التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِيقٗا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمۡ تَظَٰهَرُونَ عَلَيۡهِم بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَإِن يَأۡتُوكُمۡ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (85)

لكنهم بعد ذلك تنكروا لما أقروا من ميثاق وما ألزموا به أنفسهم من عهد ألا يسفكون الدماء ولا يخرجوا أحدا من داره ، فقال سبحانه في ذلك : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من دياركم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسرى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم } .

{ أنتم } في محل رفع مبتدأ . { هؤلاء } اسم إشارة في محل رفع خبر المبتدأ . و { تقتلون } جملة فعلية في محل نصب حال من " أولاء " وقيل : { أنتم } مبتدأ ، و { تقتلون } في محل رفع خبره . و { هؤلاء } ، في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره : أعني{[91]} والمعني أنكم أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله عليكم من العهد في التوراة بعد القتل والتهجير من الديار . وغير ذلك مما ذكرته الآية . فيقتل بعضكم بعضا وتخرجون فريقا منكم من ديارهم بغير حق ، وأنتم تتعاونون عليه بالباطل والظلم . وقصة ذلك أن بني إسرائيل في المدينة وهو بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة كانوا فريقين متناحرين متحاربين . فريق منهم مع الأوس وفريق آخر مع الخزرج ، وكلا الأوس والخزرج من العرب المشركين الذين لا كتاب لهم ولا ملة إلا عبادة الأوثان . وقد كانت الحرب سجالا بين الأوس والخزرج ؛ لأسباب تقوم على العصبية والأنانية والجهالة . وكان أحد الفريقين من يهود ممالئا للأوس ضد الخزرج يناصرونهم ويظاهرونهم عليهم . والفريق الآخر كان ممالئا للخزرج ضد الأوس ، فإذا نشب بين الأوس والخزرج قتال انحاز كل من طرفي يهود نحو حليفه من العرب المشركين " الأوس والخزرج " وقاتلوا إلى جانبهم ضد إخوانهم من بني إسرائيل فقتلوا منهم فريقا وأخرجوا منهم فريقا آخر من ديارهم وهم يتظاهرون عليهم بالإثم والعدوان . والتظاهر التعاون ، والعدوان تجاوز الحد أو الإفراط في الظلم . وبذلك كان كل فريق من اليهود يظاهر حليفه من العرب بما يكون في ذلك من قهر للفريق الآخر من اليهود وإخراج لبعضهم من بلاده .

قوله : { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم } . { أسارى } مفردها أسير وهو من الإسار بمعنى القيد الذي يكون وثاقا لمن يقع في الأسر . و { تفادوهم } من المفاداة أو الفداء وهو أن يطلب من الأسير دفع فدية مالية لتسريحه . كان اليهودي الذي يحارب إلى جانب حلفائه من العرب المشركين إذا وقع في أسر خصومه من اليهود الآخرين ، فإنهم يضطرونه لدفع فدية من المال ؛ كيما يسرحوه مع أن التوراة تحرم أن يقتل اليهود بعضهم بعضا ، أو أن يخرجوا أحدا من دياره أو يظاهروا عليه خصومهم من الآخرين . وبعبارة أخرى : فإن التوراة تفرض على اليهود من خلال هذه الآية أربعة فروض هي : ألا يقتل بعضهم بعضا ، وألا يخرج بعضهم بعضا من دياره ، وألا يظاهروا غيرهم على بعضهم ، وأن يفادوا أسراهم بالمال إذا وقعوا في أسر خصومهم . وبعبارة أخرى ، ثمة عهود أربعة أخذت عليهم : ترك القتل ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة ، وفداء أسراهم . وهذه عهود أربعة أخذت عليهم : ترك القتل ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة ، وفداء أسراهم . وهذه عهود قد واثق الله بني إسرائيل بها في التوراة ، لكنهم قد نقضوا كل هذه العهود باستثناء المفاداة التي تحققت على نحو يقوم على التحيل والتناقض . فهم قاتلوا إخوانهم في الملة ، وأخرجوهم من ديارهم ، وظاهروا المشركين عبدة الأوثان عليهم ، ثم فادوهم بالمال . لا جرم أن ذلك التواء وتناقض يكشف عن سلوك فاسد مضطرب . سلوك فيه مخالفة صريحة لما جاء في التوراة ، فكيف يتطابق الإخراج والإيقاع في الأسر مع المفاداة بالمال لفكاكهم من الأسر ؟ ! إن ذلك نكول صريح عن شرع الله . أو هو ضرب من تقسيم الملة إلى ما يؤخذ وما يترك ! .

أما قوله : { وهو محرم عليكم إخراجهم } الواو للحال والجملة الإسمية بعدها في محل نصب حال . هو ضمير في محل رفع مبتدأ . { محرم } خبره ،

{ إخراجهم } بدل من الضمير المبتدأ . وقيل في إعراب هذه الجملة غير ذلك{[92]} .

أما قوله : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } في ذلك استفهام ينطوي على توبيخ ونكير لفعلة هؤلاء الشنيعة . وهي فعلة تحتسب في عداد الكفر الصريح المكشوف . وهو إيمان هؤلاء القوم ببعض ما جاء في الكتاب والعمل به ، ثم كفرهم ببعض الآخر وإعراضهم عنه .

والذي يلفت النظر هنا أمران يكشفان عن حقيقة الكفر في غاية من الوضوح الحاسم والذي لا يقبل المداهنة أو اللين .

الأمر الأول : أن إعراض هؤلاء القوم عن بعض ما جاء في كتابهم وانثناءهم عن العمل به لهو الكفر نفسه . حتى إن مجرد التصديق الباهت الذي يظل حبيس النفس ليس له أدنى وزن أو أهمية في ميزان الله تعالى ، فلا خير في تصديق إذا لم يكن مقترنا بالعمل تمارسه الجوارح ؛ وذلك ليعلم الإنسان المؤمن في ضوء هذا التصور الفاصل أنه لا يتاح له أن يعبر حومة المؤمنين الصادقين إلا إذا كان عاملا بما رسخ في ذهنه من مدركات وتصورات .

الأمر الثاني : أن الإيمان والعمل ببعض ما جاء في الكتاب لا يغني عن الإيمان والعمل به جميعا . فإن قضية الإيمان لا تتجزأ ، والإيمان حقيقة متكاملة متسقة لا تعرف التجزئة والانقسام ، وأي إيمان أو تصديق بجزء من العقيدة لا يمحو عن المرء عار الكفر والجحد بالعقيدة كلها . وكذلك فإن العمل ببعض ما جاء في الكتاب ثم الإعراض عن العمل ببعضه الآخر لا يرد عن المرء وصمة الكفر التي كتب الله أنها تدفع المدبرين عن صراط الله ومنهجه الواضح المتسق . هؤلاء الذين يُقبلون على الله بوجه ثم يُقبلون على غيره بوجه آخر . أو الذين يفرقون في العبادة ليجعلوا جزاء منها لله وأجزاء أخرى لغير الله من الأرباب المنتشرة في الأرض .

لذلك فإن الله ينكر على هؤلاء الشاردين في توبيخ غليظ جنوحهم إلى غيره من مختلف الأرباب . وفي ذلك إعلان حاسم يكشف عن حقيقة الإيمان في مفهومه الصحيح المتسق وهو أنه لا مساغ للتفريط بجزء من الدين ، وأن العمل بجزء آخر منه لا يرد عن المرء وصمة الكفر الشنيع .

قوله : { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون } ذلك نذير من الله شديد لأولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، وهم الذين يجترئون من الدين بعضه فيعملون به ، ثم يعرضون عن بعضه الآخر . أو الذين يصدقون ببعض ما في الدين من قضايا أو أركان أو معان ، ثم يرتابون ببعض الآخر ، مجاراة لما تهواه أنفسهم أو اكتفاء بما يروق لهم من بعض المعاني أو الأحكام . ومثل هذا الإيمان المنتقص لا يغني عن حقيقة الإيمان الكبرى كالذي بينا آنفا . وبذلك فإن الله يتهدد هذا الصنف من الناس بوخيم العاقبة التي تؤول إلى شطرين من العذاب . أولهما : الخزي والعار في هذه الدنيا يصم الله بهما من يعرضون عن بعض ما جاء في منهجه سبحانه ؛ لأن من أعرض عن بعض ما في المنهج كان كمن أعرض عن المنهج كله . لكن صور الخزي والعار في هذه الدنيا يندرج في خصمها كل أصناف الذلة والصغار والهوان ، أو الفقر والجنوح والمعاناة وكل مظاهر المضانكة التي يذوق خلالها الشاردون عن منهج الله ألوان البلاء والنصب والمرارة .

وثانيهما : هو أشد فظاعة وعتوا وهو العذاب يوم القيامة . العذاب الذي يشم كل ظواهر الشدة والهول ، والذي يدنو دونه كل عذاب من أعذبه الدنيا وما فيها من أرزاء وأهوال تمر سراعا . إن العذاب يوم القيامة لا يتصوره الخيال ، ولا يستيطع الحس أن يستشعره ؛ وذلك للكيفية البالغة في الإذهال والتي لا قبل للخلائق بها . إنه العذاب الحارق اللاهب الذي تتسجر فيه جسوم العصاة والأشرار الذين يشردون عن منهج الله ليلاقوا في النار من سوء المصير وفادح الويل ما لا يتصوره عقل بشر ولا يطيقه مقدور كائن كيفما كان ! ! .

ذلك الذي يتوعد الله به عباده الناكبين عن صراطه الشاردين عن منهجه وهم جميعا بين يديه وفي قبضته فيعلم ما في صدورهم من أسرار وأستار إن خفيت على الكائنات جميعا فإنها لا تخفى عليه سبحانه .


[91]:- البيان للانباري جـ 1 ص 103 والدر المصون جـ 1 ص 475- 477.
[92]:- البيان للأنباري جـ 1 ص 105.