فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِيقٗا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمۡ تَظَٰهَرُونَ عَلَيۡهِم بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَإِن يَأۡتُوكُمۡ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (85)

{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسرى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله عما تعملون } .

{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان } أي أنتم هؤلاء الحاضرون المشاهدون تخالفون ما أخذه الله عليكم في التوراة ، وأصل المظاهرة المعاونة مشتقة من الظهر ، لأن بعضهم يقوي بعضا فيكون له كالظهر ، ومنه قوله تعالى { وكان الكافر على ربه ظهيرا } وقوله { والملائكة بعد ذلك ظهير } والمعنى تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم ، والإثم في الأصل الذنب وجمعه آثام ويطلق على الفعل الذي يستحق به صاحبه الذم واللوم ، وقيل هو ما تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب ، والآية تحتمل ما ذكرنا وتحتمل أن يتجوز به عما يوجب الإثم إقامة للسبب مقام المسبب ، والعدوان التجاوز في الظلم وهو مصدر كالكفران والغفران ، والمشهور ضم فائه وفيه لغة بالكسر .

{ وإن يأتوكم } أي الفريق الذي تخرجونه من دياره وقت الحرب حال كونه { أسارى } جمع أسير وهو من يؤخذ قهرا ، فعيل بمعنى مفعول ، أو جمع أسرى وهو جمع أسير كجرحى وجريح ، وبه قرأ حمزة ، قال أبو حاتم ولا يجوز أسارى ، وقال الزجاج يقال أسارى كما قال سكارى ، قال ابن فارس يقال في جمع أسير أسرى وأسارى انتهى ، فالعجب من أبي حاتم حيث ينكر ما ثبت في التنزيل وقرأ به الجمهور ، والأسير مشتق من السير وهو القد الذي يشد به المحمل فسمي أسيرا ، لأنه يشد ثم سمى كل أخيذ أسير وإن لم يشد { تفادوهم } أي بالمال وهو استنقاذهم بالشراء وقيل تبادلوهم وهو مفاداة الأسير ، والفداء هو ما يؤخذ من الأسير ليفك به أسره ، يقال فداه وفاداه أعطى فداءه وأنقذه { وهو } ضمير الشأن ويسمى ضمير القصة ولا يرجع إلا على ما بعده وفائدته الدلالة على تعظيم المخبر عنه وتفخيمه { محرم عليكم إخراجهم } قال المفسرون كان الله سبحانه قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة أربعة عهود : ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة وفداء أسراهم فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء فوبخهم الله على ذلك قوله :

{ أفتؤمنون ببعض الكتب وتكفرون ببعض } أي إن وجدتموهم في يد غيركم فديتموهم وأنتم تقتلون بأيديكم فكان إيمانهم الفداء وكفرهم قتل بعضهم بعضا فذمهم على مناقضة أفعالهم لأنهم أتوا ببعض ما يوجب عليهم وتركوا البعض ، وهذا هو مناط التوبيخ حسب ما يفيده ترتيب النظم الكريم لأن من قضية الإيمان ببعضه الإيمان بالباقي لكون الكل من عند الله داخلا في الميثاق { فما جزاء من يفعل ذلك منكم } يا معشر اليهود { إلا خزي في الحياة الدنيا } .

الخزي الهوان والعذاب ، وقد وقع هذا الجزاء الذي وعد الله به الملاعبين اليهود موفرا فصاروا في خزي عظيم بما الصق بهم من الذل والمهانة بالأسر والقتل وضرب الجزية والجلاء ، فكان خزي بني قريظة القتل والسبي ، وخزي ابن النضير الإجلاء والنفي من منازلهم إلى أريحا وأذرعات من أرض الشام .

{ ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } يعني النار لأنهم جاؤوا بذنب شديد ومعصية فظيعة ، وهذا أخبار من الله سبحانه بأن اليهود لا يزالون في عذاب موفر لازم بالجزية والصغار والذلة والمهانة { وما الله بغافل عما تعملون } فيه وعيد وتهديد عظيم .