فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا يَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (41)

لما أمر الله سبحانه بالقتال بقوله : { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } وكانت المقاتلة مظنة حصول الغنيمة ، ذكر حكم الغنيمة . والغنيمة قد قدّمنا أن أصلها إصابة الغنم من العدوّ ، ثم استعملت في كل ما يصاب منهم ، وقد تستعمل في كل ما ينال بسعي . ومنه قول الشاعر :

وقد طوّفت في الآفاق حتى *** رضيت من الغنيمة بالإياب

ومنه قول الآخر :

ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه *** أنى توجه والمحروم محروم

وأما معنى الغنيمة في الشرع ، فحكى القرطبي الاتفاق على أن المراد بقوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَيْء } مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر . قال : ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص ، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع . وقد ادّعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية بعد قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين ، وأن قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر على ما تقدّم أوّل السورة .

وقيل إنها أعني قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } محكمة غير منسوخة ، وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليست مقسومة بين الغانمين ، وكذلك لمن بعده من الأئمة ، حكاه الماوردي عن كثير من المالكية . قالوا : وللإمام أن يخرجها عنهم ، واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين وكان أبو عبيدة يقول : افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومنّ على أهلها فردّها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئاً . وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين . وممن حكى ذلك ابن المنذر ، وابن عبد البر ، والداودي ، والمازري ، والقاضي عياض ، وابن العربي ، والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين ، وكيفيتها كثيرة جداً . قال القرطبي : ولم يقل أحد فيما أعلم أن قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } الآية ناسخ لقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَيْء } الآية ، بل قال الجمهور : إن قوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَيْء } ناسخ ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله . وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها ، قال : وأما قصة حنين فقد عوّض الأنصار لما قالوا تعطي الغنائم قريشاً وتتركنا ، وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه ، فقال لهم : «أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم » كما في مسلم وغيره . وليس لغيره أن يقول هذا القول ، بل ذلك خاص به . قوله : { أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَيْء } يشمل كل شيء يصدق عليه اسم الغنيمة . و { مِن شَيْء } بيان لما الموصولة ، وقد خصّص الإجماع من عموم الآية " الأسارى " ، فإن الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف .

وكذلك سلب المقتول إذا نادى به الإمام . وقيل : كذلك الأرض المغنومة . وردّ بأنه لا إجماع على الأرض . قوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمْسَه } قرأ النخعي «فإَِنَّ للَّهِ » بكسر إن . وقرأ الباقون بفتحها على أن { أنّ } وما بعدها مبتدأ وخبره محذوف ، والتقدير : فحق أو فواجب أن لله خمسه .

وقد اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس على أقوال ستة :

الأوّل : قالت طائفة : يقسم الخمس على ستة فيجعل السدس للكعبة ، وهو الذي لله ، والثاني لرسول الله ، والثالث ، لذوي القربى ، والرابع : لليتامى ، والخامس : للمساكين ، والسادس : لابن السبيل .

والقول الثاني : قاله أبو العالية والربيع : إنها تقسم الغنيمة على خمسة ، فيعزل منها سهم واحد ويقسم أربعة على الغانمين ، ثم يضرب يده في السهم الذي عزله ، فما قبضه من شيء جعله للكعبة ، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة للرسول ومن بعده الآية .

القول الثالث : روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال : إن الخمس لنا ، فقيل له : إن الله يقول : { واليتامى والمساكين وابن السبيل } فقال : يتامانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا .

القول الرابع قول الشافعي : إن الخمس يقسم على خمسة ، وإن سهم الله وسهم رسوله واحد يصرف في مصالح المؤمنين ، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورة في الآية .

القول الخامس قول أبي حنيفة : إنه يقسم الخمس على ثلاثة : اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته ، كما ارتفع حكم سهمه ، قال : ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر وبناء المساجد وأرزاق القضاة والجند . وروي نحو هذا عن الشافعي .

القول السادس قول مالك : إنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده ، فيأخذ منه بغير تقدير ، ويعطى منه الغزاة باجتهاد ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين .

قال القرطبي ، وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا ، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم : «مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم » ، فإنه لم يقسمه أخماساً ولا أثلاثاً ، وإنما ذكر ما في الآية من ذكره على وجه التنبيه عليهم ، لأنهم من أهم من يدفع إليه . قال الزجاج محتجاً لهذا القول : قال الله تعالى : { يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } وجائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك .

قوله : { وَلِذِي القربى } قيل إعادة اللام في ذي القربى دون من بعدهم ، لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد اختلف العلماء في القربى على أقوال : الأول : أنهم قريش كلها ، روي ذلك عن بعض السلف ، واستدلّ بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما صعد الصفا جعل يهتف ببطون قريش كلها قائلاً :

«يا بني فلان يا بني فلان »

وقال الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن جريج ، ومسلم ابن خالد : هم بنو هاشم وبنو المطلب لقوله صلى الله عليه وسلم : «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ، وشبك بين أصابعه " وهو في الصحيح .

وقيل : هم بنو هاشم خاصة ، وبه قال مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وغيرهم ، وهو مروي عن علي بن الحسين ، ومجاهد .

قوله : { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله } قال الزجاج عن فرقة : إن المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم آمنتم بالله . وقالت فرقة أخرى : إن { إِن } متعلقة بقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم } قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح لأن قوله : { واعلموا } يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم ، فعلق إن بقوله : { واعلموا } على هذا المعنى : أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة . وقال في الكشاف : إنه متعلق بمحذوف يدلّ عليه { واعلموا } بمعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به ، فاقطعوا عنه [ أطماعكم ] ، واقتنعوا بالأخماس الأربعة ، وليس المراد بالعلم المجرّد ، ولكن العلم المضمن بالعمل والطاعة لأمر الله ، لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر . انتهى .

قوله : { وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا } معطوف على الاسم الجليل أي : إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا . و { يَوْمَ الفرقان } يوم بدر ، لأنه فرق بين أهل الحق وأهل الباطل . و{ الجمعان } الفريقان من المسلمين والكافرين { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } ومن قدرته العظيمة نصر الفريق الأقلّ على الفريق الأكثر .

/خ42