قوله تعالى :{ وما أبرئ نفسي } من الخطأ والزلل فأزكيها ، { إن النفس لأمارة بالسوء } ، بالمعصية { إلا ما رحم ربي } ، أي : إلا من رحم ربي فعصمه ، " ما " بمعنى " من " كقوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم } [ النساء-3 ] أي : من طاب لكم ، وهم الملائكة ، عصمهم الله عز وجل فلم يركب فيهم الشهوة . وقيل : إلا من رحم ربي إشارة إلى حالة العصمة عند رؤية البرهان . { إن ربي غفور رحيم } ، فلما تبين للملك عذر يوسف عليه السلام وعرف أمانته وعلمه ، اشتاق لرؤيته وكلامه ، وذلك معنى قوله تعالى إخبارا عنه : { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } .
وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة :
( وما أبريء نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم ) . .
إنها امراة أحبت . امرأة تكبر الرجل الذي تعلقت به في جاهليتها وإسلامها ، فهي لا تملك إلا أن تظل معلقة بكلمة منه ، أو خاطرة ارتياح تحس أنها صدرت عنه !
وهكذا يتجلى العنصر الإنساني في القصة ، التي لم تسق لمجرد الفن ، إنما سيقت للعبرة والعظة . وسيقت لتعالج قضية العقيدة والدعوة . ويرسم التعبير الفني فيها خفقات المشاعر وانتفاضات الوجدان رسما رشيقا رفيقا شفيفا . في واقعة كاملة تتناسق فيها جميع المؤثرات وجميع الواقعيات في مثل هذه النفوس ، في ظل بيئتها ومؤثرات هذه البيئة كذلك .
وإلى هنا تنتهي محنة السجن ومحنة الاتهام ، وتسير الحياة بيوسف رخاء ، الاختبار فيه بالنعمة لا بالشدة .
وإلى هنا نقف في هذا الجزء من الظلال ، وتتابع القصة سيرها في الجزء التالي إن شاء الله .
انتهى الجزء الثاني عشر و يليه الجزء الثالث عشر مبدوءاً بقوله تعالى : وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي . . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أُبَرّىءُ نَفْسِيَ إِنّ النّفْسَ لأمّارَةٌ بِالسّوَءِ إِلاّ مَا رَحِمَ رَبّيَ إِنّ رَبّي غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول يوسف صلوات الله عليه : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي من الخطأ والزلل فأزكيَها . إنّ النّفْسَ لأمّارَةٌ بالسّوءِ يقول : إن النفوس نفوس العباد تأمرهم بما تهواه وإن كان هواها في غير ما فيه رضا الله إلاّ ما رَحِمَ رَبّي يقول : إلا أن يرحم ربي من شاء من خلقه ، فينجيه من اتباع هواها وطاعته فيما تأمره به من السوء . إنّ رَبّي غَفُورٌ رَحِيمٌ . و«ما » في قوله : إلاّ ما رَحِمَ رَبّي في موضع نصب ، وذلك أنه استثناء منقطع عما قبله ، كقوله : ولاَ هُمْ يُنْقَذُونَ إلاّ رَحْمَةً مِنّا بمعنى : إلا أن يُرحموا ، وأَنْ إذا كانت في معنى المصدر تضارع «ما » .
ويعني بقوله : إنّ رَبّي غَفُورٌ رَحيمٌ : أن الله ذو صفح عن ذنوب من تاب من ذنوبه ، بتركه عقوبته عليها وفضيحته بها ، رحيم به بعد توبته أن يعذّبه عليها . وذُكر أن يوسف قال هذا القول من أجل أن يوسف لما قال : ذلكَ ليَعْلَمَ أنْي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ قال مَلَك من الملائكة : ولا يوم هممت بها ؟ فقال يوسف حينئذٍ : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي إنّ النّفْسَ لأَمّارَةٌ بالسّوءِ . وقد قيل : إن القائل ليوسف : ولا يومَ هَمَمْتَ بها فحللت سراويلك ؟ هو امرأة العزيز ، فأجابها يوسف بهذا الجواب . وقيل : إن يوسف قال ذلك ابتداء من قِبَل نفسه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما جمع الملك النسوة ، فسألهن : هل رَاوَدْتُنّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرأةُ العَزِيزِ الاَنَ حَصْحَصَ الحَقّ . . . الآية ، قال يوسف : ذلكَ لِيَعْلَمَ أنّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ قال فقال له جَبْرَئيل : ولا يوم هممت به هممت ؟ فقال : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي إنّ النفْسَ لأَمّارَةٌ بالسّوءِ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سمِاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما جمع الملك النسوة ، قال لهن : أنتُن راودتنّ يوسف عن نفسه ؟ ثم ذكر سائر الحديث ، مثل حديث أبي كُريب ، عن وكيع .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا إسرائيل عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما جمع الملك النسوة ، قال : أنتنّ راودتنَ يوسف عن نفسه ؟ ثم ذكر نحوه غير أنه قال : فغمزه جبرائيل ، فقال : ولا حين هممتَ بها ؟ فقال يوسف : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي إنّ النّفْسَ لأَمّارَةٌ بالسّوءِ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما قال يوسف : ذلكَ لِيَعْلَمَ أنّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ قال جبرائيل ، أو ملك : ولا يومَ همَمتَ بما هممت به ؟ فقال : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي إنّ النّفْسَ لأَمّارَةٌ بالسّوءِ .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير بنحوه ، إلا أنه قال : قال له الملَك : ولا حين هممت بها ؟ ولم يقل : أو جبرئيل ، ثم ذكر سائر الحديث مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر وأحمد بن بشير ، عن مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جُبير : ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ قال : فقال له الملك ، أو جبريل : ولا حين هممت بها ؟ فقال يوسف : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي إنّ النّفْسَ لأَمّارَةٌ بالسّوءِ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي سِنان ، عن ابن أبي الهذيل ، قال : لما قال يوسف : ذلكَ لِيَعْلَمَ أنّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ قال له جبرئيل : ولا يوم هممت بما هممت به ؟ فقال : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي إنّ النّفْسَ لأَمّارَةٌ بالسّوءِ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل ، بمثله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، مثل حديث ابن وكيع ، عن محمد بن بشر وأحمد بن بشير سواء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا العلاء بن عبد الجبار ، وزيد بن حباب ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن الحسن : ذلكَ لِيَعْلَمَ أنّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ قال له جبرئيل : اذكر همك فقال : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي إنّ النّفْسَ لأَمّارَةٌ بالسّوءِ .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن الحسن : ذلكَ لِيَعْلَمُ أنّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ قال جبرئيل : يا يوسف اذكر همك قال : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي إنّ النّفْسَ لأَمّارَةٌ بالسّوءِ .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، في قوله : ذلكَ لِيَعْلَمَ أنّي لَمْ أخنُهُ بالغَيْب قال : هذا قول يوسف ، قال : فقال له جبرئيل : ولا حين حللت سراويلك ؟ قال : فقال يوسف وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي إنّ النّفْسَ لأمّارةٌ بالسوءِ . . . الآية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، بنحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ذلكَ لِيَعْلَمَ أنّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ ذكر لنا أن الملك الذي كان مع يوسف ، قال له : اذكر ما هممت به قال نبيّ الله : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي إنّ النّفْسَ لأَمّارَةٌ بالسّوءِ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : بلغني أن المَلَك قال له حين قال ما قال : أتذكر هَمّك ؟ فقال : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي إنّ النّفْسَ لأَمّارَةٌ بالسّوءِ إلاّ ما رَحِمَ رَبّي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : ذلكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ قال الملك ، وطعن في جنبه : يا يوسف ، ولا حين هممت ؟ قال : فقال : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي . ذكر من قال قائل ذلك له المرأة :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : ذلكَ لِيَعْلَمَ أنّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ قال : قاله يوسف حين جيء به ليُعْلِم العزيز أنه لم يخنه بالغيب في أهله وأنّ اللّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ فقالت امرأة العزيز : يا يوسف ، ولا يوم حللت سراويلك ؟ فقال يوسف : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي إنّ النّفْسَ لأَمّارَةٌ بالسّوءِ . ذكر من قال قائل ذلك يوسف لنفسه ، من غير تذكير مذكّر ذكّره ولكنه تذكر ما كان سَلَف منه في ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عَمّي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ذلكَ لِيَعْلَمَ أنّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ وأنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ هو قول يوسف لمليكهِ حين أراه الله عذره ، فذكّره أنه قد همّ بها وهمّت به ، فقال يوسف : وَما أُبَرّىءُ نَفْسي إنّ النّفْسَ لأَمّارَةٌ بالسّوءِ . . . الآية .
ظاهر ترتيب الكلام أن هذا من كلام امرأة العزيز ، مضت في بقية إقرارها فقالت : { وما أبرىء نفسي } . وذلك كالاحتراس مما يقتضيه قولها : { ذلك لِيَعْلَم أني لم أخنْه بالغيب } [ سورة يوسف : 52 ] من أن تبرئة نفسها من هذا الذنب العظيم ادعاءٌ بأن نفسها بريئة براءة عامة فقالت : { وما أبرىء نفسي } ، أي ما أبرىء نفسي من محاولة هذا الإثم لأن النفس أمّارة بالسوء وقد أمرتني بالسوء ولكنه لم يقع .
فالواو التي في الجملة استئنافية ، والجملة ابتدائية .
وجلمة { إن النفس لأمارة بالسوء } تعليل لجملة { وما أبرىء نفسي } ، أي لا أدعي براءة نفسي من ارتكاب الذنب ، لأن النفوس كثيرة الأمر بالسوء .
والاستثناء في { إلا ما رحم ربي } استثناء من عموم الأزمان ، أي أزمان وقوع السوء ، بناءً على أن أمر النفس به يبعث على ارتكابه في كلّ الأوقات إلاّ وقت رحمة الله عبده ، أي رحمته بأن يقيّض له ما يصرفه عن فعل السوء ، أو يقيض حائلاً بينه وبين فعل السوء ، كما جعل إباية يوسف عليه السلام من إجابتها إلى ما دعتْه إليه حائلاً بينها وبين التورط في هذا الإثم ، وذلك لطف من الله بهما .
ولذلك ذيلته بجملة { إن ربي غفور رحيم } ثناءً على الله بأنه شديد المغفرة لمن أذنب ، وشديد الرحمة لعبده إذا أراد صرفه عن الذنب .
وهذا يقتضي أن قومها يؤمنون بالله ويحرمون الحرام ، وذلك لا ينافي أنهم كانوا مشركين فإن المشركين من العرب كانوا يؤمنون بالله أيضاً ، قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولُن الله } [ سورة العنكبوت : 61 ] وكانوا يعرفون البر والذنب .
وفي اعتراف امرأة العزيز بحضرة الملك عبرة بفضيلة الاعتراف بالحق ، وتبرئة البريء مما ألصق به ، ومن خشية عقاب الله الخائنين .
وقيل : هذا الكلام كلام يوسف عليه السلام متصل بقوله : { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } الآية [ سورة يوسف : 50 ] .
وقوله : { قال ما خَطْبُكُنّ إذ رَاوَدْتُنّ يوسف } إلى قوله { وأن الله لا يهدي كَيْد الخائنين } [ سورة يوسف : 51 52 ] اعتراض في خلال كلام يوسف عليه السلام . وبذلك فسّرها مجاهد وقتادة وأبو صالح وابن جريج والحسن والضحّاك والسدّي وابن جبير ، واقتصر عليه الطبري . قال في الكشاف } : ( وكفى بالمعنى دليلاً قائداً إلى أن يجعل من كلام يوسف عليه السلام ، ونحوُه قوله : { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم ثم قال فماذا تأمرون } [ سورة الأعراف : 109 110 ] وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم ) ا هـ . يريد أن معنى هذه الجملة أليق بأن يكون من كلام يوسف عليه السلام لأن من شأنه أن يصدر عن قلب مليء بالمعرفة .
وعلى هذا الوجه يكون ضمير الغيبة في قوله : { لم أخنه } [ سورة يوسف : 52 ] عائداً إلى معلوم من مقام القضية وهو العزيز ، أي لم أخن سيدي في حرمته حال مغيبه .
ويكون معنى وما أبرىء نفسي } الخ . . مثل ما تقدم قصد به التواضع ، أي لست أقول هذا ادعاء بأن نفسي بريئة من ارتكاب الذنوب إلا مدة رحمة الله النفس بتوفيقها لأكف عن السوء ، أي أني لم أفعل ما اتهمت به وأنا لست بمعصوم .