قوله تعالى : { ثم أنتم هؤلاء } . يعني : يا هؤلاء ، وهؤلاء للتنبيه .
قوله تعالى : { تقتلون أنفسكم } . أي يقتل بعضكم بعضاً .
قوله تعالى : { وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم } . بتشديد الظاء أي تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الظاء فحذفوا تاء التفاعل وأبقوا تاء الخطاب كقوله تعالى : ( ولا تعاونوا ) معناهما جميعاً : تتعاونون ، والظهير : العون .
قوله تعالى : { بالإثم والعدوان } . المعصية والظلم .
قوله تعالى : { وإن يأتوكم أسارى } . قرأ حمزة : أسرى ، وهما جمع أسير ، ومعناهما واحد .
قوله تعالى : { تفادوهم } . بالمال وتنقذوهم وقرأ أهل المدينة وعاصم والكسائي ويعقوب تفادوهم أي تبادلوهم ، أراد : مفاداة الأسير بالأسير ، وقيل : معنى القراءتين واحد . ومعنى الآية قال السدي : إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضاً ، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم ، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه ، فكانت قريظة حلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج ، وكانوا يقاتلون في حرب سنين فيقاتل بنو قريظة مع حلفائهم وبنو النضير مع حلفائهم وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها ، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه وإن كان الأسير من عدوهم ، فتعيرهم العرب ويقولون : كيف تقاتلونهم قالوا :إنا أمرنا أن نفديهم فيقولون : فلم تقاتلوهم قالوا : إنا نستحيي أن تذل حلفاؤنا ، فعيرهم الله تعالى بذلك فقال : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } وفي الآية تقديم وتأخير ونظمها وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان .
قوله تعالى : { وهو محرم عليكم إخراجهم } . وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ، فكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود : ترك القتال ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم ، وفداء أسراهم ، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء .
قوله تعالى : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } . قال مجاهد : يقول إن وجدته في يد غيرك فديته وأنت تقتله بيدك .
قوله تعالى : { فما جزاء من يفعل ذلك منكم } . يا معشر اليهود .
قوله تعالى : { إلا خزي } . عذاب وهوان .
قوله تعالى : { في الحياة الدنيا } . فكان خزي قريظة القتل والسبي وخزي بني النضير الجلاء والنفي من منازلهم إلى أذرعات وأريحاء من الشام .
قوله تعالى : { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } . وهو عذاب النار .
قوله تعالى : { وما الله بغافل عما تعملون } . قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالياء ، والباقون بالتاء .
فماذا كان بعد الإقرار وهم شاهدون حاضرون ؟
( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان . وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ، وهو محرم عليكم إخراجهم . أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ ) . .
ولقد كان هذا الذي يواجههم به واقعا قريب العهد قبيل غلبة الإسلام على الأوس والخزرج . كان الأوس والخزرج مشركين ، وكان الحيان أشد ما يكون حيان من العرب عداء . وكان اليهود في المدينة ثلاثة أحياء ترتبط بعهود مع هذا الحي وذاك من المشركين . . كان بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج ، وكان ينو قريظة حلفاء الأوس . فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ؛ فيقتل اليهودي أعداءه ، وقد يقتل اليهودي اليهودي من الفريق الآخر - وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم - وكانوا يخرجونهم من ديارهم إذا غلب فريقهم وينهبون أموالهم ويأخذون سباياهم - وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم - ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فادوا الأسارى ، وفكوا أسر المأسورين من اليهود هنا أو هناك ، عندهم أو عند حلفائهم أو أعداء حلفائهم على السواء - وذلك عملا بحكم التوراة وقد جاء فيها : إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا أخذته فأعتقته . .
هذا التناقض هو الذي يواجههم به القرآن ؛ وهو يسألهم في استنكار :
( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ ) . .
وهذا هو نقض الميثاق الذي يتهددهم عليه بالخزي في الحياة الدنيا ، والعذاب الأشد في الآخرة . مع التهديد الخفي بأن الله ليس غافلا عنه ولا متجاوزا :
( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب . وما الله بغافل عما تعملون ) . .
{ ثُمّ أَنْتُمْ هََؤُلآءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مّنْكُمْ مّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ، وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىَ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ، فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَىَ أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ } .
قال أبو جعفر : ويتجه في قوله : { ثُمّ أنْتُمْ }هَؤُلاَءِ وجهان :
أحدهما أن يكون أريد به : ثم أنتم يا هؤلاء ، فترك «يا » استغناء بدلالة الكلام عليه ، كما قال : { يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذا } وتأويله : يا يوسف أعرض عن هذا . فيكون معنى الكلام حينئذ : ثم أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ، ثم أقررتم بعد شهادتكم على أنفسكم بأن ذلك حق لي عليكم لازم لكم الوفاء لي به ، { تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } متعاونين عليهم في إخراجكم إياهم بالإثم والعدوان . والتعاون : هو التظاهر وإنما قيل : للتعاون التظاهر ، لتقوية بعضهم ظهر بعض ، فهو تفاعل من الظهر ، وهو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض .
والوجه الاَخر أن يكون معناه : ثم أنتم قومٌ تقتلون أنفسكم فيرجع إلى الخبر عن «أنتم » ، وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم بهؤلاء ، كما تقول العرب : أنا ذا أقوم ، وأنا هذا أجلس ، ولو قيل : أنا هذا أجلس كان صحيحا جائزا ، كذلك أنت ذاك تقوم .
وقد زعم بعض البصريين أن قوله «هؤلاء » في قوله : ثُمّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تنبيه وتوكيد ل«أنتم » ، وزعم أن «أنتم » وإن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين ، فإنما جاز أن يؤكدوا ب«هؤلاء » و«أولاء » ، لأنها كناية عن المخاطبين ، كما قال خُفاف بن ندبة :
أقُولُ لَهُ وَالرّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنُهُ *** تَبَيّنْ خُفافا إنّنِي أنا ذَلِكا
يريد : أنا هذا . وكما قال جل ثناؤه : { حتى إذَا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ } .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية نحو اختلافهم فيمن عني بقوله : { وأنْتُمْ تَشْهَدونَ } . ذكر اختلاف المختلفين في ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : { ثُمّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وتُخْرِجُونَ فَرِيقا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بإِلاثْمِ والعُدْوَانِ } إلى أهل الشرك حتى تسفكوا دماءهم معهم ، وتخرجوهم من ديارهم معهم . فقال : أنّبهم الله ( على ذلك ) من فعلهم ، وقد حرّم عليهم في التوراة سفك دمائهم ، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم فكانوا فريقين : طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج والنضير وقريظة حلفاء الأوس ، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون منها ما عليهم وما لهم ، والأوس والخزرج أهل شِرْكٍ يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا نارا ، ولا بعثا ، ولا قيامة ، ولا كتابا ، ولا حراما ، ولا حلالاً ، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم ، تصديقا لما في التوراة وأخذا به بعضهم من بعض : يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم ، ويُطِلّون ما أصابوا من الدماء وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم . يقول الله تعالى ذكره حين أنّبهم بذلك : { أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } أي تفادونه بحكم التوراة وتقتلونه وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من ذلك ، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عَرضَ من عَرضَ الدنيا . ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثني عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارَكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُمْ وَأنْتُمْ تَشْهَدُونَ } قال : إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا ، وأيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه فأعتقوه . فكانت قريظة حلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج ، فكانوا يقتتلون في حرب سُمَيْر ، فتقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءَها . وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها فيغلبونهم ، فيخرّبون بيوتهم ويخرجونهم منها ، فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه ، فتعيرهم العرب بذلك ، ويقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم ؟ قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم وحرّم علينا قتالهم ، قالوا : فلم تقاتلونهم ؟ قالوا : إنا نستحيي أن تستذلّ حلفاؤنا . فذلك حين عيرهم جل وعز فقال : { ثُمّ أنْتُمْ هَولاء تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرَيقا مِنْكُمْ مِنْ ديارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثم وَالعُدْوَانَ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كانت قريظة والنضير أخوين ، وكانوا بهذه المثابة ، وكان الكتاب بأيديهم . وكانت الأوس والخزرج أخوين فافترقا ، وافترقت قريظة والنضير ، فكانت النضير مع الخزرج ، وكانت قريظة مع الأوس . فاقتتلوا ، وكان بعضهم يقتل بعضا ، فقال الله جل ثناؤه : { ثُمّ أنّتُمْ هَولاء تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وَتُخْرجُونَ فَريقا مِنْكُمْ مِنْ دِيارهِمْ } الآية . وقال آخرون بما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : كان في بني إسرائيل إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم ، وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم .
وأما العدوان فهو الفعلان من التعدي ، يقال منه : عدا فلان في كذا عدوا وعدوانا ، واعتدى يعتدي اعتداءً ، وذلك إذا جاوز حدّه ظلما وبغيا .
وقد اختلف القراء في قراءة : تَظَاهَرُونَ فقرأها بعضهم : تظاهرون ، على مثال «تفاعلون » فحذف التاء الزائدة وهي التاء الاَخرة . وقرأها آخرون : «تظّاهرون » ، فشدّد بتأويل «تتظاهرون » ، غير أنهم أدغموا التاء الثانية في الظاء لتقارب مخرجيهما فصيّروهما ظاء مشددة . وهاتان القراءتان وإن اختلفت ألفاظهما فإنهما متفقتا المعنى ، فسواء بأي ذلك قرأ القارىء ، لأنهما جميعا لغتان معروفتان وقراءتان مستفيضتان في أمصار الإسلام بمعنى واحد ليس في إحداهما معنى تستحق به اختيارها على الأخرى إلا أن يختار مختار تظاهرون المشددة طلبا منه تتمة الكلمة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ يَأتُوكُمْ أسارَى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ أفَتُؤمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أسارَى تُفادُوهُمْ } اليهود يوبخهم بذلك ، ويعرّفهم به قبيح أفعالهم التي كانوا يفعلونها . فقال لهم : ثم أنتم بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم أن لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ يعني به يقتل بعضُكم بعضا ، وأنتم مع قتلكم من تقتلون منكم إذا وجدتم الأسير منكم في أيدي غيركم من أعدائكم تَفْدُونه ويخرج بعضكم بعضا من دياره . وقَتْلُكم إياهم وإخراجُكُموهم من ديارهم حرام عليكم وتَرْكُهم أسرى في أيدي عدوّكم ، فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوّهم ؟ أم كيف لا تستجيزون ترك فدائهم وتستجيزون قتلهم ؟ وهم جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم سواء ، لأن الذي حرّمت عليكم من قتلهم وإخراجهم من دورهم نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوّهم ، أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْض الكِتاب الذي فرضت عليكم فيه فرائضي وبينت لكم فيه حدودي وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي فتصدّقون به ، فتفادون أسراكم من أيدي عدوّكم وتَكْفُرُونَ ببعضه فتجحدونه فتقتلون من حرّمت عليكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم ، وتخرجونهم من ديارهم ؟ وقد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقي . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ثُمّ أنْتُمْ هَولاء تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ والعُدْوَانِ وَإِنْ يأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهم وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ أفتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } فادين والله إن فداءهم لإيمان وإن إخراجهم لكفر ، فكانوا يخرجونهم من ديارهم ، وإذا رأوهم أسارى في أيدي عدوّهم افْتَكّوهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَإِنْ يَأتُوكُمْ أُسارَى تَفْدُوهُمْ } قد علمتم أن ذلكم عليكم في دينكم ، وَهُوَ محرّمٌ عليكُم في كتابكم إخراجهُم أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أتفادونهم مؤمنين بذلك ، وتخرجونهم كفرا بذلك ؟
حدثني محمد بن عمرو ، قال حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإِنْ يأتُوكُمْ أسَارَى تَفْدُوهُمْ } يقول : إن وجدته في يد غيرك فديته وأنت تقتله بيدك ؟
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، قال : قال أبو جعفر : كان قتادة يقول في قوله : { أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } فكان إخراجهم كفرا وفداؤهم إيمانا .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { ثُمّ أنتُمْ هَولاَءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ } الآية ، قال : كان في بني إسرائيل إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم ، وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، وأخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم أن يفادوهم . فأخرجوهم من ديارهم ثم فادوهم . فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض آمنوا بالفداء ففدوا ، وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، قال : حدثنا الربيع بن أنس ، قال : أخبرني أبو العالية : أن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه العرب ، فقال له عبد الله بن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أنْ فادوهنّ كلهن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : { أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } قال : كفرهم القتل والإخراج ، وإيمانهم الفداء . قال ابن جريج : يقول : إذا كانوا عندكم تقتلونهم وتخرجونهم من ديارهم . وأما إذا أسروا تفدونهم ؟ وبلغني أن عمر بن الخطاب قال في قصة بني إسرائيل : إن بني إسرائيل قد مضوا وإنكم أنتم تُعْنَون بهذا الحديث .
واختلف القراء في قراءة قوله : { وَإنْ يأتُوكُمْ أسارَى تَفْدوهُمْ } فقرأه بعضهم : «أسرى تفدوهم » ، وبعضهم : «أسارى تفادوهم » ، وبعضهم : «أسارى تفدوهم » ، وبعضهم : «أسرى تفادوهم » .
قال أبو جعفر : فمن قرأ ذلك : «وإن يأتوكم أسرى » ، فإنه أراد جمع الأسير ، إذْ كان على «فعيل » على مثال جمع أسماء ذوي العاهات التي يأتي واحدها على تقدير فعيل ، إذْ كان الأسر شبيه المعنى في الأذى والمكروه الداخل على الأسير ببعض معاني العاهات وألحق جمع المستلحق به بجمع ما وصفنا ، فقيل أسير وأَسْرى ، كما قيل مريض ومَرْضَى وكَسِير وكَسْرى ، وجريح وجَرْحى .
وقال أبو جعفر : وأما الذين قرءوا ذلك : «أُسارى » ، فإنهم أخرجوه على مخرج جمع فُعْلان ، إذ كان جمع «فعلان » الذي له «فَعْلَى » قد يشارك جمع «فعيل » ، كما قالوا سكارى وسكرى وكسالى وكسلى ، فشبهوا أسيرا وجمعوه مرة أُسارى وأخرى أَسْرى بذلك . وكان بعضهم يزعم أن معنى الأسرى مخالف معنى الأسارى ، ويزعم أن معنى الأسرى استئسار القوم بغير أسر من المستأسر لهم ، وأن معنى الأسارى معنى مصير القوم المأسورين في أيدي الاَسرين بأسرهم وأخذهم قهرا وغلبة .
قال أبو جعفر : وذلك ما لا وجه له يفهم في لغة أحد من العرب ، ولكن ذلك على ما وصفت من جمع الأسير مرة على «فَعْلى » لما بينت من العلة ، ومرة على «فُعالى » لما ذكرت من تشبيههم جمعه بجمع سكران وكسلان وما أشبه ذلك .
وأولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : { وَإِنْ يَأتُوكُمْ أَسْرَى } لأن «فُعالى » في جمع «فَعِيل » غير مستفيض في كلام العرب . فإذا كان ذلك غير مستفيض في كلامهم ، وكان مستفيضا فاشيا فيهم جمع ما كان من الصفات التي بمعنى الاَلام والزمانة واحدة على تقدير «فعيل » على «فَعْلى » كالذي وصفنا قبل ، وكان أحد ذلك الأسير كان الواجب أن يلحق بنظائره وأشكاله فيجمع جمعها دون غيرها ممن خالفها .
وأما من قرأ : { تُفادُوهُمْ } فإنه أراد أنكم تفدونهم من أسرهم ، ويفدى منكم الذين أسروهم ففادوكم بهم أسراكم منهم .
وأما من قرأ ذلك : «تَفْدُوهُمْ » فإنه أراد أنكم يا معشر اليهود إن أتاكم الذين أخرجتموهم منكم من ديارهم أسرى فديتموهم فاستنقذتموهم . وهذه القراءة أعجب إليّ من الأولى ، أعني : «أسرى تفدوهم » لأن الذي على اليهود في دينهم فداء أسراهم بكل حال فَدَى الاَسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم .
وأما قوله : { وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ } فإن في قوله : وَهُوَ وجهين من التأويل أحدهما : أن يكون كناية عن الإخراج الذي تقدم ذكره ، كأنه قال : وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، وإخراجهم محرّم عليكم . ثم كرّر الإخراج الذي بعد وهو محرم عليكم تكريرا على «هو » ، لما حال بين «الإخراج » و«هو » كلام . والتأويل الثاني : أن يكون عمادا لما كانت الواو التي مع «هو » تقتضي اسما يليها دون الفعل ، فلما قدم الفعل قبل الاسم الذي تقتضيه الواو أن يليها أولِيَتْ «هو » لأنه اسم ، كما تقول : أتيتك وهو قائم أبوك ، بمعنى : وأبوك قائم ، إذْ كانت الواو تقتضي اسما فعمدت ب«هو » ، إذ سبق الفعل الاسم ليصلح الكلام كما قال الشاعر :
فأبْلِغْ أبا يَحيى إذَا ما لَقِيتَهُ *** على العِيسِ فِي آباطِها عَرَقٌ يَبْسُ
بأنّ السّلامَى الّذِي بِضَرِيّةٍ *** أمِيرَ الحِمَى قدْ بَاعَ حَقّي بني عَبْسِ
بِثَوْبٍ وَدِينارٍ وَشاةٍ ودِرْهَمٍ *** فَهْل هُوَ مَرْفُوعٌ بِما هَهُنَا رأسُ
فأوليت «هل » لطلبها الاسم العماد .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدّنْيَا } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ } فليس لمن قتل منكم قتيلاً فكفر بقتله إياه بنقض عهد الله الذي حكم به عليه في التوراة ، وأخرج منكم فريقا من ديارهم مظاهرا عليهم أعداءهم من أهل الشرك ظلما وعدوانا وخلافا لما أمره الله به في كتابه الذي أنزله إلى موسى ، جزاء يعني بالجزاء : الثواب وهو العوض مما فعل من ذلك والأجر عليه ، إِلاّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدّنْيَا والخِزْي الذلّ والصغار ، يقال منه : «خَزِي » الرجل يَخْزَى خِزْيا » . فِي الحياة الدنيا ، يعني في عاجل الدنيا قبل الاَخرة .
ثم اختلف في الخزي الذي أخزاهم الله بما سلف من معصيتهم إياه .
فقال بعضهم : ذلك هو حكم الله الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من أخذ القاتل بمن قتل والقَوَد به قصاصا ، والانتقام للمظلوم من الظالم .
وقال آخرون : بل ذلك هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم ذلة لهم وصَغَارا .
وقال آخرون : بل ذلك الخزي الذي جَوّزوا به في الدنيا إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم النّضِيرَ من ديارهم لأوّل الحشر ، وقتل مقاتلة قريظة وسَبْي ذراريهم فكان ذلك خزيا في الدنيا ، ولهم في الاَخرة عذاب عظيم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلى أشَدّ العَذَابِ } .
يعني بقوله : { وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدّونَ إلى أشَدّ العَذَابِ } : ويوم تقوم الساعة يردّ من يفعل ذلك منكم بعد الخزي الذي يحلّ به في الدنيا جزاءً على معصية الله إلى أشدّ العذاب الذي أعدّ الله لأعدائه .
وقد قال بعضهم : معنى ذلك : { وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدّونَ إلى أشَدّ العَذَابِ }من عذاب الدنيا . ولا معنى لقول قائل ذلك . ذلك بأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنهم يردّون إلى أشدّ معاني العذاب ولذلك أدخل فيه الألف واللام ، لأنه عنى به جنس العذاب كله دون نوع منه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ } .
اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : «وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ » بالياء على وجه الإخبار عنهم ، فكأنهم نَحَوْا بقراءتهم معنى «فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلكَ مِنْكُمْ إلاّ خِزْيٌ فِي الحَياةِ الدّنْيا ويَوْمَ القِيامَةِ يُرَدّونَ إلى أشَدّ العَذَابِ وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ » يعني عما يعمله الذين أخبر الله عنهم أنه ليس لهم جزاء على فعلهم إلا الخزي في الحياة الدنيا ، ومرجعهم في الاَخرة إلى أشدّ العذاب .
وقرأه آخرون : وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ بالتاء على وجه المخاطبة قال : فكأنهم نَحَوْا بقراءتهم : أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِ . . . وَما اللّهُ بِغافِلٍ يا معشر اليهود عَمّا تَعْمَلُونَ أنتم .
وأعجب القراءتين إليّ قراءة من قرأ بالياء اتباعا لقوله : { فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلكَ مِنْكُمْ } ولقوله : { وَيَوْمَ القِيامَةِ يُرَدّونَ } لأن قوله : «وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ » إلى ذلك أقرب منه إلى قوله : { أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُون بِبَعْضٍ } فاتباعه الأقرب إليه أولى من إلحاقه بالأبعد منه . والوجه الاَخر غير بعيد من الصواب . وتأويل قوله : وما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة ، بل هو مُحْصٍ لها وحافظها عليهم حتى يجازيهم بها في الاَخرة ويخزيهم في الدنيا فيذلهم ويفضحهم .
{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }( 85 )
{ هؤلاء } دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل رداً إلى الأسلاف ، قيل : ( {[887]} ) تقدير الكلام يا هؤلاء ، فحذف حرف النداء ، ولا يحسن حذفه عند سيبويه مع المبهمات ، لا تقول هذا أقبل ، وقيل تقديره أعني هؤلاء ، وقيل { هؤلاء } بمعنى الذين ، فالتقدير ثم أنتم الذين تقتلون ، ف { تقتلون } صلة { لهؤلاء } ، ونحوه قال يزيد بن مفرغ الحميري .
عدسْ ما لعبّاد عليك إمارة . . . نجوت وهذا تحملين طليق( {[888]} )
وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن( {[889]} ) بن أحمد شيخنا رضي الله عنه : { هؤلاء } رفع بالابتداء و { أنتم } خبر مقدم ، و { تقتلون } حال ، بها تم المعنى ، وهي كانت المقصود فهي غير مستغنى عنها ، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه ، كما تقول هذا زيد منطلقاً ، وأنت قد قصدت الإخبار بالنطلاقه لا الإخبار بأن هذا هو زيد .
وهذه الآية خطاب لقريظة والنضير وبني قينقاع ، وذلك أن النضير وقريظة حالفت الأوس ، وبني قينقاع حالفت الخزرج ، فكانوا إذا وقعت الحرب بين بني قيلة( {[890]} ) ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها فقتل بعضهم بعضاً وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم ، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعاً لحكم التوراة وهم قد خالفوها بالقتال والإخراج ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تُقتِّلون » بضم التاء الأولى وكسر الثانية وشدّها على المبالغة ، والديار مباني الإقامة ، وقال الخليل : محلة القوم دارهم ، وقرأ حمزة وعاصم والسكائي «تظاهرون » بتخفيف الظاء وهذا على حذف التاء الثانية من تتظاهرون ، وقرأ بقية السبعة «تظَّاهرون » بشد الظاء على إدغام التاء في الظاء ، وقرأ أبو حيوة «تُظهِرون » بضم التاء وكسر الهاء ، وقرأ مجاهد وقتادة «تَظَّهَرَّون » بفتح التاء وشد الظاء والهاء مفتوحة دون ألف ، ورويت هذه عن أبي عمرو ، ومعنى ذلك( {[891]} ) على كل قراءة تتعاونون ، وهو مأخوذ من الظهر ، كأن المتظاهريْن يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه ، والإثم العهد الراتبة على العبد من المعاصي( {[892]} ) ، والمعنى بمكتسبات الإثم ، { والعدوان } تجاوز الحدود والظلم ، وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج( {[893]} ) ، وقرأ حمزة «أسرى تفدوهم » ، وقرأ نافع وعاصم والكسائي «أسارى تفادوهم » ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير «أسارى تفدوهم » ، وقرأ قوم «أسرى تفادوهم » . و { أسارى } جمع أسير ، والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد ، سمي بذلك لأنه يؤسر أي يشد وثاقاً ، ثم كثر استعماله حتى لزم وإن لم يكن ثم ربط ولا شد ، وأسير فعيل بمعنى مفعول ، ولا يجمع بواو ونون وإنما يكسر على أسرى وأسارى ، والأقيس فيه أسرى ، لأن فعيلاً بمعنى مفعول الأصل فيه أن يجمع على فعلى ، كقتلى وجرحى ، والأصل في فعلان أن يجمع على «فَعالى » بفتح الفاء و «فُعالى » بضمها كسكران وكسلان وسُكَارى وكُسَالى ، قال سيبويه : فقالوا في جمع كسلان كسْلى ، شبّهوه بأسرى كما قالوا { أسارى } شبهوه بكسالى ، ووجه الشبه أن الأسر يدخل على المرء مكرهاً كما يدخل الكسل ، وفعالى إنما يجيء فيما كان آفة تدخل على المرء .
و { تفَادوهم } معناه في اللغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئاً ، قاله أبو علي ، قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئاً ، فعلى هذا قد تجيء بمعنى فديت أي دفعت فيه من مال نفسي ، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : أعطني فإني فاديت نفسي ، وفاديت عقيلاً ، وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر ، تقول : فديت زيداً بمال وفاديته بمال ، وقال قوم : هي في قراءة تفادوهم مفاعلة في أسرى بأسرى( {[894]} ) ، قال أبو علي : كل واحد من الفريقين فعل ، الأسر دفع الأسير ، والمأسور منه دفع أيضاً إما أسيراً وإما غيره ، والمفعول الثاني محذوف .
وقوله تعالى : { وهو محرم }( {[895]} ) قيل في { هو } إنه ضمير الأمر ، تقديره والأمر محرم عليكم ، و { إخراجهم } في هذا القول بدل من
هو } ، وقيل { هو } فاصلة ، وهذا مذهب الكوفيين ، وليست هنا بالتي هي عماد ، و { محرم } على هذا ابتداء ، و { إخراجهم } خبره ، وقيل هو الضمير المقدر في { محرم } قدم وأظهر ، وقيل هو ضمير الإخراج تقديره وإخراجهم محرم عليكم . ( {[896]} )
وقوله تعالى : { أفتؤمنون ببعض الكتاب }( {[897]} ) يعني التوراة ، والذي آمنوا به فداء الأسارى ، والذي كفروا به قتل بعضهم بعضاً وإخراجهم من ديارهم ، وهذا توبيخ لهم ، وبيان لقبح فعلهم .
وروي أن عبد الله بن سلام( {[898]} ) مرّ على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه ، فقال له ابن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن .
ثم توعدهم عز وجل : والخزي : الفضيحة والعقوبة ، يقال : خزي الرجل يخرى خزياً إذا ذل من الفضحية ، وخزي يخزى خزاية إذا ذل واستحيا( {[899]} ) . . .
واختلف ما المراد بالخزي ها هنا فقيل : القصاص فيمن قتل ، وقيل ضرب الجزية عليهم غابر الدهر ، وقيل قتل قريظة ، وإجلاء النضير( {[900]} ) ، وقيل : الخزي الذي توعد به الأمة وهو غلبة العدو . والدنيا مأخوذة من دنا يدنو ، وأصل الياء فيها واو ولكن أبدلت فرقاً بين الأسماء والصفات( {[901]} ) .
وأشد العذاب الخلود في جهنم ، وقرأ الحسن وابن هرمز «تردون » بتاء .
وقوله تعالى : { وما الله بغافل } الآية ، فرأ نافع وابن كثير «يعملون » بياء على ذكر الغائب( {[902]} ) فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والآية واعظة لهم بالمعنى( {[903]} ) إذ الله تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص( {[904]} ) ، وقرأ الباقون بتاء على الخطاب المحتمل أن يكون في سرد الآية( {[905]} ) وهو الأظهر ، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد( {[906]} ) ، يريد : وبما يجري مجراه .
والعطف بثم في قوله : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } للترتيب الرتبي أي وقع ذلك كله وأنتم هؤلاء تقتلون ، والخطاب لليهود الحاضرين في وقت نزول القرآن بقرينة قوله : { هؤلاء } لأن الإشارة لا تكون إلى غائب وذلك نحو قولهم : ها أنا ذا وها أنتم أولاء ، فليست زيادة اسم الإشارة إلا لتعيين مفاد الضمير وهذا استعمال عربي يختص غالباً بمقام التعجب من حال المخاطب وذلك لأن أصل الإخبار أن يكون بين المخبر والمخبر عنه تخالف في المفهوم واتحاد في الصدق في الخارج وهوالمعروف عند المناطقة بحمل الاشتقاق نحو أنت صادق ، ولذلك لزم اختلاف المسند والمسند إليه بالجمود والاشتقاق غالباً أو الاتحاد في الاشتقاق ولا تجدهما جامدين إلا بتأويل .
ثم إن العرب قد تقصد من الإخبار معنى مصادفة المتكلم الشيءَ عينَ شيء يبحث عنه في نفسه نحو « أنت أبا جهل » قاله له ابن مسعود يوم بدر إذ وجده مثخناً بالجراح صريعاً ومصادفة المخاطب ذلك في اعتقاد المتكلم نحو « قال أنا يوسف وهذا أخي » فإذا أرادوا ذلك توسعوا في طريقة الإخبار فمن أجل ذلك صح أن يقال : « أنا ذلك » إذا كانت الإشارة إلى متقرر في ذهن السامع وهو لا يعلم أنه عين المسند إليه كقول خفاف بن نَدبة :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ** * تَأَمَّلْ خُفَافاً إنني أنا ذلكا{[144]} *
…………………… . . *** فتوسموني إنني أنا ذالكم{[145]} *
وأوسع منه عندهم نحوُ قول أبي النجم :
ثم إذا أرادوا العناية بتحقيق هذا الاتحاد جاءوا « بها التنبيهِ » فقالوا : هَا أنا ذا يقوله المتكلم لمن قد يشك أنه هو نحو قول الشاعر :
* إن الفتى مَن يقول ها أنا ذا{[146]} *
فإذا كان السبب الذي صحح الإخبار معلوماً اقتصَر المتكلم على ذلك وإلا أَتْبَع مثلَ ذلك التركيب بجملة تدل على الحال التي اقتضت ذلك الإخبار ولهم في ذلك مراتب : الأولى { ثم أنتم هؤلاء تقتلون } ، الثانية : { ها أنتم أولاء تحبونهم } [ آل عمران : 119 ] . ومنه « ها أنا ذا لديكما » قاله أمية بن أبي الصلت . الثالثة { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } [ النساء : 109 ] ويستفاد معنى التعجب في أكثر مواقعه من القرينة كما تقول لمن وجدته حاضراً وكنت لا تترقب حضوره ها أنت ذا ، أو من الجملة المذكورة بعده إذا كان مفادها عجيباً كما رأيت في الأمثلة .
والأظهر أن يكون الضمير واسم الإشارة مبتدأ وخبراً والجملة بعدهما حالاً ، وقيل : هي مستأنفة لبيان منشأ التعجب ، وقيل : الجملة هي الخبر واسم الإشارة منادى معترض ومنعه سيبويه ، وقيل : اسم الإشارة منصوب على الاختصاص وهذا ضعيف .
وعلى الخلاف في موقع الجملة اختلف فيما لو أتى بعدها أنت ذَا ونحوِه بمفرد فقيل يكون منصوباً على الحال وقيل : مرفوعاً على الخبر ولم يسمع من العرب إلا مثال أنشده النحاة وهو قوله :
* أبا حَكَم ها أنتَ نَجْمٌ مُجَالد *
ولأجل ذلك جاء ابن مالك في خطبة « التسهيل » بقوله : وها أنا ساع فيما انتدبت إليه ، وجاء ابن هشام في خطبة « المغني » بقوله : وها أنا مبيح بما أسررته .
واختلف النحاة أيضاً في أن وقوع الضمير بعد ( ها ) التنبيه هل يتعين أن يعقبه اسم الإشارة فقال في « التسهيل » هو غالب لا لازم وقال ابن هشام هولازم صرح به في « حواشي التسهيل » بنقل الدماميني في « الحواشي المصرية » في الخطبة وفي الهاء المفردة . وقال الرضى إن دخول ( ها ) التنبيه في الحقيقة إنما هو على اسم الإشارة على ما هو المعروف في قولهم هذا وإنما يفصل بينها وبين اسم الإشارة بفاصل فمنه الضمير المرفوع المنفصل كما رأيت ومنه القسم نحو قول الشاعر من « شواهد الرضي » :
تَعَلَّمَنْ هَا لعمرُ الله ذا قسما *** فاقدر بذرعك فانظر أين تنسلك
وشذ بغير ذلك نحو قول النابغة :
ها إنّ تَاعذرة إن لا تكن نفعت *** فإن صاحبها قد تاه في البلد
وقوله : { تقتلون } حال أو خبر . وعبر بالمضارع لقصد الدلالة على التجدد وأن ذلك من شأنكم وكذلك قوله : { وتخرجون فريقاً منكم } .
وجعل في « الكشاف » المقصود بالخطابات كلها في هذه الآية مراداً به أسلاف الحاضرين وجعل قوله : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون } مع إشعاره بمغايرة المشار إليهم للذين وجه إليهم الخطاب مراداً منه مغايرة تنزيلية لتغير صفات المخاطب الواحد وذلك تكلف ساقه إليه محبة جعل الخطابات في هذه الآية موافقة للخطابات التي في الآي قبلها ، وقد علمت أنه غير لازم وأن المغايرة مقصودة هنا وقد استقامت فلا داعي إلى التكلف .
وقد أشارت هذه الآية إلى ما حدث بين اليهود من التخاذل وإهمال ما أمرتهم به شريعتهم{[147]} والأظهر أن المقصود يهود قريظة والنضير وقَيْنُقَاعَ . وأراد من ذلك بخاصة ما حدث بينهم في حروب بُعَاث القائمة بين الأوس والخزرج وذلك أنه لما تَقَاتَل الأوسُ والخزرجُ اعتزل اليهودُ الفريقين زمناً طويلاً والأوسُ مغلوبون في سائر أيام القتال فدبر الأوس أن يخرجوا يسعون لمحالفة قُريظة والنَّضِير فلما علم الخزرج توعدوا اليهود إن فعلوا ذلك فقالوا لهم : إنا لا نحالف الأوس ولا نحالفكم فطلب الخزرجُ على اليهود رهائنَ أربعين غلاماً من غلمان قريظة والنضير فسلموهم لهم . ثم إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي أطمع قومه أن يتحولوا لقريظة والنضير لحسن أرضهم ونخلهم وأرسل إلى قريظة والنضير يقول لهم : إما أن تخلوا لنا دياركم وإما أن نقتل الرهائن فخشي القوم على رهائنهم واستشاروا كعب بن أسيد القُرظي فقال لهم : « يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان فما هي إلا ليلة يصيب أحدكم فيها امرأتَه حتى يولد له مثلُ أحدهم » فلما أجابت قريظة والنضير عمراً بأنهم يمنعون ديارهم عدا عمروٌ على الغلمان فقتلهم فلذلك تحالفت قريظة والنضير مع الأوس فسعى الخزرج في محالفة بني قينقاع من اليهود وبذلك نشأ قتال بين فِرق اليهود وكان بينهم يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين فكانت اليهود تتقاتل وتجلي المغلوبين من ديارهم وتأسرهم ، ثم لمَّا ارتفعت الحرب جمعوا مالاً وفدوا به أسرى اليهود الواقعين في أسر أحلاف أحد الفريقين من الأوس أو الخزرج فعيرت العربُ اليهودَ بذلك وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم فقالوا : قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أُمرنا أن نفدي الأسرى فذلك قوله تعالى : { وإن يأتوكم أُسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم } .
الواو في قوله : { وإن يأتوكم أُسارى } يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله : { تقتلون أنفسكم وتخرجون } فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو وإن لم يتقدم في ذِكر ما أُخذ عليهم العهدُ مَا يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج الناس من ديارهم كان في جملة المنهيات . ولك أن تجعل الواو للحال من قوله : { وتخرجون فريقاً } أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم . وكيفما قدرت فقوله : { وهو محرم عليكم إخراجهم } جملة حالية من قوله : { يأتوكم } إما حال من معطوف وإما حال من حال إذ ليس فداء الأسير بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فحمل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرماً وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم ، فجملة { وهو محرم عليكم إخراجهم } حالية من ضمير { تفادوهم } . وصُدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله : { وتخرجون فريقاً منكم } وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله : { ولا تخرجون أنفسكم } .
وفي قوله : { وهو محرم عليكم إخراجهم } تشنيع وتبليد لهم إذ توهموا القُربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء ؟ .
وعندي أن في الآية دلالةً على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتياً بواجب ولا بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القُربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية .
والأُسارى بضم الهمزة جمع أسير حَمْلاً له على كَسْلان كما حملوا كسلان على أسير فقالوا : كَسْلَى هذا مذهب سيبويه لأن قياس جمعه أَسرى كقتلى . وقيل : هو جمع نادر وليس مبنياً على حمل ، كما قالوا قدَامى جمع قديم . وقيل : هو جمعُ جمعٍ فالأسير يجمع على أسرى ثم يجمع أسرى على أُسارى وهو أظهر . والأسير فَعِيل بمعنى مفعول من أَسَرَه إذا أوثقه وهو فعل مشتق من الاسم الجامد فإن الإسَار هو السَّيْر من الجِلد الذي يوثق به المَسجون والمَوثوق وكانوا يُوثِقون المغلوبين في الحرب بسيور من الجِلد ، قال النابغة :
لم يبقَ غيرُ طريدٍ غيرِ مُنْفَلِت *** أو موثَقٍ في حِباله القدِّ مسلوبِ
وقرأ الجمهور ( أُسارى ) ، وقرأه حمزة ( أَسْرَى ) .
وقرأ نافع والكسائي وعاصم ويعقوب { تفادوهم } بصيغة المفاعلة المستعملة في المبالغة في الفداء أي تفدوهم فداء حريصاً ، فاستعمال فادى هنا مسلوب المفاضلة مثل عافاه الله وقول امرىء القيس :
فعادَى عداء بين ثور ونعجة *** دراكاً فلم ينضح بماء فيغسل
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وخلف { تفدوهم } بفتح الفوقية وإسكان الفاء دون ألف بعد الفاء .
والمحرم الممنوع ومادة حرم في كلام العرب للمنع ، والحرام الممنوع منعاً شديداً أو الممنوع منعاً من قبل الدين ، ولذلك قالوا : الأشهر الحرم وشهر المحرم .
وقوله : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم ، وسمي الاتباع والإعراض إيماناً وكفراً على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به ، وإنما وقع { تؤمنون } في حيز الإنكار تنبيهاً على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين .
والفاء عاطفة على { تقتلون أنفسكم } ، وما عطف عليه ، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدراً دل عليه الاستفهام وسيأتي تحقيق ذلك قريباً عند قوله { أفكلما جاءكم رسول } [ البقرة : 86 ] .
والفاء في قوله : { فما جزاء من يفعل ذلك منكم } فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ . وقال عبد الحكيم : إن الجملة معترضة والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظاً ، وأما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيداً لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكماً جديداً وأما الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم .
والخزي بالكسر ذل في النفس طارىء عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهواسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع فمصدره بفتح الخاء ، والمراد بالخزي ما لحق باليهود بعدتلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيبر وما قدر لهم من الذل بين الأمم .
وقرأ الجمهور { يُردون } و { يعملون } بياء الغيبة ، وقرأ عاصم في رواية عنه { تردون } بتاء الخطاب نظراً إلى معنى ( من ) وإلى قوله ( منكم ) ، وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب : ( يعملون ) بياء الغيبة وقرأه الجمهور بتاء الخطاب .
وقد دلت هذه الآية على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة .
وقد وقع اسم الإشارة وهو قوله : { أولئك الذين اشتروا } موقع نظيره في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .