البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ} (22)

وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ، وميثاق التكليف .

وجاءت الصلة هنا بلفظ الماضي ، وفي الموصلين قبل بلفظ المضارع في قوله : الذين يوفون ، والذين يصلون ، وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة ، لأنّ المبتدأ هنا في معنى اسم الشرط بالماضي كالمضارع في اسم الشرط ، فكذلك فيما أشبهه ، ولذلك قال النحويون : إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي ، وأن يراد به الاستقبال .

فمن المراد به المضي في الصلة { الذين قال لهم الناس } ومن المراد به الاستقبال { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع ، أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والالتباس دائماً ، وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين ، وما عطف عليهما ، لأنّ حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ، ولذلك لم تأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي ، إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها والله أعلم .

وانتصب ابتغاء قيل : على أنه مصدر في موضع الحال ، والأولى أن يكون مفعولاً لأجله أي : إنّ صبرهم هو لابتغاء وجه الله خالصاً ، لا لرجاء أن يقال : ما أصبره ، ولا مخافة أن يعاب بالجزع ، أو تشمت به الأعداء ، كما قال :

وتجلدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لا أتضعضع

ولأنّ الجزع لا طائل تحته ، أو يعلم أنه لا مرد لما فات ولا لما وقع .

والظاهر في معنى الوجه هنا جهة الله أي : الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة ، كما تقول : خرج زيد لوجه كذا .

ونبه على هاتين الخصلتين : العبادة البدنية ، والعبادة المالية ، إذ هما عمود الدين ، والصبر عليهما أعظم صبر لتكرر الصلوات ، ولتعلق النفوس بحب تحصيل المال .

ونبه على حالتي الإنفاق ، فالسر أفضل حالات إنفاق التطوع كما جاء في «السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها » والعلانية أفضل حالات إنفاق الفروض ، لأنّ الإظهار فيها أفضل .

وقال الزمخشري : مما رزقناهم من الحلال ، لأنّ الحرام لا يكون رزقاً ، ولا يسند إلى الله انتهى .

وهذا على طريق المعتزلة .

وللسلف هنا في الصبر أقوال متقاربة .

قال ابن عباس : صبروا على أمر الله .

وقال أبو عمران الجوني : صبروا على دينهم .

وقال عطاء : صبروا على الرزايا والمصائب .

وقال ابن زيد : صبروا على الطاعة وعن المعصية ، ويدرؤون يدفعون .

قال ابن زيد : الشر بالخير .

وقال قتادة : ردوا عليهم معروفاً كقوله : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلام } وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا .

وقال القتبي : إذا سفه عليهم حلموا ، وقال ابن جبير : يدفعون المنكر بالمعروف .

وقال ابن كيسان : إذا أذنبوا تابوا ، وإذا هربوا أنابوا ليدفعوا عن أنفسهم بالتوبة معرّة الذنب ، وهذا المعنى قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه .

وقيل : يدفعون بلا إله إلا الله شركهم .

وقيل : بالسلام غوائل الناس .

وقيل : من رأوا منه مكروهاً بالتي هي أحسن .

وقيل : بالصالح من العمل السيىء ، ويؤيده ما روي في الحديث أن معاذاً قال : أوصني يا رسول الله فقال : " إذا عملت سيئة فاعمل إلى جنبها حسنة تمحها السر بالسرّ والعلانية بالعلانية " وقيل العذاب : بالصدقة .

وقيل : إذا هموا بالسيئة فكروا ورجعوا عنها واستغفروا .

وهذه الأقوال كلها على سبيل المجاز .

وبالجملة لا يكافئون الشر بالشر كما قال الشاعر :

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة *** ومن إساءة أهل السوء إحساناً

وهذا بخلاف خلق الجاهلية كما قال :

جريء متى يظلم يعاقب بظلمه *** سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم

وروي أنّ هذه الآية نزلت في الأنصار ، ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات .

وعقبي الدار : عاقبة الدنيا ، وهي الجنة ، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا وموضع أهلها .

وجنات عدن بدل من عقبى الدار ، ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار الدنيا في العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم ، ويحتمل أن كون جنات خبر ابتداء محذوف .