " . رواه أبو داود والنسائي{[12978]}
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم من المغانم{[12979]} شيء يصطفيه لنفسه عبدًا أو أمة أو فرسًا أو سيفًا أو نحو ذلك ، كما نص على ذلك محمد بن سيرين وعامر الشعبي ، وتبعهما على ذلك أكثر العلماء .
وروى الإمام أحمد ، والترمذي - وحسنه - عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا{[12980]} الفَقَار يوم بدر ، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد{[12981]}
وعن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كانت صفية من الصّفي . رواه أبو داود في سننه{[12982]}
وروى أيضًا بإسناده ، والنسائي أيضًا عن يزيد بن عبد الله قال : كنا بالمِرْبَد إذ دخل رجل معه قطعة أديم ، فقرأناها فإذا فيها : " من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش ، إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأديتم الخمس من المغنم ، وسهم النبي وسهم الصّفي ، أنتم آمنون بأمان الله ورسوله " . فقلنا : من كتب لك هذا ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم{[12983]}
فهذه أحاديث جيدة تدل على تقرر هذا وثبوته ؛ ولهذا جعل ذلك كثيرون من الخصائص له صلوات الله وسلامه عليه .
وقال آخرون : إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين ، كما يتصرف في مال الفيء .
وقال شيخنا الإمام العلامة ابن تيمية ، رحمه الله : وهذا قول مالك وأكثر السلف ، وهو أصح الأقوال .
فإذا ثبت هذا وعلم ، فقد اختلف أيضا في الذي كان يناله عليه السلام{[12984]} من الخمس ، ماذا يُصنع به من بعده ؟ فقال قائلون : يكون لمن يلي الأمر من بعده . روى هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة جماعة ، وجاء فيه حديث مرفوع{[12985]}
وقال آخرون : يصرف في مصالح المسلمين .
وقال آخرون : بل هو مردود على بقية الأصناف : ذوي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، اختاره ابن جرير .
وقال آخرون : بل سهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردودان على اليتامى والمساكين وابن السبيل .
قال ابن جرير : وذلك قول جماعة من أهل العراق .
وقيل : إن الخمس جميعه لذوي القربى كما رواه ابن جرير .
حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا عبد الغفار ، حدثنا المِنْهَال بن عمرو ، وسألت عبد الله بن محمد بن علي ، وعلي بن الحسين ، عن الخمس فقالا هو لنا . فقلت لعلي : فإن الله يقول : { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } فقالا يتامانا ومساكيننا .
وقال سفيان الثوري ، وأبو نُعَيْم ، وأبو أسامة ، عن قيس بن مسلم : سألت الحسن بن محمد ابن الحنفية ، رحمه الله تعالى ، عن قول الله{[12986]} تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } قال{[12987]} هذا مفتاح كلام ، لله{[12988]} الدنيا والآخرة . ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قائلون : سهم النبي صلى الله عليه وسلم تسليما للخليفة من بعده . وقال قائلون : لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم . وقال قائلون : سهم القرابة لقرابة الخليفة . فاجتمع قولهم{[12989]} على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعُدة في سبيل الله ، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما{[12990]}
قال{[12991]} الأعمش ، عن إبراهيم{[12992]} كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح ، فقلت لإبراهيم : ما كان علي يقول فيه ؟ قال : كان [ علي ]{[12993]} أشدهم فيه .
وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء ، رحمهم الله .
وأما سهم ذوي القربى فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب ؛ لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية [ وفي أول الإسلام ]{[12994]} ودخلوا معهم في الشعب غضبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية له : مسلمهم طاعة لله ولرسوله ، وكافرهم حَمِيَّة للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله . وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل - وإن كانوا أبناء عمهم - فلم يوافقوهم على ذلك ، بل حاربوهم ونابذوهم ، ومالئوا بطون قريش على حرب الرسول ؛ ولهذا كان ذَمُّ أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم ، لشدة قربهم . ولهذا يقول في أثناء قصيدته{[12995]} : جَزَى الله عَنَّا عبدَ شمس ونَوفلا *** عُقُوبة شرٍّ عاجل غير آجلِ
بميزان قسْط لا يَخيس شَعِيرة *** لهُ شَاهدٌ مِنْ نَفْسه غير عائلِ
لقد سَفُهت أحلامُ قوم تَبَدَّلوا *** بني خَلَف قَيْضا بنا والغَيَاطِلِ
ونحنُ الصَّميم من ذؤابة هاشم *** وآل قُصَى في الخُطُوب الأوائلِ{[12996]}
وقال جبير بن مطعم بن عدي [ بن نوفل ]{[12997]} مشيت أنا وعثمان بن عفان - يعني ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : يا رسول الله ، أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ، ونحن وَهُم منك بمنزلة واحدة ، فقال : " إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد " .
رواه مسلم{[12998]} وفي بعض روايات هذا الحديث : " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام " {[12999]}
وهذا قول جمهور العلماء أنهم بنو هاشم وبنو المطلب .
قال ابن جرير : وقال آخرون : هم بنو هاشم . ثم روى عن خُصَيْف ، عن مجاهد قال : علم الله أن في بني هاشم فقراء ، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة .
وفي رواية عنه قال : هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة .
ثم روى عن علي بن الحسين نحو ذلك .
قال ابن جرير : وقال آخرون : بل هم قريش كلها .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثني عبد الله بن نافع ، عن أبي مَعْشَر ، عن سعيد المقْبُرِي قال : كتب نَجْدَة إلى عبد الله بن عباس يسأله عن " ذي القربى " ، فكتب إليه ابن عباس : كنا نقول : إنا هم فأبى ذلك علينا قومنا ، وقالوا : قريش كلها ذوو قربى{[13000]} {[13001]}
وهذا الحديث في صحيح مسلم ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث سعيد المقبري عن يزيد بن هرمُز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن ذوي القربى فذكره إلى قوله : " فأبى ذلك علينا قومنا " {[13002]} والزيادة من أفراد أبي معشر نَجِيح بن عبد الرحمن المدني ، وفيه ضعف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن حَنَش ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رغبت لكم عن غُسَالة الأيدي ؛ لأن لكم من خُمْس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم " .
هذا حديث حسن الإسناد ، وإبراهيم بن مهدي هذا وَثَّقه أبو حاتم ، وقال يحيى بن معين{[13003]}
يأتي بمناكير{[13004]} والله أعلم .
وقوله : { وَالْيَتَامَى } أي : يتامى المسلمين . واختلف العلماء هل يختص بالأيتام الفقراء ، أو يعم الأغنياء والفقراء ؟ على قولين .
و{ الْمَسَاكِينِ } هم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ومسكنتهم .
{ وَابْنِ السَّبِيلِ } هو المسافر ، أو المريد للسفر ، إلى مسافة تقصر فيها الصلاة ، وليس له ما ينفقه في سفره ذلك . وسيأتي تفسير ذلك في آية الصدقات من سورة " براءة " ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة ، وعليه التكلان .
وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } أي : امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وما أنزل على رسوله ؛ ولهذا جاء في الصحيحين ، من حديث عبد الله بن عباس ، في حديث وفد عبد القيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : " وآمركم بأربع وأنهاكم عن أربع : آمركم بالإيمان بالله ثم قال : هل تدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادةُ أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا الخمس من المغنم . . " الحديث بطوله{[13005]} فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان ، وقد بوَّب البخاري على ذلك في " كتاب الإيمان " من صحيحه فقال : ( باب أداء الخمس من الإيمان ) ، ثم أورد حديث ابن عباس هذا ، وقد بسطنا الكلام عليه في " شرح البخاري " ولله الحمد والمنة{[13006]}
وقال مقاتل بن حيان : { وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ } أي : في القسمة ، وقوله : { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ينبه تعالى على نعمته{[13007]} وإحسانه إلى خلقه بما فَرَق به بين الحق والباطل ببدر ويسمى " الفرقان " ؛ لأن الله تعالى أعلى فيه كلمة الإيمان على كلمة الباطل ، وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه .
قال علي بن أبي طالب والعَوْفِي ، عن ابن عباس : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } يوم بدر ، فَرَق الله فيه بين الحق والباطل . رواه الحاكم .
وكذا قال مجاهد ، ومِقْسَم وعبيد الله بن عبد الله ، والضحاك ، وقتادة ، ومُقَاتل بن حيان ، وغير واحد : أنه يوم بدر .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة بن الزبير في قوله : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } يوم فرق الله [ فيه ]{[13008]} بين الحق والباطل ، وهو يوم بدر ، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة ، فالتقوا يوم الجمعة لتسعَ عشرةَ - أو : سبع عشرة - مضت من رمضان ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلثمائة وبضعة عشر رجلا والمشركون ما بين الألف والتسعمائة .
فهزم الله المشركين ، وقتل منهم زيادة على السبعين ، وأسر منهم مثل ذلك .
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن ابن مسعود ، قال في ليلة القدر : تحروها لإحدى عشرة يبقين{[13009]} فإن صبيحتها{[13010]} يوم بدر . وقال : على شرطهما{[13011]}
وروي مثله عن عبد الله بن الزبير أيضًا ، من حديث جعفر بن بُرْقَان ، عن رجل ، عنه .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا يحيى بن يعقوب أبو طالب ، عن ابن عَوْن محمد بن عبيد الله الثقفي{[13012]} عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قال الحسن بن علي : كانت ليلة " الفرقان يوم التقى الجمعان " لسبع عشرة من رمضان{[13013]} إسناد جيد قوي .
ورواه ابن مَرْدُوَيه ، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب ، عن علي قال : كانت ليلة الفرقان ، ليلة التقى الجمعان ، في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشر مضت من شهر رمضان .
وهو الصحيح عند أهل المغازي والسير .
وقال يزيد بن أبي حبيب إمام أهل الديار المصرية في زمانه : كان يوم بدر يوم الاثنين ولم يتابع على هذا ، وقول الجمهور مقدم عليه ، والله أعلم .