فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِيقٗا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمۡ تَظَٰهَرُونَ عَلَيۡهِم بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَإِن يَأۡتُوكُمۡ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (85)

وقوله : { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء } أي : أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله عليكم في التوراة ، فتقتلون أنفسكم إلى آخر الآية . وقيل { إن هؤلاء } منصوب بإضمار أعني ، ويمكن أن يقال منصوب بالذم ، أو الاختصاص ، أي : أذمّ ، أو أخص . وقال القتيبي : إن التقدير : يا هؤلاء قال النحاس : هذا خطأ على قول سيبويه لا يجوز . وقال الزجاج هؤلاء بمعنى الذين ، أي : ثم أنتم الذين تقتلون . وقيل هؤلاء مبتدأ ، وأنتم خبره مقدّم ، وقرأ الزهري : { تقتلون } مشدّداً ، فمن جعل قوله : { أَنتُمْ هؤلاء } مبتدأ ، وخبراً جعل قوله : { تَقْتُلُونَ } بياناً ؛ لأن معنى قوله : { أَنتُمْ هؤلاء } أنهم على حالة كحالة أسلافهم من نقض الميثاق ، ومن جعل هؤلاء منادى ، أو منصوباً بما ذكرنا جعل الخبر تقتلون وما بعده . وقوله : { تظاهرون } بالتشديد ، وأصله تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء لقربها منها في المخرج ، وهي : قراءة أهل مكة .

وقرأ أهل الكوفة : «تظاهرون » مخففاً بحذف التاء الثانية ، لدلالة الأولى عليها . وأصل المظاهرة المعاونة ، مشتقة من الظهر ؛ لأن بعضهم يقوي بعضاً ، فيكون له كالظهر ، ومنه قول الشاعر :

تظاهرتُم من كل أوب ووجهة *** على واحد لا زلْتُمْ قِرنَ واحدِ

ومنه قوله تعالى : { وَكَانَ الكافر على رَبّهِ ظَهِيراً } [ الفرقان : 55 ] وقوله : { وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] . و { أسارى } حال . قال أبو عبيد ، وكان أبو عمرو يقول : ما صار في أيديهم ، فهو أسارى ، وما جاء مستأسراً ، فهو الأسرى . ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو ، وإنما هذا كما تقول سكارى ، وسكرى . وقد قرأ حمزة : «أسرى » . وقرأ الباقون : { أسارى } ، والأسرى جمع أسير ، كالقتلى جمع قتيل ، والجرحى جمع جريح . قال أبو حاتم : ولا يجوز أسارى . وقال الزجاج : يقال أسارى كما يقال سكارى . وقال ابن فارس : يقال في جمع أسير : أسرى وأسارى . انتهى . فالعجب من أبي حاتم حيث ينكر ما ثبت في التنزيل . وقرأ به الجمهور ، والأسير مشتق من السير ، وهو : القيد الذي يشدّ به المحمل ، فسمي أسيراً ؛ لأنه يشدّ وثاقه ، والعرب تقول : قد أسَرَقته أي : شدّه ، ثم سمي كل أخيذ أسيراً ، وإن لم يؤخذ . وقوله : { تفادوهم } جواب الشرط ، وهي : قراءة حمزة ، ونافع ، والكسائي ، وقرأ الباقون : «تفدوهم » . والفداء : هو : ما يؤخد من الأسير ليفكّ به أسره ، يقال : فداه ، وفاداه : إذا أعطاه فداءه . قال الشاعر :

قفى فادى أسيرك إن قومي *** وقومك ما أرى لهم اجتماعاً

وقوله : { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } الضمير للشأن وقيل مبهم تفسره الجملة التي بعده ، وزعم الفراء أن هذا الضمير عماد ، واعترض عليه بأن العماد لا يكون في أوّل الكلام . و { إِخْرَاجُهُمْ } مرتفع بقوله : { مُحَرَّمٌ } سادّ مسدّ الخبر ، وقيل بل مرتفع بالابتداء ، ومحرّم خبره . قال المفسرون : كان الله سبحانه قد أخذ على بني إسرائيل أربعة عهود : ترك القتل ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة ، وفداء أسراهم ، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء ، فوبخهم الله على ذلك . بقوله : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } . والخزي : الهوان . قال الجوهري : والخزي بالكسر يخزي خزياً : إذا ذلّ وهان ، وقد وقع هذا الجزاء الذي وعد الله به الملاعين اليهود موفراً ، فصاروا في خزي عظيم ، بما ألصق بهم من الذلّ ، والمهانة بالقتل ، والأسر ، وضرب الجزية ، والجلاء ، وإنما ردهم الله يوم القيامة إلى أشدّ العذاب ؛ لأنهم جاءوا بذنب شديد ، ومعصية فظيعة . وقد قرأ الجمهور " يردّون " بالياء التحتية . وقرأ الحسن بالفوقية على الخطاب . وقد تقدّم تفسير قوله : { وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } وكذلك تفسير { أُولَئِكَ الذين اشتروا } .

/خ86