معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ثُمَّ لَمۡ تَكُن فِتۡنَتُهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِينَ} (23)

قوله تعالى : { ثم لم تكن فتنتهم } ، قرأ حمزة والكسائي ويعقوب { يكن } بالياء ، لأن الفتنة بمعنى الافتتان ، فجاز تذكيره ، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث الفتنة ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم { فتنتهم } بالرفع جعلوه اسم كان ، وقرأ الآخرون بالنصب ، فجعلوا الاسم قوله إن قالوا ، وفتنتهم الخبر ، ومعنى قوله { فتنتهم } أي : قولهم ، وجوابهم ، وقال ابن عباس وقتادة : معذرتهم ، والفتنة التجربة ، فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل فتنة . قال الزجاج في قوله { ثم لم تكن فتنتهم } معنى لطيف ، وذلك مثل الرجل يفتن بمحبوب ثم يصيبه فيه محنة ، فيتبرأ من محبوبه ، فيقال : لم تكن فتنتهم إلا هذا ، كذلك الكفار ، فتنوا بمحبة الأصنام ، ولما رأوا العذاب تبرأوا منها ، يقول الله عز وجل : { ثم لم تكن فتنتهم } ومحبتهم الأصنام .

قوله تعالى : { إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } . قرأ حمزة والكسائي { ربنا } بالنصب على نداء المضاف ، وقرأ الآخرون بالخفض على نعت والله ، وقيل : إنهم إذا رأوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى وتجاوزه عن أهل التوحيد ، قالوا بعضهم لبعض : تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو من أهل التوحيد ، فيقولون : { والله ربنا ما كنا مشركين } ، فيختم على أفواههم ، وتشهد عليهم جوارحهم بالكفر .

قوله تعالى : { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ثُمَّ لَمۡ تَكُن فِتۡنَتُهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِينَ} (23)

20

هنا " يفتنون فيذهب الخبث ، ويسقط الركام - من فتنة الذهب بالنار ليخلص من الخبث والزبد - :

( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين ) . .

إن الحقيقة التي تجلت عنها الفتنه ، أو التي تبلورت فيها الفتنة ، هي تخليهم عن ماضيهم كله وإقرارهم بربوبية الله وحده ؛ وتعريهم من الشرك الذي زاولوه في حياتهم الدنيا . . ولكن حيث لا ينفع الإقرار بالحق والتعري من الباطل . . فهو إذن بلاء هذا الذي تمثله قولتهم وليس بالنجاة . . لقد فات الأوان . . فاليوم للجزاء لا للعمل . . واليوم لتقرير ما كان لا لاسترجاع ما كان . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ثُمَّ لَمۡ تَكُن فِتۡنَتُهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِينَ} (23)

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ } . .

يقول تعالى ذكره : ثم لم يكن قولهم إذ قلنا لهم : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون إجابة منهم لنا عن سؤالنا إياهم ذلك إذ فتناهم فاختبرناهم ، إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ كذبا منهم في أيمانهم على قيلهم ذلك .

ثم اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة من قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : «ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ » بالنصب ، بمعنى : لم يكن اختبارنا لهم إلاّ قيلهم وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ غير أنهم يقرءون تَكُنْ بالتاء على التأنيث وإن كانت للقول لا للفتنة لمجاورته الفتنة وهي خبر ، وذلك عند أهل العربية شاذّ غير فصيح في الكلام وقد رُوِي بيت للبيد بنحو ذلك ، وهو قوله :

فَمَضَى وَقَدّمَها وكانَتْ عادَةً ***منهُ إذا هيَ عَرّدَتْ إقْدامُها

فقال : «وكانت » بتأنيث الإقدام لمجاورته قوله : عادة .

وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفيين : «ثمّ لَمْ يَكُنْ » بالياء «فِتْنَتَهُمْ » بالنصب إلاّ أنْ قالُوا بنحو المعنى الذي قصده الاَخرون الذين ذكرنا قراءتهم ، غير أنهم ذكروا يكون لتذكير أن وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب ، لأن «أنْ » أثبت في المعرفة من الفتنة .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ فقال بعضهم : معناه : ثم لم يكن قولهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال قتادة في قوله : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قال : مقالتهم . قال معمر : وسمعت غير قتادة يقول : معذرتهم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قال : قولهم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا . . . الاَية ، فهو كلامهم ، قالوا : واللّهِ رَبّنَا ما كُنَا مُشْرِكِينَ .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال سمعت الضحاك : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ يعني كلامهم .

وقال آخرون : معنى ذلك معذرتهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قال : معذرتهم .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ يقول : اعتذارهم بالباطل والكذب .

والصواب من القول في ذلك أن يقال معناه : ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله ، إلا أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فوضعت الفتنة موضع القول لمعرفة السامعين معنى الكلام . وإنما الفتنة : الاختبار والابتلاء ، ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلاّ عند الاختبار ، وضعت الفتنة التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم .

واختلفت القرّاء أيضا في قراءة قوله : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين والبصريين : وَاللّهِ رَبّنا خفضا على أن «الرب » نعت لله . وقرأ ذلك جماعة من التابعين : «واللّهِ رَبّنا » بالنصب بمعنى : والله يا ربنا ، وهي قراءة عامة قرّاء أهل الكوفة .

وأولى القراءتين عندي بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : «وَاللّهِ رَبّنا » بنصب الربّ ، بمعنى : يا ربنا . وذلك أن هذا جواب من المسئولين المقول لهم : أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمونَ وكان من جواب القوم لربهم : والله يا ربنا ما كنا مشركين ، فنفوا أن يكونوا قالوا ذلك في الدنيا . يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ، ويعني بقوله : ما كُنّا مُشْرِكِينَ ما كنا ندعو لك شريكا ولا ندعو سواك .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ثُمَّ لَمۡ تَكُن فِتۡنَتُهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِينَ} (23)

قوله : { ثم لم تكن فتنتهم } عطف على جملة { ثم نقول } و ( ثم ) للترتيب الرتبي وهو الانتقال من خبر إلى خبر أعظم منه .

والفتنة أصلها الاختبار ، من قولهم : فتنَ الذهَب إذا اختبر خلوصه من الغلْث . وتطلق على اضطراب الرأي من حصول خوف لا يصبر على مثله ، لأنّ مثل ذلك يدلّ على مقدار ثبات من يناله ، فقد يكون ذلك في حالة العيش ؛ وقد يكون في البغض والحبّ ؛ وقد يكون في الاعتقاد والتفكير وارتباك الأمور . وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { إنّما نحن فتنة فلا تكفر } في سورة [ البقرة : 102 ] .

{ وفتنتهم } هنا استثني منها { أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين } ، فذلك القول إمّا أن يكون من نوع ما استثني هو منه المحذوف في تفريغ الاستثناء ، فيكون المستثنى منه من الأقوال الموصوفة بأنّها فتنة .

فالتقدير : لم يكن لهم قول هو فتنة لهم إلاّ قولهم { والله ربّنا ما كنا مشركين } .

وإمّا أن يكون القول المستثنى دالاً على فتنتهم ، أي على أنّهم في فتنة حين قالوه . وأيّاً ما كان فقولهم : { والله ربّنا ما كنّا مشركين } متضمّن أنّهم مفتونون حينئذٍ .

وعلى ذلك تحتمل الفتنة أن تكون بمعنى اضطراب الرأي والحيرة في الأمر ، ويكون في الكلام إيجاز . والتقدير : فافتتنوا في ماذا يجيبون ، فكان جوابهم أن قالوا : { والله ربّنا ما كنّا مشركين } فعدل عن المقدّر إلى هذا التركيب لأنّه قد علم أنّ جوابهم ذلك هو فتنتهم لأنّه أثرها ومظهرها .

ويحتمل أن يراد بالفتنة جوابهم الكاذب لأنّه يفضي إلى فتنة صاحبه ، أي تجريب حالة نفسه .

ويحتمل أن تكون أطلقت على معناها الأصلي وهو الاختبار . والمراد به السؤال لأنّ السؤال اختبار عمّا عند المسؤول من العلم ، أو من الصدق وضدّه ، ويتعيّن حينئذٍ تقدير مضاف ، أي لم يكن جواب فتنتهم ، أي سؤالهم عن حال إشراكهم إلاّ أن قالوا : { والله ربّنا ما كنّا مشركين } .

وقرأ الجمهور { لم تكن } بتاء تأنيث حرف المضارعة . وقرأه حمزة ، والكسائي ، ويعقوب بياء المضارعة للغائبة باعتبار أنّ { قالوا } هو اسم ( كان ) . وقرأ الجمهور { فتنتهم } بالنصب على أنّه خبر ( كان ) ، فتكون ( كان ) ناقصة واسمها { إلاّ أن قالوا } وإنّما أخّر عن الخبر لأنّه محصور .

وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم بالرفع على أنّه اسم ( كان ) و { أنْ قالوا } خبر ( كان ) ، فتجعل ( كان ) تامّة . والمعنى لم توجد فتنة لهم إلاّ قولهم : { والله ربّنا ما كنّا مشركين } ، أي لم تقع فتنتهم إلاّ أن نفوْا أنّهم أشركوا .

ووجه اتّصال الفعل بعلامة مضارعة للمؤنّث على قراءة نصب { فتنتهم } هو أنّ فاعله مؤنَّث تقديراً ، لأنّ القول المنسبك من ( أن ) وصلتها من جملة الفتنة على أحد التأويلين . قال أبو علي الفارسي : وذلك نظير التأنيث في اسم العدد في قوله تعالى : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] ، لأنّ الأمثال لمّا كانت في معنى الحسنات أنّث اسم عددها .

وقرأ الجمهور { ربّنا } بالجرّ على الصفة لاسم الجلالة . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف بالنصب على النداء بحذف حرفه .

وذكرُهم الربّ بالإضافة إلى ضميرهم مبالغة في التنصّل من الشرك ، أي لا ربّ لنا غيره . وقد كذّبوا وحلفوا على الكذب جرياً على سننهم الذي كانوا عليه في الحياة ، لأنّ المرء يحشر على ما عاش عليه ، ولأنّ الحيرة والدهش الذي أصابهم خيّل إليهم أنّهم يموّهون على الله تعالى فيتخلّصون من العقاب . ولا مانع من صدور الكذب مع ظهور الحقيقة يومئذٍ ، لأنّ الحقائق تظهر لهم وهم يحسبون أنّ غيرهم لا تظهر له ، ولأنّ هذا إخبار منهم عن أمر غائب عن ذلك اليوم فإنّهم أخبروا عن أمورهم في الدنيا .

وفي « صحيح البخاري » : أنّ رجلاً قال لابن عباس : إنِّي أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ ، فذكر منها قوله : { ولا يكتمون الله حديثاً } [ النساء : 42 ] وقوله : { والله ربّنا ما كنّا مشركين } . فقد كتموا في هذه الآية . فقال ابن عباس : إنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، فيقول المشركون تعالوا نقل : ما كنّا مشركين ، فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم ، فعند ذلك عرفوا أنّ الله لا يُكتم حديثاً .