قوله تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } ، وكان تزيينه أن قريشاً لما اجتمعت للسير ، ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب ، فكاد ذلك أن يثنيهم فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته ، فتبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم . قوله تعالى : { وقال } ، لهم .
قوله تعالى : { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } ، أي : مجير لكم من كنانة . قوله تعالى : { فلما تراءت الفئتان } ، أي التقى الجمعان رأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء ، وعلم أنه لا طاقة له بهم .
قوله تعالى : { نكص على عقبيه } ، قال الضحاك : ولى مدبراً ، وقال النضر بن شميل : رجع القهقرى على قفاه هارباً ، قال الكلبي : لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة ، آخذاً بيد الحارث ابن هشام ، فنكص على عقبيه ، فقال له الحارث : أفراراً من غير قتال ؟ فجعل يمسكه ، فدفع في صدره وانطلق وانهزم الناس ، فلما قدموا مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة ، فقال : بلغني أنكم تقولون : إني هزمت الناس ، فوالله ما شعرت بمسيركم ، حتى بلغني هزيمتكم ، فقالوا : أما أتيتنا في يوم كذا ؟ فحلف لهم ، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان قال الحسن في قوله { وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون } قال : رأى إبليس جبريل معتجراً ببرد ، يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي يده اللجام يقود الفرس ، ما ركب بعد ، وقال قتادة : كان إبليس يقول : إني أرى ما لا ترون وصدق . وقال { إني أخاف الله } ، وكذب والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة به ولا منعة فأوردهم وأسلمهم ، وذلك عادة عدو الله لمن أطاعه ، إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم . وقال عطاء : إني أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك ، وقال الكلبي : خاف أن يأخذه جبريل عليه السلام ويعرف حاله فلا يطيعوه ، وقيل : معناه إني أخاف الله أي أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه كان على ثقة من أمره .
قوله تعالى : { والله شديد العقاب } . وقيل : معناه إني أخاف الله عليكم { والله شديد العقاب } قيل : انقطع الكلام عند قوله { أخاف الله } ثم يقول الله : { والله شديد العقاب } . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن إبراهيم بن أبي علية ، عن طلحة بن عبد الله بن كريز ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة ، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام ، إلا ما كان من يوم بدر ، فقيل : وما رأى يوم بدر ؟ قال : أما إنه قد رأى جبريل عليه السلام وهو يزع الملائكة ) . هذا حديث مرسل .
ويمضي السياق يصور وسوسة الشيطان للمشركين وإغراءهم بهذا الخروج الذي نالهم منه ما نالهم من الذل والخيبة والخسار والانكسار :
( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ، وقال : لا غالب لكم اليوم من الناس ، وإني جار لكم . فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ، وقال : إني بريء منكم ، إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب ) . .
ولقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار ؛ ليس من بينها حديث عن رسول الله [ ص ] إلا ما رواه مالك في الموطأ : حدثنا أحمد بن الفرج ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون ، قال : حدثنا مالك ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز : أن رسول الله [ ص ] قال : " ما رئي إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة ، وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب ، إلا ما رأى يوم بدر " ! قالوا : يا رسول الله وما رأى يوم بدر ? قال : " أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة " . .
وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبدالعزيز بن الماجشون ، وهو ضعيف الحديث ، والخبر مرسل . فأما سائر الآثار فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريق علي بن أبي طلحة وطريق ابن جريج . وعن عروة بن الزبير من طريق ابن إسحاق . وعن قتادة من طريق سعيد بن جبير . وعن الحسن وعن محمد بن كعب . وهذه أمثلة منها من رواية ابن جرير الطبري :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه راية ، في صورة رجل من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم . فقال الشيطان للمشركين : " لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم " . . فلما اصطف الناس أخذ رسول الله [ ص ] قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فولوا مدبرين . وأقبل جبير إلى إبليس ، فلما رآه ، وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده فولى مدبراً هو وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة ، تزعم أنك لنا جار ? قال : ( إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب )وذلك حين رأى الملائكة .
حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان . عن عروة بن الزبير قال : لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر - يعني من الحرب - فكاد ذلك أن يثنيهم . فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكان من أشراف كنانة ، فقال :
أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً .
حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم )إلى قوله : ( شديد العقاب ) قال : ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة فزعم عدو الله أنه لا يد له بالملائكة ، وقال : ( إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله ) . . وكذب والله عدو الله ، ما به مخافة الله ، ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له ، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له ، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم ، وتبرأ منهم عند ذلك .
ونحن - على منهجنا في هذه الظلال - لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر . فهي من أمور لاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته . ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض . .
وفي هذا الحديث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم ، وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم ؛ وأنه بعد ذلك - لما تراءى الجمعان أي بريء منكم إني رأى أحدهما الآخر - ( نكص على عقبيه وقال : إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب ) . . فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم ، ولم يوف بعهده معهم . .
ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم ، والتي قال لهم بها : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم . والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك . .
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها . ذلك أن أمر الشيطان كله غيب ؛ ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلا في حدود النص المسلم . والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث . .
فإلى هنا ينتهي اجتهادنا . ولا نميل إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الشيخ محمد عبده في التفسير من محاولة تأويل كل أمر غيبي من هذا القبيل تأويلا معينا ينفي الحركة الحسية عن هذه العوالم . وذلك كقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية :
( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ، وقال : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ) . . أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين ، إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته ، وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم : لا غالب لكم اليوم من الناس ، لا أتباع محمد الضعفاء ولا غيرهم من قبائل العرب ، فأنتم أعز نفرا وأكثر نفيرا وأعظم بأسا ، وإني مع هذا - أو والحال أني - جار لكم . قال البيضاوي في تفسيره : وأوهمهم أن اتباعهم إياه ، فيما يظنون أنها قربات ، مجير لهم ، حتى قالوا : اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين " .
( فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ) . . أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر ، وصار بحيث يراه ويعرف حاله ، وقبل أن يلقاه في المعركة ويصطلي نار القتال معه ، نكص : أي رجع القهقرى ، وتولى إلى الوراء وهو جهة العقبين [ أي مؤخري الرجلين ] وأخطأ من قال من المفسرين : إن المراد بالترائي التلاقي - والمراد : أنه كف عن تزيينه لهم وتغريره إياهم ، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء ؛ وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره . ثم زاد على هذا ما يدل على براءته منهم ، وتركه إياهم وشأنهم وهو [ وقال : إني بريء منكم ، إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ] أي تبرأ منهم وخاف عليهم ، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة [ والله شديد العقاب ] يجوزأن يكون هذا من كلامه ويجوز أن يكون مستأنفاً " .
. . . " أقول : معنى هذا أن جند الشيطان الخبيث كانوا منبثين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة ما يغريهم ويغرهم ؛ كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم . . . " .
وهذا الميل الظاهر إلى تفسير أفعال الملائكة بأنها مجرد ملابسة لأرواح المؤمنين ؛ وقد جزم في موضع آخر بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر على الرغم من قول الله تعالى : ( فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان )- وتفسير فعل الشيطان بأنه مجرد ملابسة لأرواح المشركين . . هو منهج تلك المدرسة بجملتها . . ومثله تفسير " الطير الأبابيل " بأنها ميكروبات الجدري ! في تفسير الشيخ محمد عبده لجزء عم . . هذا كله مبالغة في تأويل هذه النصوص المتعلقة بأمور غيبية ؛ حيث لا ضرورة لهذا التأويل ، لأنه ليس هناك ما يمنع من الدلالة الصريحة للألفاظ فيها . . وكل ما ينبغي هو الوقوف وراء النصوص بلا تفصيلات لا تدل عليها دلالة صريحة . . وهو المنهج الذي اتخذناه فعلاً . .
وقوله : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } الآية : حسَّن لهم - لعنه الله - ما جاؤوا له وما هموا به ، وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم من عدوهم بني بكر فقال : أنا جار لكم ، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم ، سيد بني مُدْلج ، كبير تلك الناحية ، وكل ذلك منه ، كما قال [ الله ]{[13056]} تعالى عنه : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [ النساء : 120 ] .
قال ابن جريج{[13057]} قال ابن عباس في هذه الآية : لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين ، وألقى في قلوب المشركين : أن أحدا لن يغلبكم ، وإني جار لكم . فلما التقوا ، ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة ، { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْه } قال : رجع مدبرا ، وقال : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } الآية .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين ، معه رايته ، في صورة رجل من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك{[13058]} بن جعشم ، فقال الشيطان للمشركين : { لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فولوا مدبرين وأقبل جبريل ، عليه السلام ، إلى إبليس ، فلما رآه - وكانت يده في يد رجل من المشركين - انتزع يده ثم ولى مدبرا هو وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة ، أتزعم أنك لنا جار ؟ فقال : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } وذلك حين رأى الملائكة .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ؛ أن إبليس خرج مع قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فلما حضر القتال ورأى الملائكة ، نكص على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ } فتشبث{[13059]} الحارث بن هشام فنخر في وجهه ، فخر صعقا ، فقيل له : ويلك يا سراقة ، على هذه الحال تخذلنا وتبرأ منا . فقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
وقال محمد بن عمر الواقدي : أخبرني عمر بن عقبة ، عن شعبة - مولى ابن عباس - عن ابن عباس قال : لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم كشف عنه ، فبشر الناس بجبريل في جند من الملائكة ميمنة الناس ، وميكائيل في جند آخر ميسرة الناس ، وإسرافيل في جند آخر ألف . وإبليس قد تصور في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، يدبر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم{[13060]} اليوم من الناس . فلما أبصر عدوُّ الله الملائكة ، نكص على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } فتشبث به الحارث بن هشام ، وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه ، فضرب في صدر الحارث ، فسقط الحارث ، وانطلق إبليس{[13061]} لا يرى حتى سقط في البحر ، ورفع ثوبه وقال : يا رب ، موعدك الذي وعدتني{[13062]} .
وفي الطبراني عن رفاعة بن رافع قريب من هذا السياق وأبسط منه{[13063]} ذكرناه في السيرة .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : لما أجمعت{[13064]} قريش المسير{[13065]} ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب ، فكاد ذلك أن يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي - وكان من أشراف بني كنانة - فقال : أنا جار لكم أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه ، فخرجوا سراعا .
قال محمد بن إسحاق : فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك{[13066]} لا ينكرونه ، حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان ، كان الذي رآه حين نكص الحارث بن هشام - أو : عمير بن وهب - فقال : أين ، أي سراق ؟{[13067]} ومثل عدو الله فذهب - قال : فأوردهم ثم أسلمهم - قال : ونظر عدو الله إلى جنود الله ، قد أيد الله بهم رسوله{[13068]} والمؤمنين فانتكص{[13069]} على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } وصدق عدو الله ، وقال : { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }{[13070]} وهكذا روي عن السدي ، والضحاك ، والحسن البصري ، ومحمد بن كعب القرظي ، وغيرهم ، رحمهم الله .
وقال قتادة : وذكر لنا أنه رأى جبريل ، عليه السلام ، تنزل معه{[13071]} الملائكة ، فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة فقال : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ } وكذب عدو الله ، والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة ، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له ، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم ، وتبرأ منهم عند ذلك .
قلت : يعني بعادته لمن أطاعه قوله تعالى : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ } [ الحشر : 16 ] ، وقوله تعالى : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم : 22 ] .
وقال يونس بن بُكَيْر ، عن محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول : لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري ، لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى{[13072]}
فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس ، وأوحى الله إليهم : أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، وتثبيتهم أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه ، فيقول له : أبشر فإنهم ليسوا بشيء ، والله معكم ، كروا عليهم . فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } وهو في صورة سراقة ، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول : لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم ، فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه . ثم قال : واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال ، فلا تقتلوهم وخذوهم أخذًا . وهذا من أبي جهل لعنه الله كقول فرعون للسحرة لما أسلموا : { إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا } [ الأعراف : 123 ] ، وكقوله { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } [ طه : 71 ] ، وهو من باب البهت والافتراء ، ولهذا كان أبو جهل فرعون هذه الأمة .
وقال مالك بن أنس ، عن إبراهيم بن أبي عبلة{[13073]} عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما رُئِيَ إبليس في يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وذلك مما يرى من تنزل الرحمة والعفو عن الذنوب إلا ما رأى يوم بدر " . قالوا : يا رسول الله ، وما رأى يوم بدر ؟ قال : " أما إنه رأى جبريل ، عليه السلام ، يزغ الملائكة " {[13074]}