{ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ } أي : ظاهرون على الأرض ، قد اجتمعوا في صعيد واحد لا عوج ولا أمت فيه ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر .
{ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } لا من ذواتهم ولا من أعمالهم ، ولا من جزاء تلك الأعمال .
{ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } أي : من هو المالك لذلك اليوم العظيم الجامع للأولين والآخرين ، أهل السماوات وأهل الأرض ، الذي انقطعت فيه الشركة في الملك ، وتقطعت الأسباب ، ولم يبق إلا الأعمال الصالحة أو السيئة ؟ الملك { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي : المنفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، فلا شريك له في شيء منها بوجه من الوجوه . { الْقَهَّارِ } لجميع المخلوقات ، الذي دانت له المخلوقات وذلت وخضعت ، خصوصًا في ذلك اليوم الذي عنت فيه الوجوه للحي القيوم ، يومئذ لا تَكَلَّمُ نفس إلا بإذنه .
و{ يَوْمَ هُم بارزون } بدل من { يَوْمَ التَّلاَقي } . و { هم بارزون } جملة اسمية ، والمضاف ظرف مستقبل وذلك جائز على الأرجح بدون تقدير .
وضمير الغيبة عائد إلى { الكافِرُونَ } من قوله : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } [ غافر : 14 ] .
وجملة { لا يَخْفَى على الله منهم شيءٌ } بيان لجملة { هُم بارزون } والمعنى : أنهم واضحة ظواهرهم وبواطنهم فإن ذلك مقتضى قولهم : { مِنْهم شَيءٌ } .
وإظهار اسم الجلالة لأن إظهاره أصْرح لبعد معاده بما عقبه من قوله : { على مَن يَشَاءُ من عِبادهِ } ، ولأن الأظهر أن ضمير { ليُنذِر } عائد إلى { مَن يَشَاء } .
ومعنى { مِنهُم } من مجموعهم ، أي من مجموع أحوالهم وشؤونهم ، ولهذا أوثر ضمير الجمع لما فيه من الإِجمال الصالح لتقدير مضاف مناسب للمقام ، وأوثر أيضاً لفظ { شَيْءٌ } لتوغله في العموم ، ولم يقل لا يخفى على الله منهم أحد ، أو لا يخفى على الله من أحدٍ شيءٌ ، أي من أجزاء جسمه ، فالمعنى : لا يخفى على الله شيء من أحوالهم ظاهرها وباطنها .
{ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار }
مقول لقول محذوف ، وحذف القول من حديث البحر . والتقدير : يقول الله لمن الملك اليوم ، ففعل القول المحذوف جملة في موضع الحال ، أو استئناف بياني جواباً عن سؤال سائل عما ذا يقع بعد بروزهم بين يدي الله .
والاستفهام إما تقريري ليشهد الطغاة من أهل المحشر على أنفسهم أنهم كانوا في الدنيا مخطئين فيما يزعمونه لأنفسهم من مُلك لأصنامهم حين يضيفون إليها التصرف في ممالك من الأرض والسماء ، مثل قول اليونان بإله البحر وإله الحرب وإله الحكمة ، وقول أقباط مصر بإله الشمس وإله الموت وإله الحكمة ، وقول العرب باختصاص بعض الأصنام ببعض القبائل مثل اللاتِ لثقيف ، وذي الخَلَصة لدوْس ، ومناةَ للأوس والخزرج . وكذلك ما يزعمونه لأنفسهم من سلطان على الناس لا يشاركهم فيه غيرهم كقول فرعون : { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] وقولِه : { أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي } [ الزخرف : 51 ] ، وتلقيب أكاسرة الفرس أنفسهم بلقب : ملك الملوك ( شاهنشاه ) ، وتلقيب ملوك الهند أنفسهم بلقب ملك الدنيا ( شاه جهان ) . ويفسر هذا المعنى ما في الحديث في صفة يوم الحشر « ثم يقول الله أنا المَلِك أين ملوك الأرض » استفهاماً مراداً منه تخويفهم من الظهور يومئذٍ ، أي أين هم اليوم لماذا لم يظهروا بعظمتهم وخيلائهم .
ويجوز أيضاً أن يكون الاستفهام كناية عن التشويق إلى ما يرد بعده من الجواب لأن الشأن أن الذي يسمع استفهاماً يترقب جوابه فيتمكن من نفسه الجوابُ عند سماعه فَضْلَ تمكُّن ، على أن حصول التشويق لا يفوت على اعتبار الاستفهام للتقرير ، وقريب منه : { وإذَا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دَعان } [ البقرة : 186 ] .
و { اليوم } المعرف باللام هو اليوم الحاضر ، وحضوره بالنسبة إلى القول المحكي أنه يقال فيه ، أي اليوم الذي وقع فيه هذا القول كما هو شأن أسماء الزمان الظروف إذا عُرِّفت باللام .
وجملة { لله الواحد القَهَّار } يجوز أن تكون من بقية القول المقدر الصادر من جانب الله تعالى بأن يصدر من ذلك الجانب استفهام ويصدر منه جوابه لأنه لما كان الاستفهام مستعملاً في التقرير أو التشويق كان من الشأن أن يتولى الناطق به الجواب عنه ، ونظيره قوله تعالى : { عَمَّ يتساءَلُون عَننِ النبإ العَظِيم } [ النبأ : 1 ، 2 ] . ويجوز أن تكون مقول قول آخر محذوف ، أي فيقول المسؤولون : { لله الواحد القهَّار } إقراراً منهم بذلك ، والتقدير : فيقول البارزون لله الواحد القهار ، فتكون معترضة .
وذكر الصفتين { الواحد القَهَّار } دون غيرهما من الصفات العُلَى لأن لمعنييهما مزيد مناسبة بقوله : { لِمَننِ المُلْكُ اليَوْمَ } حيث شوهدت دلائل الوحدانية لله وقهره جميعَ الطغاة والجبارين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر ذلك اليوم، فقال: {يوم هم بارزون} من قبورهم على ظهر الأرض مثل الأديم الممدود.
{لا يخفى على الله منهم شيء}: لا يستتر عن الله عز وجل منهم أحد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله "يَوْمَ هُمْ بارزُونَ "يعني المنذَرين الذين أرسل الله إليهم رسله لينذروهم وهم ظاهرون يعني للناظرين لا يحول بينهم وبينهم جبل ولا شجر، ولا يستر بعضهم عن بعض ساتر، ولكنهم بقاعٍ صفصف لا أَمْتَ فيه ولا عوج...
وقوله: "لا يَخْفَى على اللّهِ مِنْهُمْ" أي: ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا شَيْءٌ.
وقوله: "لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ" يعني بذلك: يقول الربّ: لمن الملك اليوم وترك ذكر «يقول» استغناء بدلالة الكلام عليه.
وقوله: "لِلّهِ الوَاحِدِ القَهّارِ" وقد ذكرنا الرواية الواردة بذلك فيما مضى قبل ومعنى الكلام: يقول الربّ: لمن السلطان اليوم؟ وذلك يوم القيامة، فيجيب نفسه فيقول: "لِلّهِ الوَاحِدِ" الذي لا مثل له ولا شبيه، "القَهّارِ" لكلّ شيء سواه بقدرته، الغالب بعزّته.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} لقد كان الملك لله الواحد القهار كل يوم، لا ذلك اليوم على الخصوص، ولكن الغافلين لا يسمعون هذا النداء إلا ذلك اليوم، فهو نبأ عما يتجدد للغافلين من كشف الأحوال حيث لا ينفهم الكشف، فنعوذ بالله الحليم الكريم من الجهل والعمى، فإنه أصل أسباب الهلاك (نفسه: 4/95)...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شيء} بيان وتقرير لبروزهم، والله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء برزوا أو لم يبرزوا، فما معناه؟ قلت: معناه أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب: أنّ الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه. قال الله تعالى: {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون} [فصلت: 22].
{لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} قيل: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يُعْصَ اللهُ فيها قط «فأوّل ما يتكلم به أن ينادي منادٍ:"لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس" الآية. فهذا يقتضي أن يكون المنادي هو المجيب.
كم عدد الصفات التي وصف بها يوم القيامة في هذه الآية، فنقول:
الصفة الأولى: كونه يوم التلاق.
الصفة الثانية: قوله {يوم هم بارزون} وفي تفسير هذا البروز وجوه:
الأول: أنهم برزوا عن بواطن القبور.
الثاني: ليس عليهم ثياب إنما هم عراة مكشوفون كما جاء في الحديث: «يحشرون عراة حفاة غرلا».
الصفة الثالثة: قوله {لا يخفى على الله منهم شيء} والمراد يوم لا يخفى على الله منهم شيء، والمقصود منه الوعيد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يومئذ يتضاءل المتكبرون، وينزوي المتجبرون، ويقف الوجود كله خاشعاً، والعباد كلهم خضعاً، ويتفرد مالك الملك الواحد القهار بالسلطان. وهو سبحانه متفرد به في كل آن. فأما في هذا اليوم فينكشف هذا للعيان، بعد انكشافه للجنان. ويعلم هذا كل منكر ويستشعره كل متكبر. وتصمت كل نأمة وتسكن كل حركة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{يَوْمَ هُم بارزون} بدل من {يَوْمَ التَّلاَقي}. و {هم بارزون} جملة اسمية، والمضاف ظرف مستقبل وذلك جائز على الأرجح بدون تقدير.
وضمير الغيبة عائد إلى {الكافِرُونَ} من قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون}.
وجملة {لا يَخْفَى على الله منهم شيءٌ} بيان لجملة {هُم بارزون} والمعنى: أنهم واضحة ظواهرهم وبواطنهم فإن ذلك مقتضى قولهم: {مِنْهم شَيءٌ}.
وإظهار اسم الجلالة لأن إظهاره أصْرح لبعد معاده بما عقبه من قوله: {على مَن يَشَاءُ من عِبادهِ} ولأن الأظهر أن ضمير {ليُنذِر} عائد إلى {مَن يَشَاء}.
ومعنى {مِنهُم} من مجموعهم، أي من مجموع أحوالهم وشؤونهم، ولهذا أوثر ضمير الجمع لما فيه من الإِجمال الصالح لتقدير مضاف مناسب للمقام، وأوثر أيضاً لفظ {شَيْءٌ} لتوغله في العموم، ولم يقل لا يخفى على الله منهم أحد، أو لا يخفى على الله من أحدٍ شيءٌ، أي من أجزاء جسمه، فالمعنى: لا يخفى على الله شيء من أحوالهم ظاهرها وباطنها.
{لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار}
مقول لقول محذوف، وحذف القول من حديث البحر. والتقدير: يقول الله لمن الملك اليوم، ففعل القول المحذوف جملة في موضع الحال، أو استئناف بياني جواباً عن سؤال سائل عماذا يقع بعد بروزهم بين يدي الله.
والاستفهام إما تقريري ليشهد الطغاة من أهل المحشر على أنفسهم أنهم كانوا في الدنيا مخطئين فيما يزعمونه لأنفسهم من مُلك لأصنامهم حين يضيفون إليها التصرف في ممالك من الأرض والسماء.
ويجوز أيضاً أن يكون الاستفهام كناية عن التشويق إلى ما يرد بعده من الجواب؛ لأن الشأن أن الذي يسمع استفهاماً يترقب جوابه فيتمكن من نفسه الجوابُ عند سماعه فَضْلَ تمكُّن، على أن حصول التشويق لا يفوت على اعتبار الاستفهام للتقرير، وقريب منه: {وإذَا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دَعان} [البقرة: 186].
و {اليوم} المعرف باللام هو اليوم الحاضر، وحضوره بالنسبة إلى القول المحكي أنه يقال فيه، أي اليوم الذي وقع فيه هذا القول كما هو شأن أسماء الزمان الظروف إذا عُرِّفت باللام.
وذكر الصفتين {الواحد القَهَّار} دون غيرهما من الصفات العُلَى؛ لأن لمعنييهما مزيد مناسبة بقوله {لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ} حيث شوهدت دلائل الوحدانية لله وقهره جميعَ الطغاة والجبارين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يأتي الجواب: (لله الواحد القهار).
مَن الذي يطرح السؤال، وَ مَن الذي يجيب عليه؟
الآية لا تتحدّث عن ذلك، والتفاسير مختلفة في هذا الصدد.
ولكن يبدو من الظاهر أنّ هذا السؤال وجوابه لا يطرحان من قبل فرد معين، بل هو سؤال يطرحه الخالق والمخلوق، الملائكة والإنسان، المؤمن والكافر، تطرحه جميع ذرات الوجود، وكلّهم يجيبون عليه بلسان حالهم، بمعنى أنّك أينما تنظر تشاهد آثار حاكميته، وأينما تدقق ترى علائم قاهريته واضحة.
فلو أصخت السمع إلى أي ذرة من ذرات الوجود، لسمعتها تقول: (لمن الملك) وفي الجواب تسمعها نفسها تقول: (لله الواحد القهّار).
في هذا اليوم أيضاً تطغى الحاكمية الإلهية على كلّ شيء، وتبسط قدرتها في كلّ الأرجاء، لكن في يوم القيامة سيكون لها ظهور وبروز من نوع جديد، فهناك لا يوجد كلام عن حكومة الجبارين، ولا نسمع ضجيج الطواغيت السكارى، ولا نرى أثراً لإبليس وجنوده وجيوشه من الإنس و الجن.