وقوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ /200-أ/ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) قال عامة أهل التأويل : إن الغنيمة هي التي أصاب المسلمون من أموال المشركين بالقتال عنوة ، والفيء ما يعطون بأيديهم صلحا . والغنيمة : يأخذ الإمام الخمس منها ، والباقي يقسم بينهم ، والفيء يأخذه الإمام ، فيضعه في مصلحة المسلمين ، وليس فيه الخمس . وقال بعضهم : الغنيمة والفيء واحد .
ثم قوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) إلى آخر ما ذكر ؛ ذكر الخمس ، ولم يذكر أربعة[ في الأصل وم : الأربعة ] الأخماس أنها لمن ؟ لكنها للمقابلة يقول تعالى : ( فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا )[ الأنفال : 69 ] فكانت الغنيمة كلها لمن غنمها بظاهر هذه الآية إلا ما استثنى الله منها بالآية الأولى ، وهو الخمس . وهذا مما أجمع عليه أهل العلم . وعلى ذلك تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته موقوفة من بعده .
روي أن اليبي صلى الله عليه وسلم : «سئل عن المال ؛ يعني الغنيمة ، فقال[ في الأصل وم : قال ] : لي خمسه ، وأربعة أخماسه لهؤلاء »[ البيهقي في شعب الإيمان4329 ] يعني المسلمين . وروي أنه قسمها بين المقاتلة ؛ يعني أربعة[ في الأصل وم : الأربعة ] الأخماس .
وفي بعض الأخبار أن أبا الدرداء ، وعبادة بن الصامت ، والحارث بن معاوية ، كانوا جلوسا ، فقال أبو الدرداء : «أيكم يذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث صلى إلى بعير من المغنم ، فلما انصرف ، فتناول من وبر البعير ، فقال : ما يحل لي من غنائمكم ما يزن هذه إلا الخمس ، ثم هو مردود فيكم » ؟ [ النسائي7/131 ] .
وعن ابن عمر رضي الله عنه ، [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : كانت الغنائم تجزأ خمسة أجزاء ، ثم يسهم عليها ، فلما صار لرسول الله فهو له .
وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس ؛ أربعة منها لمن قاتل عليها ، وغير ذلك من الأخبار ، وعلى ذلك اتفاق الأمة .
ومنهم من يقول : تقسم على ستة : سهم لله يجعل في ستر الكعبة ، وسهم لرسول الله ينتفع به . ومنهم من قال : يقسم على خمسة : سهم لرسول الله ، وأربعة أخماس لمن غنم . ومنهم من يقول : تقسم على أربعة : سهم لرسول الله ، وثلاثة أرباع[ في الأصل وم : أرباعه ] لمن غنم .
ثم قوله تعالى : ( فأن لله خمسه وللرسول ) تحتمل إضافة ذلك إلى نفسه وجهين :
أحدهما : لما جعل ذلك لإقامة العبادات وأنواع البر والخير ، والقرب التي هي لله ، فأضيفت[ في الأصل وم : فأضيف ] إليه إلى ما أضيفت المساجد إليه بقوله تعالى : ( وأن المساجد لله )[ الجن : 18 ] وإن كانت البقاع كلها لله . وكذلك ما سمى الكعبة بيت الله وإن كانت البيوت كلها لله لما جعلها لإقامة العبادات وأنواع القرب . فأضيف إلى الله ذلك . فعلى ذلك تحتمل إضافة ذلك السهم إلى الله لما جعله لإقامة العبادات والقرب وأنواع البر ، والله أعلم .
والثاني : أضاف ذلك إلى نفسه خصوصية ، ولرسول[ الواو ساقطة من الأصل وم ] الله إذا كان ذلك لرسوله ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله وأموره لله خالصا ، لم يكن لنفسه ولا لأحد من الخلق . فعلى ذلك جميع ماله وما تحويه يده لم يكن له ، إنما كان ذلك لله خالصا ، يصرف ذلك في أنواع القرب والبر في القرابة ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل الأحياء منهم والأموات جميعا ، والقريب منهم والبعيد جميعا .
ألا ترى أنه قال : «يا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة » ؟ [ التمهيد7/175 ] هذا يدل على أن ما يترك صدقة ، لا يورث منه ، ولو كان له لتوارث ورثته ما يورث من غيره . دل أن نفسه وماله كان لله خالصا ، وكذلك جميع أموره لله .
ألا ترى أنه روي في الخبر أنه كان يجوع يوما ، ويشبع يوما ، ويجوع ثلاثا ، وكان يربط الحجر على بطنه للجوع ؟
فإذا كانت إضافة ذلك الخمس إلى الله لخصوصية له وخلوص نفسه وماله له ، وإن كانت جميع الخلائق وما تحويه أيديهم لله حقيقة ، لكن لهم فيها الانتفاع وقضاء الحوائج والتدبير لأنواع التصرف في ذلك [ ومشاركته في غير ][ من م ، في الأصل : ومشاركة غير ] ذلك ، لم يختص[ من م ، في الأصل وم : يخص ] بالإضافة إليه ، [ وإن كان ذلك كله لله حقيقة ، ولما ][ من م ، في الأصل : وإن ] كانت نفس رسول الله وما تحويه يده لله[ من م ، في الأصل : الله ] لا تدبير له في ذلك ، [ ولا شرك لأحد فيه ، خص بإضافة[ في م : بالإضافة ] ذلك ][ من م ، ساقطة من الأصل ] إليه [ لأن ذلك ][ ساقطة من الأصل وم ] كله لله حقيقة .
وهذا كما قال تعالى : والله أعلم ( الملك يومئذ لله )[ الحج : 56 ] وقال : ( لمن الملك اليوم لله )[ غافر : 16 ] وقال : ( وبرزوا لله جميعا )[ إبراهيم : 21 ] خص بالذكر ملك ذلك اليوم والبروز له لما ينقطع يومئذ تدبير جميع ملوك الأرض ، ويذهب سلطانهم عنهم ، ويصفو البروز له ، وإن كان الملك في الأحوال كلها والأوقات جميعا وكذلك البروز له ، والمصير إليه ، وإن كان ذلك راجعا إليه في كل الأحوال فعلى ذلك الأول ، والله أعلم .
ثم ليس في ظاهر الآية دليل أن المراد بقوله تعالى : ( ولذي القربى ) قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل في ظاهره دلالة أنه أراد به قرابة أهل السهام في ذلك لأنه خاطب به الكل بقوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ) وظاهره أنه أراد به قربى من خاطب ، وكان الخطاب لهم جميعا .
ألا ترى أنه لم يفهم من قوله تعالى : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون )[ النساء : 7 ] قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن قرابة المخاطبين ؟ وكذلك لم يرجع قوله تعالى : ( إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين )[ البقرة : 180 ] إلى قرابة رسول الله بل إلى قرابة المخاطبين به ؟
فعلى ذلك الظاهر من قوله تعالى : ( ولذي القربى ) إلا أن يقال : أراد قرابة رسول الله بدلالة أخرى سوى ظاهر الآية .
وهو ما روي [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قسم الخمس بين بني هاشم ، وما روي أنه قال : «مالي من هذا المال إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم »[ النسائي7/132 ] وما روي أن نجدة [ ابن عويمر الحروري ][ ساقطة من الأصل وم ، انظر تفسير الطبري13/555 ] كتب إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى لمن هو ؟ [ فكتب إليه ابن عباس ][ في الأصل وم : و ] : هو لنا أهل البيت .
وقد كان عمر دعانا إلى أن ننكح منه أيا منا ، ونقضي منه مغرمنا ، فأبينا إلا أن نسلمه إلينا ، فأبى ذلك علينا . فدل فعل عمر هذا على أن التأويل في الخمس كان عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصل به قرابته ، ويسد بالخمس حاجتهم ؛ إذ كان جعل سبل الخمس ما ذكرنا أنه لله بمعنى أنه يصرف في وجوه القرب إليه .
فلو كان الخمس حقا لجميع القرابة أعطى من ذلك غنيهم وفقيرهم ، وما يأخذه الأغنياء من الخمس فإنه لا يجري مجرى الصدقة ، ولا يجري [ مجرى ][ ساقطة من الأصل وم ] القربة ، فبان بذلك أنه لا يعطى منه أغنياؤهم ، بل يصرف[ ساقطة من م ] إلى فقرائهم على قد رحاجتهم ؛ إذ لم يكن لفقيرهم[ في الأصل وم : له ] مكاسب سواه يوصل[ في الأصل وم : يصل ] بها كما يكون لغيره من الناس من المكاسب وأنواع الحرف .
ومما يدل على أن رسول الله أعطى بعض القرابة دون بعض ما روي عن جبير بن مطعم[ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني [ عبد ][ ساقطة من الأصل وم ] المطلب ، أتيت أنا وعثمان ، فقلنا : يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم ، لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله فيهم . أرأيت بني [ عبد ][ ساقطة من الأصل وم ] المطلب ، أعطيتهم ، ومنعتنا ، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة ؟ فقال : «إنهم لم[ في الأصل وم : لا ] يفارقوني في جاهلية ولا إسلام ؛ بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد ، وشبك أصابعه »[ أحمد4/81 ] .
وقوله تعالى : ( فأن لله خمسه وللرسول ) إلى آخر ما ذكر ، بين أن خمس الغنيمة يصرف في وجوه البر والقرب إلى الله .
ثم فسر تلك الوجوه ، فقال : ( وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) فكانت تسمية هذه الأصناف ، والله أعلم ، تعليما لنا أن الخمس يصرف في من ذكر من أهلها /200-ب/ دون غيرهم ، وليس إيجابا منه لكل صنف منها شيئا معلوما ، ولكن بيان الأهل والموضع ، وهو كقوله تعالى : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين )الآية[ التوبة : 60 ] .
حمل أصحابنا ذلك على أن الصدقة لا تجوز إلا لمن كان من أهل هذه الأصناف دون غيرهم ، ولم يحملوا الأمر على أن لكل صنف منهم شيئا معلوما محدودا ، ولكن على بيان أهلها .
وعلى ذلك [ ما ][ ساقطة من الأصل وم ] روي عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم ، منهم عمر وعلي وحذيفة ، وابن عباس ، وجماعة من السلف ما يكثر عددهم [ أنهم ][ ساقطة من الأصل وم ] قالوا : إذا وضعت الصدقة في صنف واحد أجزأك . فلو كان لأهل كل صنف الثمن منها كان المعطى بها صنفا واحدا مخالفا لما أمر به .
فعلى ذلك قوله تعالى : ( فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى ) الآية معناه ، والله أعلم : أن الخمس الذي يتقرب به من الغنيمة إلى الله لا يستحقه إلا الرسول ومن كان من الأصناف التي ذكره . فإلى أيهم دفع ذلك الخمس أجزأه . وإذا كان التأويل ما وصفنا لم يكن لأحد من هذه الأصناف أن يدعي منه خمسا أو ربعا ، ولكن يعطى كل من حضر منهم بقدر فاقته وحاجته وعلى قدر يراه الإمام .
فإذا جاء فريق آخرون أعطوا مما يدفع إلى الإمام من ذلك الخمس من المال كفايتهم . وكذلك روي عن ابن عمر أن ابن عباس قال : كان عمر يعطينا من الخمس نحو مما كان يرى أنه لنا ، فرغبنا عن ذلك ، وقلنا : حق ذي القربى خمس الخمس ، فقال عمر : إنما جعل الله الخمس لأصناف سماها . [ فأسعد به ][ في الأصل وم : أسعدهم بها ] أكثرهم عددا وأشدهم فاقة ، فأخذ ذلك ناس ، وتركه ناس .
وكذلك فعل عمر لما ولي الأمر ، [ وهو ][ ساقطة من الأصل وم ] ما روي عن ابن عباس ؛ قال : عرض علينا عمر أن يزوج من الخمس أيا منا ، ونقضي منه مغرمنا ، فأبينا إلا أن يسلمه إلينا ، فأبى ذلك علينا . فدل فعل عمر على أن القرابة يعطون من الخمس قدر حاجتهم ، وما يسد به فاقتهم ؛ إذ لو كان الخمس حقا لجميع القرابة أعطي من ذلك غنيهم وفقيرهم لقسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم كما قسم أربعة الأخماس بين المقاتلة ، بل أعطى منه بعض القرابة ، وحرم بعضا لما ذكرنا في جبير بن مطعم .
ومما يدل أيضا على أن ذلك لأهل الحاجة منهم دون الكل ما روي أن الفضل بن عباس [ وربيعة بن عبد المطلب ][ في الأصل وم : وفلان ] دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ عند زينب بنت جحش ، فقال [ أحدهما ][ ساقطة من الأصل وم ] : يا رسول الله أنت أبر الناس وأوصل الناس ، وقد[ من م ، في الأصل : ولو ] بلغنا النكاح ، فجئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات ، فتؤدي إليك ما يؤدي العمال ، ونصيب منها ما يصيبون ، فسكت طويلا حتى أردنا [ أن نعلمه ثانيا ، قال : وجعلت ][ في الأصل وم : ثانيا وم : ثانيا حتى ] زينب تلمح إلينا من وراء الحجاب ألا[ في الأصل وم : أنه ] تكلماه ، ثم قال «ألا إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ؛ إنما هي أوساخ الناس ، ادعوا لي محمية ، وكان على الخمس ، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، فجاءاه فقال لمحمية : أنكح هذا الغلام [ الفضل ابنتك ][ في الأصل وم : ابنتك المفضل ] فأنكحه ، وقال لنوفل : أنكح هذا الغلام [ يعني ربيعة بن عبد المطلب ][ ساقطة من الأصل وم ] ابنتك ، فأنكحه ، ثم قال لمحمية : [ أصدق عنهما ][ في الأصل وم : أصدقهما ] من الخمس كذا وكذا »[ مسلم12 ، الزكاة51 رقمه1072 ] ودل هذا على أن الحق لهم فيه لأهل الحاجة منهم .
ومما يدل على ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما لي من هذا المال إلا الخمس ، وهو مردود فيكم »[ النسائي7/132 ] لم يخص القرابة بشيء منه ، كان سبيلهم سبيل أمر المسلمين ، يعطي من يحتاج منهم كفايته .
وعلى هذا ما[ في الأصل وم : مما ] أمر به الأئمة الراشدون[ في الأصل وم : الراشدين ] ، ولم يغيره علي رضي الله عنه لما ولي الأمر . وكان ذلك عندنا مما لا يجوز مخالفتهم عليه .
فإن قيل : لو كانت قرابة النبي صلى الله عليه وسلم إنما يعطون من الخمس على سبيل الفقر والحاجة فهم على هذا يدخلون في عموم المساكين فما وجه ذكره إياهم إذا قيل : إن الله ، تبارك ، وتعالى ، قال في الصدقات : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين )[ التوبة : 60 ] ثم روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : «لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد »[ مسلم : 1069 ] فلو لم يمسهم[ في الأص وم : يسهم ] الله في الخمس جاز أن يقول قائل : لا يعطون من الخمس ، وإن يكونوا فقراء ، كما لا يجوز أن يعطعوا من الصدقة ، ولو كانوا فقراء ، فكانوا سبب ذكر الله إياهم في الخمس لذلك ، والله أعلم .
ثم اختلف أهل العلم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في سهم الرسول وسهم ذي القربى ، فقالت طائفة : سهم الرسول للخليفة من بعده ، وسهم ( ولذي القربى ) لقرابة الخليفة . وقالت الطائفة : سهم القربى لقرابة الرسول ، وقال الحسن : سهم القرابة لقرابة الخلفاء . وقال غيره[ من م ، في الأصل : غير ] : القرابة قرابة رسول الله .
وقد ذكرنا أنه يحتمل أنه كان له [ أن ][ ساقطة من الأصل وم ] يصل به قرابته بحق الصلة ، أو يعطيهم بحق القرابة ما دام حيا . ثم ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا نورث ، وما تركنا صدقة »[ التمهيد7/175 ] فإذا لم يورث عنه ما قد حازه من سهامه فكيف يورث عنه ما غنم بعد وفاته ؟
ولو كان سهمه الذي لم يلحقه موروثا عنه كان سهمه الذي حازه أحرى ألا يورث عنه . فإذا لم يورث الذي قد حازه ، ملكه عنه الآخر ، والله أعلم .
وعن عائشة أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله ، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر ، فقال لهم أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لا نورث ، ما تركنا صدقة » إنما يأكل آل محمد في هذا المال أي حق الغنائم . والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه إلا أصنعه . وفي بعض الأخبار قال : «لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما ، ما تركت بعد نفقة عاملي ومؤنة نسائي فهو صدقة »[ مسلم1760 ] .
وعن عمر [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق مما أفاء الله عليه سنة ، ويجعل ما بقي مال الله . وروي أيضا عنه [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسول الله ، كانت له خالصة[ في الأصل وم : خالصا ] . وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة ، وما بقي جعله الكراع والسلاح .
فهذه الأخبار تبين أنه لم يورث سهم النبي بعد وفاته ؛ فهي تدل على أن لا نقد بعد موت النبي من خمس الغنائم للخليفة شيء[ في الأصل وم : شيئا ] ، وأن ذلك كان خصوصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كالصفي الذي كان له خاصة دون غيره .
وكما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب ، فكان له خاصة ، فليس لأحد لغير النبي صلى الله عليه وسلم خصوص من الخمس كما ليس له خصوص من الصفي وغيره .
وإذا كان الأمر في سهم الرسول كما وصفنا ، ولم ينقص من الخمس هو لله بعد موت النبي ، ويخرج ذلك الخمس كله من الغنيمة ، فذلك يدل على أن الخمس ليس لأهل هذه الأصناف سهم معلوم ؛ لأنا قد رددنا سهم النبي من الخمس على سائر السهام .
فكما جاز أن يرد عليهم سهم النبي ، فكذلك يجوز أن يجعل سهم اليتامى ، أو بعضه للمساكين إذا حضروا ، وطلبوا ، ولم يحضر اليتامى ؛ لأن المعنى في الآية ، والله أعلم ، ألا يعطى إلا من كان من أهل هذه الأصناف . فقد وضع الحق في موضعه ، ولم يتعد به إلى غيره .
ثم الخطاب في قوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) لا يحتمل كلا في نفسه كالخطاب بأداء الزكاة وغيرها ، بل الخطاب راجع إلى الجماعة الذين غنموا . ألا ترى أن العسكر والسرايا إذا دخلوا /206-أ/ دار الحرب ، فتفرقوا فيها ، فغنم واحد منهم ، يجب ضم ذلك إلى جميع العسكر والسرايا ، فعند ذلك يخرج الخمس منه ؟ دل أن الخطاب بذلك راجع إلى جماعة ، وهي الجماعة التي لهم منعة ، يقومون للعدو ، لا أنه خاطب كل أحد في نفسه ، فهذا يدل على أن الواحد أو الاثنين إذا دخل[ في الأصل وم : دخلوا ] دار الحرب بغير إذن الإمام ، فغنم غنائم لا يخمس ولكن يسلم الكل .
وأما الغنيمة نفسها لا يحتمل أن ترجع إلى أحد معلوم أو مقدار محدود كالزكاة وسائر الحقوق ، لأن الغنيمة شيء يؤخذ من الكفرة ، وإنما يؤخذ قدر ما يظفر به ، ويوجد ، فلا يحتمل أن يرجع الخطاب به إلى قدر دون قدر ، بل القليل من ذلك والكثير سواء ، لا حد في ذلك ، ولا مقدار ، وليس كالزكاة وغيرها من الحقوق التي جعل فيها حدا ومقدارا للوجه الذي ذكرنا . وأما المصيبون لها والآخذون فلهم في ذلك مقدار ، وهم الذين لهم منعة .
ثم تذكر مسألة في قيمة السهام بين الرجالة والفرسان ، وإن لم يكن في الآية ذكر ذلك . روي عن ابن عمر . [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر الراجل سهما والفارس ثلاثة أسهم : سهما له ولفرسه سهمين . وعن ابن عباس رضي الله عنه ، [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر : للراجل سهما ، وللفارس ثلاثة أسهم : سهما له وسهمين للفرس . ثم روي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم للفارس سهمين وللراجل سهما[ في الأصل وم : سهم ] وعن المقداد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم له يوم بدر سهما ولفرسه سهما . وعن علي [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : للفارس سهمان . وعن المنذر [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : بعثه عمر في جيش إلى مصر ، فأصاب[ في الأصل وم : فأصابه ] غنائم ، فقسم للفارس سهمين[ في الأصل وم : سهمان ] .
وفي قول بعضهم : أسهم للفارس سهمان[ في الأصل وم : سهمين ] اختلاف وتضاد ، فحملوا على التناسخ . وقد يجوز ألا يكون ذلك ، وقد تكون زيادته التي زادها[ في الأصل وم : زادته ] للفرس على سهم ، إن كان محفوظا ثابتا لنفل نفله للأقواس حينئذ ترغيبا منه للمقابلة في اتخاذها وتريضا كما يجوز أن يقول الإمام : من قتل قتيلا فله سلبه ، ومن جاء برأس كذا فله كذا ؛ يحرض بذلك المقاتلة على[ في الأصل وم : في ] القتال . فعلى ذلك زيادة سهم لمكان الأفراس ترغيبا منه وتحريضا على اتخاذها . فأما إن كثرت الأفراس فإن سهمانها لا تكون أكثر من سهمان أصحابها ؛ لأن الفارس أكثر غنى من فرسه ، فإن لم يزد عليه لم ينقص عما يسهم .
وكان أبو حنيفة ، رحمه الله ، يسهم للفارس سهمين ، وأبو يوسف يرى أن يسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما[ في الأصل وم : بسهم ] والحجة في ذلك بقوله : قال الله تعالى : ( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب )[ الحشر : 6 ] فكانت [ نخل بني ][ ساقطة من الأصل وم ] النضير خالصة لرسول الله ، ولم يكن لمن حضرها من المسلمين شيء ، إذ لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ، وقد أتوها مشاة . فلما منع الرجالة من السهمان لاستغنائهم في غنمها[ في الأصل وم : فتحها ] عن الخيل جاز أن تزاد الخيل في السهمان على سهمان الرجالة إذا كان الرجالة[ في الأصل وم : الرجال ] يمنعون السهام ، وإن حضروا ، إذ لم يلجؤوا إلى ركوب الخيل .
لكن الحجة على هذا ما ذكرنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحاربوا بني[ في الأصل وم : على ] النضير فرسانا ولا رجالة ، ولو احتاجوا إلى الحرب لاحتاجوا إلى الخيل . فمن حيث [ لم ][ ساقطة من الأصل وم ] يحاربوا عليها لم يستحقوا منها شيئا . وإنما [ ذكر لنا ][ في الأصل وم : ذكرنا ] الله تعالى سهولة[ في الأصل وم : على سهولة ] أمرها ، وأنهم لم يحاربوا عليها خيلا ولا ركابا . وإذا لم يحارب على مدينة ، فغنموا مالا[ في الأصل وم : بمال ] ، فهو مصروف في مصالح المسلمين ، لا تجرى فيه السهام . فكانت [ نخل بني ][ ساقطة من الأصل وم ] النضير على ما ذكر خالصة للنبي يأخذ منها نفقة نسائه ، ويصرف سائرها إلى مصالح المسلمين .
ومن الدليل على أن [ بني ][ ساقطة من الأصل وم ] النضير لو احتيج فيها إلى حرب حاربهم النبي وأصحابه رجالة جرت في غنائمهم القسمة ؛ إن قوما من المسلمين لو حاربوا اليوم على مدينة من مدائن الشرك رجالة قسم ما يغنم منها كما يقسم لو كان معهم فرسان .
ومن الدليل على ذلك أيضا أن الرجالة إذا كانوا مع الفرسان في الحرب قسم كما يقسم للفارس من خاصة . فول كانت الغنيمة إنما تقسم لسبب الخيل على ما أعطي الرجالة منها شيئا ؛ إذ لا أفراس لهم . وذلك يفسد ما ذكرنا لأبي يوسف .
وقوله تعالى : ( إن كنتم آمنتم بالله ) قال بعضهم : هو صلة قوله ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله )[ البقرة : 193والأنفال : 39 ] ثم قال : ( وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم )[ الأنفال : 40 ] أي وإن تولوهم ، وقد أمنتم أنتم فاعلموا أن الله مولاكم ، ليس بمولى لهم .
وقالت طائفة : قوله تعالى : ( إن كنتم آمنتم بالله ) ليس على الشرط على ألا تكون غنيمة إذا لم يكونوا مؤمنين ، ولا يجب في العدل والقسمة إذا كانوا غير مؤمنين ، ولكن على التنبيه والإيقاظ كقوله تعالى : ( وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين )[ البقرة : 278 ] ليس على أنه لا يجب أن يذروا إذا كانوا مؤمنين ، ولا يجب أن يطيعوا إذا لم يكونوا مؤمنين ، ولكن على ما ذكرنا ، فعلى ذلك الأول ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ( وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) قيل : قوله : ( وما أنزلنا على عبدنا ) الملائكة الذين أرسلهم يوم بدر لنصرة المؤمنين ، وأنزل عليهم المطر حتى شد الأرض بذلك ، فاستقرت أقدامهم ، وثبتت بعد ما [ لا ][ من م ، ساقطة من الأصل ] تقر الأقدام فيها ، ولا تثبت ، وشربوا منه ، ورووا ، بعد ما أصابهم العطش ؛ إذ كان المشركون أخذوا الماء . وقوله تعالى : ( وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ) يوم بدر . وقوله ( يوم الفرقان ) يوم فرق بين الحق و الباطل ، لأنه عز وجل ، جعل يوم بدر آية حين[ في الأصل وم : حيث ] غلب المؤمنون المشركين مع قلة عددهم وضعف أبدانهم وفقد الأسباب التي بها يحارب ، ويقاتل ، وكثرة العدو وقوتهم ووجود أسباب الحرب والقتال ليعلموا أنهم غلبوا أولئك ، وهزموهم ، بنصر الله إياهم . فكان آية فرق المحق منهم والمبطل .
وقيل : هو يوم الفرقان ويوم الجمع ، جمع النبي والمؤمنين وجمع المشركين ، ويوم افتراق المشركين من المؤمنين وانهزامهم . وهو كما سمى يوم القيامة يوم الجمع في حال ويوم الافتراق في حال أخرى ، والله أعلم .