اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنۡهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمۡ عَلَىٰ قَبۡرِهِۦٓۖ إِنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُواْ وَهُمۡ فَٰسِقُونَ} (84)

قوله تعالى : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم } الآية .

" مِنْهُم " صفةٌ ل " أحَدٍ " ، وكذلك الجملة من قوله : " مَاتَ " ، في موضع جر أيضاً كأنه قيل : على أحدٍ منهم ميت ، ويجوزُ أن يكون " مِنْهُم " حالاً من الضَّمير في " مَاتَ " أي : مات حال كونه منهم ، أي : مُتَّصِفاً بصفة النِّفاقِ ، كقولهم : أنت مني ، يعني : على طريقتي و " أبَداً " ظرف منصوب بالنهي ، وهذا الظَّرفُ متعلق ب " أحَد " ، والتقدير : ولا تصل أبداً على أحدٍ منهم .

فصل

اعلم أنَّهُ تعالى أمر رسوله أن يُهينَهُم ، ويذلهم ، بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات ثمَّ منعه في هذه الآية من أن يُصلي على من مات منهم . روى ابنُ عبَّاسٍ : أنَّه لما اشتكى عبد الله بن أبي ابن سلول ، عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ، ويقوم على قبره ، ثمَّ إنه أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منه قميصه ، ليكفن فيه ؛ فأرسل إليه القميص الفوقاني ، فردَّه ، وطلب الذي يلي جلده ليكفَّن فيه ، فقال عمرُ : لِمَ تُعطِي قميصَك للرجس النَّجس ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنَّ قميصِي لا يُغْنِي عنهُ مِنَ اللهِ شيئاً ، ولعلَّ اللهَ أن يُدخلَ بِه ألفاً في الإسلام " وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله ؛ فلمَّا رأوه يطلبُ القميص ، ويرجو أن ينفعه ، أسلم منهم يومئذ ألفٌ .

فلمَّا مات جاء ابنُهُ يعرفه ، فقال عليه الصلاة والسلام لابنه : " صَلِّ عليْهِ واذْفِنْهُ " ، فقال : إن لم تُصل عليه يا رسول الله لم يُصَلّ عليه مسلمٌ ، فقام صلى الله عليه وسلم ، ليصلِّي عليه ؛ فجاء عمر فقام بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين القبلة ؛ لئلاَّ يصلي عليه ، فنزلت الآية وأخذ عمر بثوبه وقال : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً }{[18016]} ، وهذا يدلُّ على منقبة عظيمة من مناقب عمر ؛ وذلك لأنَّ الوَحْيَ نزل على وَفْق قوله في آيات كثيرة منها : آية أخذ الفداء عن أسارى بدر كما سبق ، ومنها : " آية تحريم الخمر " [ المائدة : 90 ] ، ومنها : " آية تحويل القبلة " [ البقرة : 142 ] ، ومنها : آية أمر النِّساء بالحجاب ، وهذه الآية ؛ فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر منصباً عالياً ، ودرجة رفيعة في الدِّين ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " لوْ لَمْ أبْعَثْ لبعثتَ يا عمر نبيّاً " {[18017]} .

قال القرطبيُّ : إن قال قَائِلٌ ، كيف قال له عمر : أتصلي عليه ، وقد نهاكَ اللهُ أنْ تُصَلِّي عليه ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم ؟ قيل له : يحتملُ أن يكون ذلك وقع له في خاطره ، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان القرآن ينزل على وفق مراده ، كما قال : وافقت ربي في ثلاث ، وجاء : في أربع ؛ فيكون هذا من ذاك . ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] الآية ، ويحتملُ أن يكون فهم ذلك من قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 113 ] فإن قيل : كيف يجوزُ أن يرغب الرسول - عليه الصلاة والسلام - في الصَّلاة عليه بعد علمه بأنه كافر وقد مات على كفره ، وأنَّ صلاة الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - تجري مجرى الإجلال والتَّعظيم وأيضاً فالصَّلاة عليه تتضمَّنُ الدُّعاء له ، وذلك محظورٌ ؛ لأنَّه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكافرِ ألبتة ، وأيضاً دفع القميص إليه يوجب إعزازه ؟ .

فالجواب : لعلَّ السَّبب فيه ، أنَّه لمَّا طلب من الرسول - عليه الصلاة والسلام - القميص الذي يمسّ جلده ، ليدفن فيه ، غلب على ظنّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - أنه آمن ؛ لأنَّ ذلك الوقت وقت توبة الفاجر ، وإيمان الكافر ، فلمَّا رأى منه إظهار الإسلام ، وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على إسلامه ، غلب على ظنِّه إسلامه ؛ فبنى على هذا الظَّن ، ورغب في الصلاة عليه ، فلمَّا نزل جبريلُ عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه ؛ امتنع من الصلاة عليه وأمَّا دفع القميص إليه ، فقيل : إن العباس عم الرسول –عليه الصلاة والسلام- لمّا أسر ببدر لم يجدوا له قميصا ، وكان رجلاً طويلاً ؛ فكساهُ عبد الله قميصه . وقيل : إنَّ المشركين قالوا له يوم الحديبيةِ : إنَّا لا ننقادُ لمحمَّدٍ ، ولكنَّا ننقاد لك ، فقال : لا ، إنَّ لي في رسول الله أسوةً حسنةً ؛ فشكر رسولُ الله له ذلك . قال ابنُ عينية : كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يدٌ فأحبَّ أن يُكافِئَهُ .

وقيل : إنَّ الله تعالى أمره أن لا يرد سائلاً ، لقوله تعالى : { وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 10 ] فلمَّا طلب القميص منه دفعه إليه ، لهذا المعنى . وقيل : إنَّ منع القميص لا يليقُ بأهل الكرم وذلك أنَّ ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ كان من الصالحين ؛ فالرسولُ أكرمه لمكان ابنه وقيل : لعلَّ اللهَ تعالى أوحى إليه ، أنَّك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك سبباً لدخول نفر من المنافقين في الإسلامِ ، فقيل لهذا الغرض ، كما روي فيما تقدَّم ، وقيل : إنَّ الرّأفة والرحمة كانت غالبةً عليه صلى الله عليه وسلم ، لقوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] فامتنع من الصَّلاة عليه ، لأمر الله تعالى ، ودفع القميص رأفة ورحمة .

واعلم أنَّ قوله { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } يحتملُ تأبيد النَّفي ، ويحتملُ نفي التأبيد والأول هو المقصودُ ؛ لأنَّ قرائن هذه الآية دالَّة على أنَّ المقصود منعه من أن يصلِّي على أحد منهم منعاً كُلِّيّاً دائماً .

ثم قال : { وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ } وفيه وجهان :

الأول : قال الزَّجَّاجُ " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له " فمنع منه ههنا . الثاني : قال الكلبي : " لا تقم بإصلاح مُهمَّات قبره ، ولا تتولّ دفنه " {[18018]} ، من قولهم : قام فلانٌ بأمر فلان ، إذا كفاه أمره ، ثمَّ إنه تعالى علَّل المنع من الصَّلاة عليه ، والقيام على قبره بقوله : { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } .

فإن قيل : الفسقُ أدْنَى حالاً من الكفر ، فلما علل بكونه كافراً ؛ فما فائدةُ وصفه بعد ذلك بالفسق ؟ .

فالجوابُ : أنَّ الكافر قد يكونُ عدلاً في دينه ، وقد يكون فَاسِقاً في دينه خبيثاً ممقوتاً عند قومه ، بالكذب ، والخداع ، والمكر ، وهذه أمورٌ مستقبحةٌ في جميع الأديان ، فالمنافقون لمَّا كانوا موصوفين بهذه الصفات ، وصفهم الله تعالى بالفسقِ بعد أن وصفهُم بالكفر ، تنبيهاً على أنَّ طريقة النِّفاق طريقة مذمُومة عند جميع العالم .

فإن قيل : قوله { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله } صريح بأنَّ ذلك النَّهي معلّلٌ بهذه العلة ، وذلك يقتضي تعليل حكم الله تعالى ، وهو محال ، فإنَّ حكم الله قديمٌ ، وهذه العلة محدثة ، وتعليل المحدث بالقديم محال .

فالجوابُ : أنَّ البحث في هذه المسألة طويل ، وظاهرُ هذه الآية يدلُّ عليه .

فصل

قال القرطبي{[18019]} : قوله تعالى : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } نصّ في الامتناع من الصلاة على الكُفَّار ، وليس فيه دليل على الصَّلاة على المؤمنين ، واختلفوا هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين ؟ فقيل : يُؤخذ ؛ لأنَّه علَّل المنع من الصَّلاة على الكُفَّار لكفرهم لقوله تعالى : { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ } ، فإذا زال وجبت الصَّلاةُ ، لقوله تعالى { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] يعني : الكفَّار ؛ فدلَّ على أنَّ غير الكفار يرونه وهم المؤمنون .

وقيل : إنَّما تؤخذ الصَّلاة من دليلٍ خارج ، وهو الأحاديث ، والإجماع . ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطابِ وتركه .

فصل

جمهورُ العلماءِ على أنَّ التكبير في الصَّلاة على المَيّت أربع تكبيرات . وقال ابنُ سيرين : كان التكبير ثلاثاً فزادُوا واحدةً ، وعن ابن مسعود ، وزيد بن أرقم ، يكبر خَمْساً وعن عليٍّ : ست تكبيرات .

فصل

قال القرطبيُّ : ولا قراءة في صلاة الجنازة في المشهور من مذهب مالكٍ . وكذا أبو حنيفة والثوري ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا صلَّيْتُم على المَيِّت فأخْلِصُوا له الدُّعاءِ " {[18020]} وذهب الشافعيُّ ، وأحمدُ ، وإسحاقُ ، ومحمدُ بنُ سلمة ، وأشهب ، وداوود : إلى أنه يقرأ بالفاتحة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا صلاةَ لِمَنْ لا يَقْرَأ بفَاتِحَةِ الكتابِ " {[18021]} .

والسُّنَّةُ أن يقفَ الإمامُ عند رأسِ الرجل ، وعند عجيزةِ المرْأةِ .


[18016]:أخرجه البخاري (8/184) كتاب التفسير: باب استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ... حديث (4670) ومسلم (4/1865) كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل عمر رضي الله عنه حديث (25/2400) من حديث ابن عمر. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/475-476) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل".
[18017]:أخرجه الترمذي (5/578) كتاب المناقب: باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه حديث (3686) بلفظ: لو كان نبي بعدي لكان عمر بن الخطاب وقال الترمذي: حسن غريب.
[18018]:ذكره الرازي في "تفسيره" (16/122).
[18019]:ينظر: تفسير القرطبي 8/140.
[18020]:أخرجه أبو داود (3199) وابن ماجه (1497) والبيهقي (4/40) وابن حبان (755-موارد) من حديث أبي هريرة.
[18021]:تقدم.