اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ} (22)

القيد السادس : قوله تعالى : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ } .

قال ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما : " عَلى أمْرِ اللهِ " . وقال عطاء : " على المصائب " . وقيل : على الشَّهوات .

واعلم أنَّ العبد قد يصبر لوجوه :

إما أن يصبر ليقال : ما أصبره ، وما أشد قوته على تحمل النَّوائب .

وإما أن يصبر لئلا يعاب على الجزع .

وإما أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء ، وإما أن يصبر لعلمه أنَّ الجزع لا فائدة فيه .

فإذا كان أتى بالصَّبر لأحد هذه الوجوه ، لم يكن داخلاً في كمالِ النفس ، أمَّا إذا صبر على البلاء لعلمه أن البلاء قسمة القاسم الحكيم العلام المنزه عن العبث ، الباطل ، والسَّفه وأنَّ تلك القسمة مشتملةٌ على حكمةٍ بالغةٍ ، ومصلحةٍ راجحةٍ ، ورضي بذلك ؛ لأنَّه لا اعتراض على المالك في تصرُّفه في ملكه ، فهذا هو الذي يصدق عليه أنه صبر ابتغاء وجه ربه ؛ لأنه صبر لمجرَّد طلب رضوان الله .

القيد السابع : قوله تعالى : { وَأَقَامُواْ الصلاة } واعلم أنَّ الصَّلاة ، والزَّكاة ، وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى ، إلاَّ أنه تعالى أفردهما بالذِّكر تنبيهاً على كونهما أشرف سائر العبادات ، ولا يتمنع دخول النَّوافل فيه أيضاً .

القيد الثامن : قوله تعالى : { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } قال الحسنُ رضي اكلله عنه : المراد الزكاة المفروضة فِإن لم يتَّهم بتركها أدَّاهَا سرًّا ، وإن اتهم بتركها فالأولى أداؤها في العلانية . وقيل : السرُّ : ما يؤديه بنفسه ، والعلانية : ما يؤديه إلى الإمام .

وقيل : العلانية : الزكاة ، والسر : صدقة التَّطوع .

القيد التاسع : قوله تعالى : { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } قيل : إذا أتوا المعصية ، درءوها ، أو دفعوها بالحسنة .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : " يدفعون بالصَّالح من العمل السيّىء من العمل ، وهو معنى قوله تعالى : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 14 ] .

وقال صلوات الله وسلامه عليه لمعاذ بن جبلٍ رضي الله عنه : " إذا عَملْتَ سَيِّئةً فاعْمَلْ بِجَنْبهَا حَسَنةً تَمْحُهَا ، السِّرُّ بالسِّرِّ ، والعَلانيةُ بالعَلانِيَة " .

وقيل : لا تقابلوا الشَّر بالشَّر ، بل قابلوا الشَّر بالخير ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] قال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا .

قال عبدالله بن المبارك رضي الله عنه : " فهذه ثماني خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنَّة " .

واعلم أنَّ هذه القيود هي القيودُ المذكورة في الشَّرط ، وأمَّا القيودُ المذكورة في الجزاء ، فهي قوله تعالى : { أولئك لَهُمْ عقبى الدار } ، أي عاقبة الدار ، وهي الجنَّة .

قال الواحديُّ : " العُقْبَى كالعاقبة ، ويجوز أن يكون مصدراً كالشُّورى والقُربى والرُّجعى ، وقد يجيء مثل هذا أيضاً على " فَعْلَى " كالنَّجْوى والدَّعوى وعلى " فِعْلَى " كالذِّكرى والضِّيزى ، ويجوز أن يكون اسماً وهو هاهنا مصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى : أولئك لهم أن تعاقب أحوالهم الدار التي هي الجنة " .

قوله : " أؤْلئِكَ " مبتدأ ، و " عُقْبَى الدَّارِ " يجوز أن يكون مبتدأ خبره الجار قبله والجملة خبر " أوْلئِكَ " ، يجوز أن يكون " لهم " خبر " أولئك " و " عقبى " فاعل بالاستقرار .