مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ} (22)

قوله عز وجل{ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار } .

القيد السادس : قوله تعالى : { والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم } فيدخل فيه الصبر على فعل العبادات والصبر على ثقل الأمراض والمضار ، والغموم والأحزان ، والصبر على ترك المشتهيات وبالجملة الصبر على ترك المعاصي وعلى أداء الطاعات . ثم إن الإنسان قد يقدم على الصبر لوجوه : أحدها : أن يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على تحمل النوازل . وثانيها : أن يصبر لئلا يعاب بسبب الجزع . وثالثها : أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء . ورابعها : أن يصبر لعلمه بأن لا فائدة في الجزع ، فالإنسان إذا أتى بالصبر لأحد هذه الوجوه لم يكن ذلك داخلا في كمال النفس وسعادة القلب ، أما إذا صبر على البلاء لعلمه بأن ذلك البلاء قسمة حكم بها القسام العلام المنزه عن العيب والباطل والسفه ، بل لا بد أن تكون تلك القسمة مشتملة على حكمة بالغة ومصلحة راجحة ورضي بذلك ، لأنه تصرف المالك في ملكه ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملكه أو يصبر لأنه صار مستغرقا في مشاهدة المبلي ، فكان استغراقه في تجلي نور المبلي أذهله على التألم بالبلاء وهذا أعلى مقامات الصديقين ، فهذه الوجوه الثلاثة هي التي يصدق عليها أنه صبر ابتغاء وجه ربه ومعناه أنه صبر لمجرد ثوابه ، وطلب رضا الله تعالى .

واعلم أن قوله : { ابتغاء وجه ربهم } فيه دقيقة ، وهي أن العاشق إذا ضربه معشوقه ، فربما نظر العاشق لذلك الضارب لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه ، فكذلك العبد يصبر على البلاء والمحنة ، ويرضى به لاستغراقه في معرفة نور الحق وهذه دقيقة لطيفة .

القيد السابع : قوله : { وأقاموا الصلاة } .

واعلم أن الصلاة والزكاة وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى إلا أنه تعالى أفردها بالذكر تنبيها على كونها أشرف من سائر العبادات وقد سبق في هذا الكتاب تفسير إقامة الصلاة ولا يمتنع إدخال النوافل فيه أيضا .

القيد الثامن : قوله تعالى : { وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قال الحسن : المراد الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سرا وإن اتهم بترك الزكاة فالأولى أداؤها في العلانية . وقيل السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الأمام ، وقال آخرون : بل المراد الزكاة الواجبة والصدقة التي يؤتى بها على صفة التطوع فقوله : { سرا } يرجع إلى التطوع وقوله : { علانية } يرجع إلى الزكاة الواجبة .

المسألة الثانية : قالت المعتزلة إنه تعالى رغب في الإنفاق من كل ما كان رزقا ، وذلك يدل على أنه لا رزق إلا الحلال إذ لو كان الحرام رزقا لكان قد رغب تعالى في إنفاق الحرام وأنه لا يجوز .

القيد التاسع : قوله : { ويدرؤون بالحسنة السيئة } وفيه وجهان : الأول : أنهم إذا أتوا بمعصية درؤها ودفعوها بالتوبة كما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل : " « إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها » والثاني : أن المراد أنهم لا يقابلون الشر بالشر بل يقابلون الشر بالخير كما قال تعالى : { وإذا مروا باللغو مروا كراما } وعن ابن عمر رضي الله عنهما ليس الوصول من وصل ثم وصل تلك المجازاة لكنه من قطع ثم وصل وعطف على من لم يصله ، وليس الحليم من ظلم ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج ، لكن الحليم من قدر ثم عفا " . وعن الحسن : هم الذين إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا ، ويروى أن شقيق بن إبراهيم البلثمي دخل على عبد الله بن المبارك متنكرا ، فقال من أين أنت ؟ فقال : من بلخ ، فقال : وهل تعرف شقيقا قال نعم ، فقال : كيف طريقة أصحابه فقال : إذا منعوا صبروا وإن أعطوا شكروا ، فقال عبد الله : طريقة كلابنا هكذا . فقال : وكيف ينبغي أن يكون فقال الكاملون : هم الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا .

واعلم أن جملة هذه القيود التسعة هي القيود المذكورة في الشرط . أما القيود المذكورة في الجزاء فهي أربعة :

القيد الأول : قوله : { أولئك لهم عقبى الدار } أي عاقبة الدار وهي الجنة ، لأنها هي التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها . قال الواحدي : العقبى كالعاقبة ، ويجوز أن تكون مصدرا كالشورى والقربى والرجعى ، وقد يجيء مثل هذا أيضا على فعلى كالنجوى والدعوى ، وعلى فعلى كالذكرى والضيزى ، ويجوز أن يكون اسما وهو ههنا مصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى : أولئك لهم أن تعقب أعمالهم الدار التي هي الجنة .