الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِيقٗا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمۡ تَظَٰهَرُونَ عَلَيۡهِم بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَإِن يَأۡتُوكُمۡ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (85)

وقوله : { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ }[ البقرة :84 ] قيل الخطابُ يُرادُ به من سلف منهم ، والمعنى : وأنتم شهود ، أي : حُضور أخْذ الميثاق والإِقرار ، وقيل : المراد : من كان في مدة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : وأنتم شهداء أي : بيِّنةَ أن الميثاق أخذ على أسلافكم فمنْ بعدهم منْكُمْ .

وقوله تعالى : { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ . . . } [ البقرة :85 ] .

{ هؤلاء } دالَّةٌ على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردًّا إلى الأسلاف ، قيل : تقدير الكلام يا هؤلاءِ ، فحذف حرف النداء ، ولا يحسن حذفه عند سيبوَيْه ، مع المبهمات ، وقال الأستاذ الأَجَلُّ أبو الحسن بْن أحمد شيخُنا : { هؤلاء } رفع بالابتداء ، و{ أَنتُمْ } : خبر ، و{ تَقْتُلُونَ } حال بها ، تَمَّ المعنى وهي المقصود .

( ص ) قال الشيخ أبو حَيَّان : ما نقله ابن عطية عن شيخه أبي الحسن بن البَادْش من جعله { هؤلاء } مبتدأً ، و{ أَنتُمْ } خبر مقدَّم ، لا أدري ما العلَّة في ذلك ؟ وفي عدوله عن جعل ( أَنتُمْ ) مبتدأ ، و( هؤلاء ) الخبر إلى عكسه ؟ انتهى .

( ت ) قيل : العلة في ذلك دخولُ هاء التنبيه عليه ، لاختصاصها بأول الكلام ، ويدلُّ على ذلك قولهم : هَا أَنَذَا قَائِماً ، ولم يقولوا : أَنَا هَذَا قَائِماً ، قال معناه ابنُ هِشَامٍ ، فقَائِماً في المثال المتقدِّم نصب على الحال ، انتهى .

وهذه الآية خطابٌ لقُرَيْظة ، والنضير ، وبني قَيْنُقَاع ، وذلك أن النَّضِيرَ ، وقُرَيْظة ، حَالَفَت الأوسَ ، وبني قَيْنُقَاع حالفتِ الخزرج ، فكانوا إِذا وقعتِ الحربُ بين بني قَيْلَة ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها ، فقتل بعضهم بعضاً ، وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم ، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعا لحكم التوراة ، وهم قد خالَفُوها بالقتَالِ ، والإِخراج ، والديارُ : مباني الإِقامة . وقال الخليلُ : مَحَلَّةِ القَوْمِ دَارُهُمْ .

ومعنى { تظاهرون }[ البقرة :85 ] تتعاونون ، و { العُدْوَانِ } تجاوز الحدُودِ ، والظلم ، وقرأ حمزة { أسارى تُفْادُوهُمْ }[ البقرة :85 ] ، و { أسارى } : جمع أَسِيرٍ ، مأخوذ من الأَسْر ، وهو الشَّدُّ ، ثم كثر استعماله حتى لزم ، وإن لم يكنْ ثَمَّ رَبْطٌ ولا شَدٌّ ، وأَسِيرٌ : فَعِيلِ : بمعنى مفعول ، { تفادوهم } : معناه في اللغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئاً ، وقَالَ الثَّعْلَبِيُّ : يقال : فدى إِذا أعطى مالاً ، وأخذ رجلاً ، وفادى إِذا أعطى رجلاً ، وأخذ رجُلاً ، فتُفْدُوهم معناه بالمالِ ، وتُفَادُوهم ، أي : مفاداة الأسير بالأسير ، انتهى .

( ت ) وفي الحديث من قوْل العَبَّاس رضي اللَّه عنه : " فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي ، وعَقِيلاً ، وظاهره لا فَرْق بينهما .

وقوله تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ . . . } [ البقرة :85 ] والذي آمنوا به ، فداءُ الأسارى ، والذي كَفَرُوا به قتْلُ بعضهم بعضاً ، وإِخراجُهُمْ من ديارهم ، وهذا توبيخٌ لهم ، وبيانٌ لقبح فعلهم ، والخِزْيُ الفضيحة والعقوبة ، فقيل : خزيهم ضرْبُ الجزية عليهم غابَر الدهر ، وقيل : قتل قريظة ، وإِجلاءُ النضير ، وقيل : الخزْيُ الذي تتوعَّد به الأمة من الناسِ هو غلبةُ العدوِّ ، و{ الدنيا } : مأخوذةٌ من دَنَا يدْنُو ، وأصل الياء فيها واوٌ ، ولكن أبدلتْ فرقاً بين الأسماء والصفات ، { وأَشَدّ العَذَابِ } الخلودُ في جهنم .

وقوله تعالى : { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ }[ البقرة :85 ] .

قرأ نافعٌ وابن كَثِير بياءٍ على ذِكْر الغائب ، فالخطاب بالآية لأمة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، والآية واعظةٌ لهم بالمعنى ، إذ اللَّه تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص ، وقرأ الباقون بناء على الخطاب لمن تقدَّم ذكره في الآية قبل هذا وهو قوله : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب . . . } [ البقرة :85 ] الآية ، وهو الأظهر ، ويحتمل أن يكون لأمة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، فقد رُوِيَ أنَّ عمر بن الخَطَّاب رضي اللَّه عنه قال : " إِنَّ بنِي إِسرائيل قد مضَوْا ، وأنتم الذين تُعْنَوْنَ بهذا يا أمة محمَّد ، يريد هذا وما يجري مجراه .