قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً رجلاً } لأنه تفسير للمثل { فيه شركاء متشاكسون } متنازعون مختلفون سيئة أخلاقهم يقال : رجل ، شكس شرس إذا كان سيء الخلق مخالفاً للناس لا يرضى بالإنصاف { ورجلاً سلماً لرجل } قرأ أهل مكة ، والبصرة : { سالماً } بالألف خالصاً له ، لا شريك ولا منازع له فيه . وقرأ الآخرون : { سلماً } بفتح اللام من غير ألف ، وهو الذي لا ينازع فيه من قولهم هو لك سلم ، أي : لا منازع لك فيه . { هل يستويان مثلاً } هذا مثل ضربه الله عز وجل للكافر الذي يعبد آلهة شتى ، والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله الواحد ، وهذا استفهام إنكار ، أي : لا يستويان . ثم قال : { الحمد لله } أي : لله الحمد كله دون غيره من المعبودين . { بل أكثرهم لا يعلمون } ما يصيرون إليه ، والمراد بالأكثر الكل .
( ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل ، هل يستويان مثلاً ? الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) . .
يضرب الله المثل للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضاً فيه ، وهو بينهم موزع ؛ ولكل منهم فيه توجيه ، ولكل منهم عليه تكليف ؛ وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق ؛ ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه ! وعبد يملكه سيد واحد ، وهو يعلم ما يطلبه منه ، ويكلفه به ، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح . .
إنهما لا يستويان . فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين . وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه ، ووضوح الطريق . والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل لا يستقر على حال ولا يرضي واحداً منهم فضلاً على أن يرضي الجميع !
وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال . فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى ، لأن بصره أبداً معلق بنجم واحد على الأفق فلا يلتوي به الطريق . ولأنه يعرف مصدراً واحداً للحياة والقوة والرزق ، ومصدراً واحداً للنفع والضر ، ومصدراً واحداً للمنح والمنع ، فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد ، يستمد منه وحده ، ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته . ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره . ويخدم سيداً واحداً يعرف ماذا يرضيه فيفعله وماذا يغضبه فيتقيه . . وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد ، فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء . .
ويعقب على هذا المثل الناطق الموحي ، بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة
القول في تأويل قوله تعالى : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : مثّل الله مثلاً للكافر بالله الذي يعبد آلهة شَتّى ، ويطيع جماعة من الشياطين ، والمؤمن الذي لا يعبُد إلا الله الواحد ، يقول تعالى ذكره : ضرب الله مثلاً لهذا الكافر رجلاً فيه شركاء . يقول : هو بين جماعة مالكين متشاكسين ، يعني مختلفين متنازعين ، سيئة أخلاقهم ، من قولهم : رجل شَكس : إذا كان سيىء الخلق ، وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه ومِلْكه فيه ، ورجلاً سَلَما لرجل ، يقول : ورجلاً خُلُوصا لرجل يعني المؤمن الموحد الذي أخلص عبادته لله ، لا يعبد غيره ولا يدين لشيء سواه بالربوبية .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَرَجُلاً سَلَما فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والبصرة : «وَرَجُلاً سالِمَا » وتأوّلوه بمعنى : رجلاً خالصا لرجل . وقد رُوي ذلك أيضا عن ابن عباس .
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن جرير بن حازم ، عن حميد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قرأها : «سالِمَا لِرَجُلٍ » يعني بالألف ، وقال : ليس فيه لأحد شيء .
وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة : وَرَجُلاً سَلَما لِرَجُلٍ بمعنى : صلحا .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب وذلك أن السّلَم مصدر من قول القائل : سَلِيم فلان لله سَلَما بمعنى : خَلَص له خُلوصا ، تقول العرب : ربح فلان في تجارته رِبْحا ورَبَحا ، وسَلِم سِلْما وسَلَما وسلامة ، وأن السالم من صفة الرجل ، وسلم مصدر من ذلك . وأما الذي توهمه من رغب من قراءة ذلك سَلَما من أن معناه صلحا ، فلا وجه للصلح في هذا الموضع ، لأن الذي تقدم من صفة الاَخر ، إنما تقدّم بالخبر عن اشتراك جماعة فيه دون الخبر عن حربه بشيء من الأشياء ، فالواجب أن يكون الخبر عن مخالفه بخلوصه لواحد لا شريك له ، ولا موضع للخبر عن الحرب والصلح في هذا الموضع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : «رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سالِما لِرَجُلٍ » قال : هذا مثل إله الباطل وإله الحقّ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ قال : هذا المشرك تتنازعه الشياطين ، لا يقرّبه بعضهم لبعض «وَرَجُلاً سالِما لِرَجُلٍ » قال : هو المؤمن أخلص الدعوة والعبادة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ . . . إلى قوله : بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قال : الشركاء المتشاكسون : الرجل الذي يعبد آلهة شتى كلّ قوم يعبدون إلها يرضونه ويكفرون بما سواه من الاَلهة ، فضرب الله هذا المثل لهم ، وضرب لنفسه مثلاً ، يقول : رجلا سَلِمَ لرجل يقول : يعبدون إلها واحدا لا يختلفون فيه .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ قال : مثل لأوثانهم التي كانوا يعبدون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : «ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتشاكِسُونَ وَرَجُلاً سالِما لِرَجُلٍ » قال : أرأيت الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون كلهم سيىء الخلق ، ليس منهم واحد إلا تلقاه آخذا بطرف من مال لاستخدامه أسواؤُهم ، والذي لا يملكه إلا واحد ، فإنما هذا مثل ضربه الله لهؤلاء الذين يعبدون الاَلهة ، وجعلوا لها في أعناقهم حقوقا ، فضربه الله مثلاً لهم ، وللذي يعبده وحده هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ . وفي قوله : «وَرَجُلاً سالِمَا لِرَجُلٍ » يقول : ليس معه شرك .
وقوله : هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً يقول تعالى ذكره : هل يستوي مثلُ هذا الذي يخدمُ جماعة شركاء سيئة أخلاقهم مختلفة فيه لخدمته مع منازعته شركاءه فيه والذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه منازع إذا أطاعه عرف له موضع طاعته وأكرمه ، وإذا أخطأ صفح له عن خطئه ، يقول : فأيّ هذين أحسن حالاً وأروح جسما وأقلّ تعبا ونصبا ؟ كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس هَلْ يَسْتِويانِ مَثَلاً الحَمْدَ لِلّهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يقول : من اختُلف فيه خير ، أم من لم يُخْتلَف فيه ؟ .
وقوله : الحَمْدِ لِلّهِ يقول : الشكر الكامل ، والحمدُ التامّ لله وحده دون كلّ معبود سواه . وقوله : بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يقول جل ثناؤه : وما يستوي هذا المشترك فيه ، والذي هو منفرد ملكه لواحد ، بل أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون أنهما لا يستويان ، فهم بجهلهم بذلك يعبدون آلهة شتى من دون الله . وقيل : هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً ولم يقل : مثلين لأنهما كلاهما ضُربا مثلاً واحدا ، فجرى المثل بالتوحيد ، كما قال جلّ ثناؤه : وَجَعَلْنا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمّهُ آيَةً إذ كان معناهما واحدا في الاَية . والله أعلم .
لما ذكر عز وجل أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل مجملاً جاء بعد ذلك بمثل في أهم الأمور وأعظمها خطراً وهو التوحيد ، فمثل تعالى الكافر والعابد للأوثان والشياطين لرجال عدة في أخلاقهم شكاسة ونقص وعدم مسامحة ، فهم لذلك يعذبون ذلك العبد بأنهم يتضايقون في أوقاتهم ويضايقون العبد في كثرة العمل ، فهو أبداً ناصب ، فكذلك عابد الأوثان الذي يعتقد أن ضره ونفعه عندها هو معذب الفكر بها وبحراسة حاله منها ، ومتى أرضى صنماً منها بالذبح له في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر ، فهو أبداً تعب في ضلال ، وكذلك هو المصانع للناس الممتحن بخدمة الملوك ، ومثل تعالى المؤمن بالله وحده بعبد لرجل واحد يكلفه شغله فهو يعمله على تؤدته وقد ساس مولاه ، فالمولى يغفر زلته ويشكره على إعادة عمله .
وقوله : { ضرب } مأخوذ من الضريب الذي هو الشبيه ، ومنه قولهم : هذا ضرب هذا ، أي شبهه . و : { مثلاً } مفعول ب { ضرب } ، و : { رجلاً } نصب على البدل . قال الكسائي : وإن شئت على إسقاط الخافض . أي مثلاً لرجل أو في رجل ، وفي هذا نظر ، و : { متشاكسون } معناه : لا سمح في أخلاقهم بل فيها لجاج ومتابعة ومحادقة ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
خلقت شكساً للأعادي مشكسا . . .
من شاء من حر الجحيم استقبسا . . .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «سالماً » ، على اسم الفاعل بمعنى سلم من الشركة فيه . قال أبو عمرو معناه : خالصاً ، وهذه بالألف قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والجحدري والزهري والحسن بخلاف عنه . وقرأ الباقون : «سَلَماً » ، بفتح السين اللام ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة وأبي رجاء وطلحة والحسن بخلاف . وقرأ سعيد بن جبير : «سِلْماً » ، بكسر السين وسكون اللام ، وهما مصدران وصف بهما الرجل بمعنى خالصة وأمر قد سلم له
ثم وقف الكفار بقوله : { هل يستويان مثلاً } ونصب { مثلاً } على التمييز ، وهذا توقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا يستويان ، فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد جاوبوا ، فقال : { الحمد لله } أي على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم . ثم قال تعالى : { بل أكثرهم لا يعلمون } فأضرب عن مقدر محذوف يقتضيه المعنى ، تقديره : الحمد لله على ظهور الحجة ، وأن الأمر ليس كما يقولون { بل أكثرهم لا يعلمون } . و «أكثر » في هذه الآية على بابها ، لأنا وجدنا الأقل علم أمر التوحيد وتكلم به ورفض الأصنام كورقة وزيد وقس .