الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنۡهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمۡ عَلَىٰ قَبۡرِهِۦٓۖ إِنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُواْ وَهُمۡ فَٰسِقُونَ} (84)

فيه إحدى عشرة مسألة :

الأولى - روي أن هذه الآية نزلت في شأن عبدالله بن أبي سلول وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه . ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما . وتظاهرت الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه ، وأن الآية نزلت بعد ذلك . وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه وتلا عليه " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " الآية ، فأنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه . والروايات الثابتة على خلاف هذا ، ففي البخاري عن ابن عباس قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف ، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من [ براءة ] " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " ونحوه عن ابن عمر ، خرجه مسلم . قال ابن عمر : لما توفي عبدالله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ، فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما خيرني الله تعالى فقال : " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة " [ التوبة : 80 ] وسأزيد على سبعين ) قال : إنه منافق . فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره " فترك الصلاة عليهم . وقال بعض العلماء : إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبدالله بن أبي بناء على الظاهر من لفظ إسلامه . ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه .

الثانية - إن قال قائل فكيف قال عمر : أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ، ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم ؟ . قيل له : يحتمل أن يكون ذلك وقع له في خاطره ، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كان القرآن ينزل على مراده ، كما قال : وافقت ربي في ثلاث . وجاء : في أربع . وقد تقدم في البقرة{[8186]} . فيكون هذا من ذلك . ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى : " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم " [ التوبة : 80 ] الآية . لا أنه كان تقدم نهي على ما دل عليه حديث البخاري ومسلم . والله أعلم . قلت : ويحتمل أن يكون فهمه من قوله تعالى : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا{[8187]} للمشركين " [ التوبة : 113 ] لأنها نزلت بمكة . وسيأتي القول فيها .

الثالثة - قوله تعالى : " استغفر لهم " الآية . بين تعالى أنه وإن استغفر لهم لم ينفعهم ذلك وإن أكثر من الاستغفار . قال القشيري : ولم يثبت ما يروي أنه قال : ( لأزيدن على السبعين ) . قلت : وهذا خلاف ما يثبت في حديث ابن عمر ( وسأزيد على سبعين ) وفي حديث ابن عباس ( لو أعلم أني زدت على السبعين يغفر لهم لزدت عليها ] . قال فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . خرجه البخاري .

الرابعة - واختلف العلماء في تأويل قوله : " استغفر لهم " هل هو إياس أو تخيير ، فقالت طائفة : المقصود به اليأس بدليل قوله تعالى : " فلن يغفر الله لهم " [ التوبة : 80 ] . وذكر السبعين وفاق جرى ، أو هو عادتهم في العبارة عن الكثرة والإغياء فإذا قال قائلهم : لا أكلمه سبعين سنة صار عندهم بمنزلة قوله . لا أكلمه أبدا . ومثله في الإغياء قوله تعالى : " في سلسلة ذرعها سبعون{[8188]} ذراعا " [ الحاقة :32 ] وقوله عليه السلام : ( من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا ) . وقالت طائفة : هو تخيير - منهم الحسن وقتاده وعروة - إن شئت استغفر لهم وإن شئت لا تستغفر . ولهذا لما أراد أن يصلي على ابن أبي قال عمر : أتصلي على عدو الله ، القائل يوم كذا كذا وكذا ؟ فقال : ( إني خيرت فاخترت ) . قالوا ثم نسخ هذا لما نزل " سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر{[8189]} لهم " [ المنافقون : 6 ] " ذلك بأنهم كفروا " [ التوبة : 80 ]أي لا يغفر الله لهم لكفرهم .

الخامسة - قوله تعالى : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " [ التوبة :113 ] الآية . وهذه الآية نزلت بمكة عند موت أبي طالب ، على ما يأتي بيانه . وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرا . وهو متقدم على هذه الآية التي فهم منها التخيير بقوله : ( إنما خيرني الله ) وهذا مشكل . فقيل : إن استغفاره لعمه إنما كان مقصوده استغفارا مرجو الإجابة حتى تحصل له المغفرة . وفي هذا الاستغفار استأذن عليه السلام ربه في أن يأذن له فيه لأمه فلم يأذن له فيه . وأما الاستغفار للمنافقين الذي خير فيه فهو استغفار لساني لا ينفع ، وغايته تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر له . والله أعلم .

السادسة - واختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبدالله ، فقيل : إنما أعطاه لأن عبدالله كان قد أعطى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصه يوم بدر . وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر - على ما تقدم - وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه ، فطلب له قميصا فما وجد له قميص يقادره إلا قميص عبدالله ، لتقاربهما في طول القامة ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا ، حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافئه بها ، وقيل : إنما أعطاه القميص إكراما لابنه وإسعافا له في طلبته وتطييبا لقلبه . والأول أصح ، خرجه البخاري عن جابر بن عبدالله قال : لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب ، فطلب{[8190]} النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا فوجدوا قميص عبدالله بن أبي يقدر عليه ، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه ؛ فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي ] كذا في بعض الروايات ( من قومي ) يريد من منافقي العرب . والصحيح أنه قال : ( رجال من قومه ) . ووقع في مغازي ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير : فأسلم وتاب لهذه الفعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من الخزرج .

السابعة - لما قال تعالى : " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " قال علماؤنا : هذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار ، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين . واختلف هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين على قولين . يؤخذ لأنه علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم لقوله تعالى : " إنهم كفروا بالله ورسوله " فإذا زال الكفر وجبت الصلاة . ويكون هذا نحو قوله تعالى : " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون{[8191]} " [ المطففين : 15 ] يعني الكفار ، فدل على أن غير الكفار يرونه وهم المؤمنون ، فذلك مثله . والله أعلم . أو تؤخذ الصلاة من دليل خارج عن الآية ، وهي الأحاديث الواردة في الباب ، والإجماع . ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطاب وتركه . روى مسلم عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه ) قال : فقمنا فصففنا{[8192]} صفين ، يعني النجاشي . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، فخرج بهم إلى المصلي وكبر أربع تكبيرات . وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين ، من أهل الكبائر كانوا أو صالحين ، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم قولا وعملا . والحمد لله . واتفق العلماء على ذلك إلا في الشهيد كما تقدم . وإلا في أهل البدع والبغاة .

الثامنة - والجمهور من العلماء على أن التكبير أربع . قال ابن سيرين : كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة . وقالت طائفة : يكبر خمسا ، وروي عن ابن مسعود وزيد بن أرقم . وعن علي : ست تكبيرات . وعن ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن زيد : ثلاث تكبيرات والمعول عليه أربع . روى الدارقطني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الملائكة صلت على آدم فكبرت عليه أربعا وقالوا هذه سنتكم يا بني آدم ) .

التاسعة - ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب مالك ، وكذلك أبو حنيفة والثوري ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة . وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن مسلمة وأشهب من علمائنا وداود إلى أنه يقرأ بالفاتحة ؛ لقوله عليه السلام : ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) حملا له على عمومه . وبما خرجه البخاري عن ابن عباس وصلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال : لتعلموا أنها سنة . وخرج النسائي من حديث أبي أمامة قال : السنة في الصلاة على الجنائز أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة ، ثم يكبر ثلاثا ، والتسليم عند الآخرة . وذكر محمد بن نصر المروزي عن أبي أمامة أيضا قال : السنة في الصلاة على الجنائز أن تكبر ، ثم تقرأ بأم القرآن ، ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم تخلص الدعاء للميت . ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى ثم يسلم . قال شيخنا أبو العباس : وهذان الحديثان صحيحان ، وهما ملحقان عند الأصوليين بالمسند . والعمل على حديث أبي أمامة أولى ؛ إذ فيه جمع بين قوله عليه السلام : ( لا صلاة ) وبين إخلاص الدعاء للميت . وقراءة الفاتحة فيها إنما هي استفتاح للدعاء . والله أعلم .

العاشرة - وسنة الإمام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة ، لما رواه أبو داود عن أنس وصلى على جنازة فقال له العلاء بن زياد : يا أبا حمزة ، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة ؟ قال : نعم . ورواه مسلم عن سمرة بن جندب قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على أم كعب ماتت وهي نفساء ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها .

الحادية عشرة - قوله تعالى : " ولا تقم على قبره " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له بالتثبيت ، على ما بيناه [ في التذكرة ] والحمد لله .


[8186]:راجع ج 2 ص 113.
[8187]:راجع ص 272 من هذا الجزء.
[8188]:راجع ج 18 ص 268 فما بعد.
[8189]:راجع ج 18 ص 128.
[8190]:في نسخ الأصل: "فنظر".
[8191]:راجع ج 19 ص 257.
[8192]:في ع: فصلينا.