معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ} (22)

قوله تعالى : { والذين صبروا } ، على طاعة الله ، وقال ابن عباس : على أمر الله عز وجل . وقال عطاء : على المصائب والنوائب ، وقيل : عن الشهوات . وقيل : عن المعاصى . { ابتغاء وجه ربهم } ، طلب تعظيمه أن يخالفوه . { وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً } ، يعني يؤدون الزكاة . { ويدرؤون بالحسنة السيئة } ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يدفعون بالصالح من العمل السيء من العمل ، وهو معنى قوله : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ هود-114 ] . وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ، السر بالسر والعلانية بالعلانية " .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، حدثنا أبو الخير ، أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ، ثم عمل حسنة ، فانفكت عنه حلقة ، ثم عمل أخرى فانفكت أخرى ، حتى يخرج إلى الأرض " . وقال ابن كيسان : معنى الآية : يدفعون الذنب بالتوبة . وقيل : لا يكافئون الشر بالشر ، ولكن يدفعون الشر بالخير . وقال القتبي : معناه : إذا سفه عليهم حلموا ، فالسفه : السيئة ، والحلم : الحسنة . وقال قتادة : ردوا عليهم معروفا ، نظيره قوله تعالى : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } [ الفرقان-63 ] . وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا . قال عبد الله بن المبارك : هذه ثمان خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة . { أولئك لهم عقبى الدار } " ، يعني الجنة ، أي : عاقبتهم دار الثواب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ} (22)

{ وَالَّذِينَ صَبَرُوا } على المأمورات بالامتثال ، وعن المنهيات بالانكفاف عنها والبعد منها ، وعلى أقدار الله المؤلمة بعدم تسخطها .

ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر { ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة ، فإن هذا هو الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه ، طلبا لمرضاة ربه ، ورجاء للقرب منه ، والحظوة بثوابه ، وهو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان ، وأما الصبر المشترك الذي غايته التجلد ومنتهاه الفخر ، فهذا يصدر من البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، فليس هو الممدوح على الحقيقة .

{ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } بأركانها وشروطها ومكملاتها ظاهرا وباطنا ، { وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً } دخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات والنفقات المستحبة وأنهم ينفقون حيث دعت الحاجة إلى النفقة ، سرا وعلانية ، { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : من أساء إليهم بقول أو فعل ، لم يقابلوه بفعله ، بل قابلوه بالإحسان إليه .

فيعطون من حرمهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويصلون من قطعهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان ، فما ظنك بغير المسيء ؟ !

{ أُولَئِكَ } الذين وصفت صفاتهم الجليلة ومناقبهم الجميلة { لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } فسرها بقوله :

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ} (22)

جاءت صلة { والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم } وما عطف عليها وهو { وأقاموا الصلاة وأنفقوا } بصيغة الماضي لإفادة تحقق هذه الأفعال الثلاثة لهم وتمكنها من أنفسهم تنويهاً بها لأنها أصول لفضائل الأعمال .

فأما الصبر فلأنه ملاك استقامة الأعمال ومصدرها فإذا تخلق به المؤمن صدرت عنها لحسنات والفضائل بسهولة ، ولذلك قال تعالى : { إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } [ سورة العصر : 2 3 ] .

وأما الصلاة فلأنها عماد الدين وفيها ما في الصبر من الخاصية لقوله تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } وقوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ سورة البقرة : 45 ] .

وأما الإنفاق فأصله الزكاة ، وهي مقارنة للصلاة كلما ذكرت ، ولها الحظ الأوفى من اعتناء الدين بها ، ومنها النفقات والعطايا كلها ، وهي أهم الأعمال ، لأن بذل المال يشق على النفوس فكان له من الأهمية ما جعله ثانياً للصلاة .

ثم أعيد أسلوب التعبير بالمضارع في المعطوف على الصلة وهو قوله : { ويدرءون بالحسنة السيئة } لاقتضاء المقام إفادة التجدد إيماء إلى أن تجدد هذا الدرء ما يُحرص عليه لأن الناس عرضة للسيئات على تفاوت ، فوُصف لهم دواء ذلك بأن يدعوا السيّئات بالحسنات .

والقول في عطف { والذين صبروا } وفي إعادة اسم الموصول كالقول في { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } .

والصبر : من المحامد . وتقدم في قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر } في سورة البقرة ( 45 ) . والمراد الصبر على مشاق أفعال الخير ونصر الدين .

وابتغاء وجه ربهم } مفعول لأجله ل { صبروا } . والابتغاء : الطلب . ومعنى ابتغاء وجه الله ابتغاء رضاه كأنه فعل فعلاً يطلبُ به إقباله عند لقائه ، وتقدم في قوله تعالى : { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } في آخر سورة البقرة ( 272 ) .

والمعنى أنهم صبروا لأجل أن الصبر مأمور به من الله لا لغرض آخر كالرياء ليقال ما أصبره على الشدائد ولاتّقاء شماتة الأعداء .

والسر والعلانية تقدم وجه ذكرهما في قوله تعالى : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية } أواخر سورة البقرة ( 274 ) .

والدرء : الدفع والطرد . وهو هنا مستعار لإزالة أثر الشيء فيكون بعد حصول المدفُوع وقبلَ حصوله بأن يُعِدّ ما يمنع حصوله ، فيصدق ذلك بأن يُتبع السيّئة إذا صدرت منه بفعل الحسنات فإن ذلك كطرد السيئة . قال النبي : يا معاذ اتّق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمْحُها . وخاصة فيما بينه وبين ربه .

ويصدق بأن لا يقابل من فعل معه سيّئة بمثله بل يقابل ذلك بالإحسان ، قال تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } [ سورة فصلت : 34 ] بأن يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه وذلك فيما بين الأفراد وكذلك بين الجماعات إذ لم يفض إلى استمرار الضر . قال تعالى في ذلك : { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } [ سورة الأنفال : 3 ] .

ويصدق بالعدول عن فعل السيئة بعد العزم فإن ذلك العدول حسنة دَرَأت السيّئة المعزوم عليه . قال النبي عليه الصلاة والسلام : " من همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة " .

فقد جمع { يدرءون } جميعَ هذه المعاني ولهذا لم يعقب بما يقتضي أن المراد معاملة المُسيء بالإحسان كما أُتبع في قوله : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن } في سورة فصلت ( 34 ) . وكما في قوله { ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون } في سورة المؤمنون ( 96 ) .

وجملة { أولئك لهم عقبى الدار } خبر عن { الذين يوفون بعهد الله } . ودل اسم الإشارة على أن المشار إليهم جديرون بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة لأجل ما وصف به المشار إليهم من الأوصاف ، كما في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } في أول سورة البقرة ( 5 ) .

ولهم { عقبى الدار } جملة خبراً عن اسم الإشارة . وقدم المجرور على المبتدأ للدلالة على القصر ، أي لهم عقبى الدار لا للمتصفين بإضداد صفاتهم ، فهو قصر إضافي .

والعقبى : العاقبة ، وهي الشيء الذي يعقُب ، أي يقع عقب شيء آخر . وقد اشتهر استعمالها في آخرة الخير ، قال تعالى : { والعاقبة للمتقين } [ سورة القصص : 83 ] . ولذلك وقعت هنا في مقابلة ضدها في قوله : { ولهم سوء الدار } [ سورة غافر : 52 ] .

وأما قوله : { وعقبى الكافرين النار } [ سورة الرعد : 35 ] فهو مشاكلة كما سيأتي في آخر السورة عند قوله : { وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار } [ سورة الرعد : 42 ] . وانظر ما ذكرته في تفسير قوله تعالى : { ومن تكون له عاقبة الدار } في سورة القصص ( 37 ) فقد زدته بياناً .

وإضافتها إلى { الدار } من إضافة الصفة إلى الموصوف . والمعنى : لهم الدار العاقبة ، أي الحسنة .