قوله تعالى : { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً } الآية . قال أهل التفسير : بعث عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض ، فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أهلكك حب اليهود ؟ فقال : يا رسول الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ، إنما بعثت إليك لتستغفر لي ، وسأله أن يكفنه في قميصه ويصلي عليه . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، ثنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يحيى بن بكير ، حدثني الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد بن عباس ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه ، فقلت : يا رسول الله أتصلي على ابن أبي بن سلول وقد قال يوم كذا وكذا : كذا وكذا ؟ أعدد عليه قوله ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أخر عني يا عمر فلما أكثرت عليه قال : إني خيرت فاخترت ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها ، قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة : { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره } ، إلى قوله : { وهم فاسقون } . قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم " . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا علي بن عبد الله ، ثنا سفيان قال عمرو : سمعت جابر بن عبد الله قال : في فيه من ريقه وألبسه قميصه . فالله أعلم وكان كسا عباسا قميصا . قال سفيان : وقال هارون : وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال ابن عبد الله : يا رسول الله ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك . وروي عن جابر قال : لما كان يوم بدر أتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه ، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه عبد الله . قال ابن عيينة : كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال صلى الله عليه وسلم " وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله شيئا والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه " ، وروى أنه أسلم به ألف من قومه لما رأوه يتبرك بقميص النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } ولا تقف عليه ، ولا تتول دفنه ، من قولهم : قام فلان بأمر فلان : إذا كفاه أمره .
{ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } ، فما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قبض .
وكما أمر اللّه رسوله - [ ص ] - بألا يسمح للمتخلفين في ساعة العسرة أن يعودوا فينتظموا في الصفوف ، كذلك أمره ألا يخلع عليهم أي ظلال من ظلال التكريم :
( ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره . إنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون ) .
ولقد ذكر المفسرون حوادث خاصة عنتها هذه الآية . ولكن دلالة الآية أعم من الحوادث الخاصة . فهي تقرر أصلاً من أصول التقدير في نظام الجماعة المكافحة في سبيل العقيدة ، هو عدم التسامح في منح مظاهر التكريم لمن يؤثرون الراحة المسترخية على الكفاح الشاق ؛ وعدم المجاملة في تقدير منازل الأفراد في الصف . ومقياس هذا التقدير هو الصبر والثبات والقوة والإصرار والعزيمة التي لا تسترخي ولا تلين .
والنص يعلل هذا النهي في موضعه هنا ( إنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون )وهو تعليل خاص بعدم الصلاة أو قيام الرسول - [ ص ] - على قبر منافق . . ولكن القاعدة - كما ذكرنا - أوسع من المناسبة الخاصة . فالصلاة والقيام تكريم . والجماعة المسلمة يجب ألا تبذل هذا التكريم لمن يتخلف عن الصف في ساعة الجهاد ، لتبقى له قيمته ، ولتظل قيم الرجال منوطة بما يبذلون في سبيل اللّه ، وبما يصبرون على البذل ، ويثبتون على الجهد ، ويخلصون أنفسهم وأموالهم للّه لا يتخلفون بهما في ساعة الشدة ، ثم يعودون في الصف مكرمين !
لا التكريم الظاهر ينالونه في أعين الجماعة ، ولا التكريم الباطن ينالونه في عالم الضمير :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تصلّ يا محمد على أحد مات من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك أبدا . وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ يقول : ولا تتولّ دفنه وتقبره من قول القائل : قام فلان بأمر فلان : إذا كفاه أمره . إنّهُمْ كَفَرُوا باللّهِ يقول إنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله ، وماتوا وهم خارجون من الإسلام مفارقون أمر الله ونهيه . وقد ذكر أن هذه الآية نزلت حين صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى وسفيان بن وكيع ، وسوّار بن عبد الله ، قالوا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، قال : جاء ابن عبد الله بن أبيّ ابن سلولَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات أبوه ، فقال : أعطني قميصك حتى أكفنه فيه ، وصلّ عليه واستغفر له فأعطاه قميصه ، وقال : «إذَا فَرَغْتُمْ فَآذِنُونِي » فلما أراد أن يصلي عليه ، جذبه عمر وقال : أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين ؟ فقال : «بَلْ خَيّرَنِي وقالَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفرْ لَهُمْ » قال : فصلي عليه . قال : فأنزل الله تبارك وتعالى : وَلا تُصَلّ على أحَدٍ منْهُمْ ماتَ أبَدا وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ قال : فترك الصلاة عليهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عبيد الله ، عن ابن عمر ، قال : لما توفي عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، جاء ابنه عبد الله إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه . ثم سأله أن يصلي عليه . فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأخذ بثوب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال ابنَ سلول أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّمَا خَيّرَنِي رَبّي ، فقالَ : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ وسأزِيدُ على سَبْعِينَ » . فقال : إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : وَلا تُصَلّ على أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ .
حدثنا سوار بن عبد الله العنبريّ ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن مجالد ، قال : ثني عامر ، عن جابر بن عبد الله ، أن رأس المنافقين مات بالمدينة ، فأوصى أن يصلّى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وأن يكفن في قميصه . فكفنه في قميصه ، وصلى عليه ، وقام على قبره ، فأنزل الله تبارك وتعالى : وَلا تُصَلّ على أحَدٍ منْهُمْ ماتَ أبَدا وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ .
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سلمة ، عن يزيد الرّقاشيّ ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي علي عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال : وَلا تُصَلّ على أحَدٍ منْهُمْ ماتَ أبَدا وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن جابر ، قال : جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ وقد أدخل حفرته ، فأخرجه ، فوضعه على ركبتيه وألبسه قميصه وتفل عليه من ريقه ، والله أعلم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهريّ ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ، قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : لما توفي عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه ، فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة ، تحوّلت حتى قمت في صدره ، فقلت : يا رسول الله ، أتصلي على عدوّ الله عبد الله بن أبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا ، أعدّد أيامه ، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يتبسمّ . حتى إذا أكثرت عليه ، قال : «اخّرْ عَنّيِ يا عُمَرُ إنّي خُيّرْتُ فاخْتَرْتُ ، وَقَدْ قِيلَ لي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لهم فلو أني أعلم أنين إن زدت على السبعين غفر له لزدت » قال ثم صلى عليه ومشى معه فقام على حتى نزلت هانان الاَيتان أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ، ولا قام على قبره حتى قبضه الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، قال : لما مات عبد الله بن أبيّ ، أتي ابنه عبد الله بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله قميصه ، فأعطاه ، فكفّن فيه أباه .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن عباس ، عن عمر بن الخطاب ، قال : لما مات عبد الله بن أبيّ ، فذكر مثل حديث ابن حميد ، عن سلمة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تُصَلّ على أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا ، وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ . . . الآية ، قال : بعث عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض ليأتيه ، فنهاه عن ذلك عمر ، فأتاه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل عليه قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «أهْلَكَكَ حُبّ اليَهُودِ » . قال : فقال : يا نبيّ الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ، ولكن بعثت إليك لتستغفر لي وسأله قميصه أن يكفن فيه ، فأعطاه إياه ، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات ، فكفن في قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونفث في جلده ودلاّه في قبره . فأنزل الله تبارك وتعالى : وَلا تُصَلّ على أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا . . . الآية . قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كلم في ذلك ، فقال : «وَما يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي مِنَ اللّهِ أوْ رَبّي وَصَلاتي عَلَيْهِ ؟ وإنّي لاَءَرْجُو أنْ يُسْلِمَ بِهِ ألْفٌ مِنْ قَوْمِهِ » .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : أرسل عبد الله بن أبيّ ابن سلول وهو مريض إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما دخل عليه ، قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أهْلَكَكَ حُبّ يَهُودَ » . قال : يا رسول الله ، إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني . ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه أن يكفن فيه ، فأعطاه إياه وصلى عليه ، وقام على قبره ، فأنزل الله تعالى ذكره : وَلا تُصَلّ على أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا ، وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تصلّ يا محمد على أحد مات من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك أبدا. "وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ "يقول: ولا تتولّ دفنه وتقبره من قول القائل: قام فلان بأمر فلان: إذا كفاه أمره. "إنّهُمْ كَفَرُوا باللّهِ" يقول إنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله، وماتوا وهم خارجون من الإسلام مفارقون أمر الله ونهيه. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت حين صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ... حدثنا محمد بن المثنى وسفيان بن وكيع، وسوّار بن عبد الله، قالوا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، قال: جاء ابن عبد الله بن أبيّ ابن سلولَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات أبوه، فقال: أعطني قميصك حتى أكفنه فيه، وصلّ عليه واستغفر له فأعطاه قميصه، وقال: «إذَا فَرَغْتُمْ فَآذِنُونِي» فلما أراد أن يصلي عليه، جذبه عمر وقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: «بَلْ خَيّرَنِي وقالَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفرْ لَهُمْ» قال: فصلى عليه. قال: فأنزل الله تبارك وتعالى: "وَلا تُصَلّ على أحَدٍ منْهُمْ ماتَ أبَدا وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ" قال: فترك الصلاة عليهم...
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما توفي عبد الله بن أبيّ ابن سلول، دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة، تحوّلت حتى قمت في صدره، فقلت: يا رسول الله، أتصلي على عدوّ الله عبد الله بن أبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا، أعدّد أيامه، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يتبسمّ. حتى إذا أكثرت عليه، قال: «اخّرْ عَنّيِ يا عُمَرُ إنّي خُيّرْتُ فاخْتَرْتُ، وَقَدْ قِيلَ لي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لهم فلو أني أعلم أنين إن زدت على السبعين غفر له لزدت» قال ثم صلى عليه ومشى معه فقام على حتى نزلت هاتان الآيتان "ولا تصل على أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا..." فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه الله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... سماهم فسقة، واسم الكفرة أقبح وأذم، لكنهم جمعوا مع الكفر أنواع الفسق ليعلم أن اعتقادهم الكفر والمذهب الذي يذهبون إليه؛ إنما اعتقدوا لهواهم؛ إذ الفسق مما يحرمه كل مذهب ودين، وكل يأنف عن الفسق، ويتبرأ منه، ولا كذلك الكفر؛ لأن كل من آمن بشيء كفر بضده. وأصل الفسق هو الخروج عن الأمر، والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ليس بعد التَّبَرِّي التولي، ولا بعدَ الفراق الوفاق، ولا بعد الحجبة قربة. مضى لهم من الزمان ما كان لأملهم فيه فسحة، أو لرجائهم مساغ، أو لظنِّهم تحقيق، ولكن سَبَقَ لهم القضاءُ بالشقاوة، ونعوذ بالله مِنْ سوءِ الخاتمة...
اعلم أنه تعالى أمر رسوله بأن يسعى في تخذيلهم وإهانتهم وإذلالهم، فالذي سبق ذكره في الآية الأولى وهو منعهم من الخروج معه إلى الغزوات سبب قوي من أسباب إذلالهم وإهانتهم، وهذا الذي ذكره في هذه الآية، وهو منع الرسول من أن يصلي على من مات منهم، سبب آخر قوي في إذلالهم وتخذيلهم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يَبْرَأ من المنافقين، وألا يصلي على أحد منهم إذا مات، وألا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله، وماتوا عليه. وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أُبَيّ بن سلول رأس المنافقين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أتم سبحانه الكلام في الاستغفار وتعليله إلى أن ختم بإهانة المتخلفين، وكان القتل المسبب عن الجهاد سبباً لترك الصلاة على الشهيد تشريفاً له، جعل الموت الواقع في القعود المرضي به عن الجهاد سبباً لترك الصلاة إهانة لذلك القاعد، فقال عاطفاً على ما أفهمت جملة: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} الآية، من نحو: فلا تستغفر لهم أصلاً: {ولا تصلِّ} أي الصلاة التي شرعت لتشريف المصلى عليه والشفاعة فيه {على أحد منهم} ثم وصف الأحد بقوله: {مات} وقوله {أبداً} متعلق بالنهي لا بالموت {ولا تقم على قبره} أي لأن قيامك رحمة وهم غير أهل لها، ثم علل ذلك بقوله: {إنهم كفروا بالله} أي الذي له العظمة كلها ولما كان الموت على الكفر مانعاً من الصلاة على الميت بجميع معانيها لم يحتج إلى التأكيد بإعادة الجار فقيل -: {ورسوله} أي الذي هو أعظم الناس نعمة عليهم بما له من نصائحهم بالرسالة، والمعنى أنهم لعظم ما ارتكبوا من ذلك لم يهدهم الله فاستمروا على الضلالة حتى ماتوا على صفة من وقع النهي على الاستغفار لهم المشار إليها بقوله {والله لا يهدي القوم الفاسقين} وذلك المراد من قوله معبراً بالماضي والمعنى على المضارع تحقيقاً للخبر وأنه واقع لا محالة: {وماتوا وهم} أي والحال أنهم بضمائرهم وظواهرهم {فاسقون} أي غريقون في الفسق...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا بيان ما شرعه الله تعالى في شأن من يموت من هؤلاء المنافقين في أثر ما شرعه في شأن الأحياء منهم، وهو كسابقه خاص بمن نزلت فيهم وهم الذين ثبتت أدلة كفرهم، أو إعلامه تعالى لرسوله بحقيقة أمرهم، وفي مقدمتهم زعيمهم الأكبر الأكفر عبد الله بن أبي بن سلول والإثنى عشر الذين أرادوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال عز وجل: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} أي لا تصل أيها الرسول بعد الآن على أحد مات من هؤلاء المنافقين الذين عرفناك شأنهم صلاة الجنازة أبداً ما حييت، ولا تقف على قبره عند الدفن للدعاء له بالتثبيت، كما تقوم على قبور المؤمنين عند دفنهم، ويلزم هذا النهي عدم تشييع جنائزهم.
روى أبو داود والحاكم وصححه والبزار من حديث عثمان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: (استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل)، وقد نص الفقهاء على العمل بهذا الحديث، ولا نعرف شيئا من السنة في معنى القيام على القبر غيره، فانتظار الدفن أعم منه، وأدخل فيه بعضهم زيارة القبور وهو غير ظاهر، فقد ورد في زيارة القبور أحاديث متعددة بلفظ الزيارة لا بلفظ القيام.
وقد علل تعالى هذا النهي ببيان مستأنف فقال: {إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون}، أي إنهم كفروا وماتوا وهم فاسقون، أي وهم في حال خروجهم السابق من حظيرة الإيمان، كما تقدم في تفسير مثله من هذا السياق [والجملة الحالية تدل على وقوع مضمونها قبل حدوث العامل فيها]، والنهي يتعلق بالحال والاستقبال، ولا سيما إذا أكد بكلمة أبدا التي هي نص في معنى الاستقبال، ولكن قال في تعليل النهي: (وماتوا) وهو فعل ماض، والقاعدة في التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي أن يكون لتأكيده وتحققه حتى كأنه وقع بالفعل، أي وسيموتون وهم متلبسون بكفرهم، ولعل فيه إشارة إلى ما روي في سبب نزول الآية وهو صلاته صلوات الله عليه على عبد الله بن أبيّ، فيكون المعنى ومات من مات منهم على كفره، وسيموت الآخرون كذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكما أمر اللّه رسوله -[صلى الله عليه وسلم]- بألا يسمح للمتخلفين في ساعة العسرة أن يعودوا فينتظموا في الصفوف، كذلك أمره ألا يخلع عليهم أي ظلال من ظلال التكريم: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره. إنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون). ولقد ذكر المفسرون حوادث خاصة عنتها هذه الآية. ولكن دلالة الآية أعم من الحوادث الخاصة. فهي تقرر أصلاً من أصول التقدير في نظام الجماعة المكافحة في سبيل العقيدة، هو عدم التسامح في منح مظاهر التكريم لمن يؤثرون الراحة المسترخية على الكفاح الشاق؛ وعدم المجاملة في تقدير منازل الأفراد في الصف. ومقياس هذا التقدير هو الصبر والثبات والقوة والإصرار والعزيمة التي لا تسترخي ولا تلين. والنص يعلل هذا النهي في موضعه هنا (إنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون) وهو تعليل خاص بعدم الصلاة أو قيام الرسول -[صلى الله عليه وسلم]- على قبر منافق.. ولكن القاعدة -كما ذكرنا- أوسع من المناسبة الخاصة. فالصلاة والقيام تكريم. والجماعة المسلمة يجب ألا تبذل هذا التكريم لمن يتخلف عن الصف في ساعة الجهاد، لتبقى له قيمته، ولتظل قيم الرجال منوطة بما يبذلون في سبيل اللّه، وبما يصبرون على البذل، ويثبتون على الجهد، ويخلصون أنفسهم وأموالهم للّه لا يتخلفون بهما في ساعة الشدة، ثم يعودون في الصف مكرمين! لا التكريم الظاهر ينالونه في أعين الجماعة، ولا التكريم الباطن ينالونه في عالم الضمير:...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وحرصا على إزالة كل لبس، وعلى تمييز المنافقين من المؤمنين تمييزا تاما، نهى الله رسوله والمؤمنين عن الصلاة عليهم بعد وفاتهم، ونهاه عن القيام على قبورهم للدعاء لهم، وبذلك بقيت هذه الميزة خاصة بأموات المؤمنين وحدهم، فقال تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون}. وقد تلقى حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء المنافقين وعرف أشخاصهم، فكان بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى هو الذي يلفت نظر المسلمين إليهم كلما مات واحد منهم، حتى لا يصلوا عليه ولا يقفوا على قبره، امتثالا لهذه الآية الكريمة، ومن أجل ذلك أطلق على حذيفة بن اليمان لقب "صاحب السر"، والسر إنما هو في هذا المقام بالخصوص. وهكذا أصبحت صلاة الجنازة قاصرة على المؤمنين يستغفر بها أحياؤهم لأمواتهم، ومما جاء في فضلها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان. قيل وما القيراطان؟ قال: أصغرهما مثل أحد) يشير إلى جبل أحد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) أخرجه أبو داود في سننه، وانفرد به. وبعدما فضح كتاب الله في هذه السورة الكريمة الأعذار المنتحلة التي كان يعتذر بها المنافقون عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، كقوله تعالى حكاية عنهم أيضا: {وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} جاءت الآيات الكريمة بالقول الفصل في بيان العذر الصحيح والعذر الباطل...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أسلوب أشدّ في مواجهة المنافقين:
بعد أن أزاح المنافقون الستار عن عدم مشاركتهم في ميدان القتال، وعلم الناس تخلفهم الصريح، وفشا سرّهم، أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه بأن يتبع أسلوباً أشدّ وأكثر صراحة ليقتلع وإِلى الأبد جذور النفاق والأفكار الشيطانية، وليعلم المنافقون بأنّهم لا محل لهم في المجتمع الإِسلامي، وكخطوة عملية في مجال تطبيق هذا الأسلوب الجديد، صدر الأمر الإِلهي (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره).
إِن هذا الأسلوب في الواقع هو نوع من الكفاح السلبي الفاعل في مواجهة المنافقين، لأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يستطع للأسباب التي ذكرناها آنفاً أن يأمر بقتل هؤلاء صراحة لتطهير المجتمع الإِسلامي منهم، أمّا هذا الأسلوب السلبي فهو مؤثر في احتقار هؤلاء وتحجيم دورهم، وتقزيمهم وطردهم من المجتمع الإِسلامي.
من المعلوم أنّ المؤمن الحقيقي محترم في الشرع الإِسلامي حيّاً وميتاً، ولهذا نرى الدين الإِسلامي الحنيف قد أصدر ضمن تشريعاته الأمر بتغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وأوجب أن يولى احتراماً كبيراً، وأن يودع التراب بمراسم خاصّة، وحتى بعد دفنه فإنّ من حقوقه أن يزور المؤمنون قبره، ويستغفروا له، ويطلبوا الرحمة له.
إنّ عدم إجراء هذه المراسم لفرد معين يعني طرده من المجتمع الإِسلامي، وإذا كان الطارد له هو النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، فإنّ الصدمة والأثر النفسي على نفسيته ووجوده سيكون شديداً جداً.
إن هذا البرنامج والأسلوب الدقيق في الواقع كان قد أعد لمقابلة منافقي ذلك العصر، ويجب أن يستفيد المسلمون من هذه الأساليب، أي أنّ هؤلاء المنافقين ما داموا يُظهرون الإِسلام، فمن الواجب عليهم أن يعاملوهم كمسلمين وإن كان باطنهم شيئاً آخر، أمّا إِذ أظهروا نفاقهم، وكشفوا اللثام عن وجوههم الحقيقية، فعندئذ يجب أن يعاملوهم كأجانب عن الإِسلام.
وفي آخر الآية يتّضح سبب هذا الأمر الإِلهي ب (أنّهم كفرو بالله ورسوله) ورغم ذلك فإنّهم لم يفكروا بالتوبة ولم يندموا على أفعالهم ليغسلوها بالتوبة، بل إنّهم بقوا على أفعالهم (وماتوا وهم كافرون).
وهنا يمكن أن يسأل أحدكم: إِنّ المنافقين إِذا كانوا حقيقة بهذا البعد عن رحمة الله، وعلى المسلمين أن لا يُظهروا أي ود أو محبّة تجاههم، فلماذا فضّلهم الله تعالى ومنحهم كل هذه القوى الاقتصادية من الأموال والأولاد؟