معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } . قيل نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي ، ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي ، ألك بينة ؟ قال : لا قال : فلك يمينه ، فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إن حلف على ماله ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض ، فأنزل الله هذه الآية : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل ، أي من غير الوجه الذي أباحه الله ، وأصل الباطل الشيء الذاهب ، والأكل بالباطل أنواع : قد يكون بطريق الغصب والنهب ، وقد يكون بطريق اللهو ، كاللهو والقمار وأجرة المغني وغيرهما ، وقد يكون بطريق الرشوة والخيانة .

قوله تعالى : { وتدلوا بها إلى الحكام } . أي تلقوا أمور تلك الأموال بينكم وبين أربابها إلى الحكام ، وأصل الإدلاء : إرسال الدلو وإلقاؤه في البئر ، يقال : أدلى دلوه إذا أرسله ، ودلاه يدلوه ، إذا أخرجه قال ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة ، فيجحد المال ويخاصم فيه إلى الحاكم ، وهو يعرف أن الحق عليه وأنه آثم بمنعه ، قال مجاهد في هذه الآية : لا تخاصم وأنت ظالم ، قال الكلبي : هو أن يقيم شهادة الزور وقوله : " وتدلوا " في محل الجزم بتكرير حرف النهي ، معناه : ولا تدلوا بها إلى الحكام ، وقيل معناه : ولا تأكلوا بالباطل وتنسبونه إلى الحكام ، قال قتادة : لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم ، فإن قضاءه لا يحل حراماً ، وكان شريح القاضي يقول : إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالماً ولكن لا يسعني ! إلا أن أقضي بما يحضرني من البينة ، وإن قضائي لا يحل لك حراماً .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مالك بن أنس ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه ، فإنما أقطع له قطعة من النار " .

قوله تعالى : { لتأكلوا فريقاً } . طائفة .

قوله تعالى : { من أموال الناس بالإثم } . بالظلم ، وقال ابن عباس : باليمين الكاذبة يقطع بها مال أخيه .

قوله تعالى : { وأنتم تعلمون } . أنكم مبطلون .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

{ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

أي : ولا تأخذوا أموالكم أي : أموال غيركم ، أضافها إليهم ، لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، ويحترم ماله كما يحترم ماله ، ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة .

ولما كان أكلها نوعين : نوعا بحق ، ونوعا بباطل ، وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل ، قيده تعالى بذلك ، ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية ، أو نحو ذلك ، ويدخل فيه أيضا ، أخذها على وجه المعاوضة ، بمعاوضة محرمة ، كعقود الربا ، والقمار كلها ، فإنها من أكل المال بالباطل ، لأنه ليس في مقابلة عوض مباح ، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة ، ونحوها ، ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم ، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه ، ويدخل في ذلك أخذ الأجرة على العبادات والقربات التي لا تصح حتى يقصد بها وجه الله تعالى ، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات ، والأوقاف ، والوصايا ، لمن ليس له حق منها ، أو فوق حقه .

فكل هذا ونحوه ، من أكل المال بالباطل ، فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه ، حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع ، وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة ، غلبت حجة المحق ، وحكم له الحاكم بذلك ، فإن حكم الحاكم ، لا يبيح محرما ، ولا يحلل حراما ، إنما يحكم على نحو مما يسمع ، وإلا فحقائق الأمور باقية ، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة ، ولا شبهة ، ولا استراحة .

فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة ، وحكم له بذلك ، فإنه لا يحل له ، ويكون آكلا لمال غيره ، بالباطل والإثم ، وهو عالم بذلك . فيكون أبلغ في عقوبته ، وأشد في نكاله .

وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه ، لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى : { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا }

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

عطف جملة على جملة ، والمناسبة أن قوله : { تلك حدود الله فلا تقربوها } [ البقرة : 187 ] تحذير من الجُرأَة على مخالفة حكم الصيام بالإفطار غير المأذون فيه وهو ضرب من الأكل الحرام فعطف عليه أكل آخر محرم وهو أكل المال بالباطل ، والمشاكلة زادت المناسبةَ قوة ، وهذا من جملة عداد الأحكام المشروعة لإصلاح ما اختل من أحوالهم في الجاهلية ، ولذلك عطف على نظائره وهو مع ذلك أصل تشريع عظيم للأموال في الإسلام .

كان أكل المال بالباطل شنشنة معروفة لأهل الجاهلية بل كان أكثر أحوالهم المالية فإن اكتسابهم كان من الإغارة ومن الميسِر ، ومن غصب القوي مال الضعيف ، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام واليتامى ، ومن الغرر والمقامرة ، ومن المراباة ونحو ذلك ، وكل ذلك من الباطل الذي ليس عن طيب نفس .

والأكل حقيقته إدخال الطعام إلى المعدة من الفم وهو هنا استعارة للأخذ بقصد الانتفاع دون إرجاع ؛ لأن ذلك الأخذ يشبه الأَكل من جميع جهاته ، ولذلك لا يطلق على إحراق مال الغير اسم الأكل ولا يطلق على القرض والوديعة اسم الأكل ، وليس الأكل هنا استعارة تمثيلية ؛ إذ لا مناسبة بين هيئة آخذ مال غيره لنفسه بقصد عدم إرجاعه وهيئة الأكل كما لا يخفى .

والأموال جمع مال ونُعرِّفه بأنه « ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيَّات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلاً بكدح » ، فلا يعد الهواء مالاً ، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالاً ، ولا التراب مالاً ، ولا كهوف الجبال وظلال الأشجار مالاً ، ويعد الماء المحتفر بالآبار مالاً ، وتراب المقاطع مالاً ، والحشيش والحطب مالاً ، وما ينحته المرء لنفسه في جبلٍ مالاً .

والمالُ ثلاثة أنواع : النوع الأول ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيء وهو الأطعمة كالحبوب ، والثمار ، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده ولركوبه قال تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين } [ النحل : 80 ] وقال : { لتركبوا منها ومنها تأكلون } [ غافر : 79 ] وقد سمت العرب الإبل مالاً قال زهير :

* صَحِيحَاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بمَخْرَم *

وقال عمر : " لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حَمَيْتُ عليهم من بلادهم شبراً " وهذا النوع هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها ، لأن المنفعة حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاملين ولا على اصطلاحات المنظمين ، فصاحبه ينتفع به زمن السلم وزمن الحرب وفي وقت الثقة ووقت الخوف وعند رضا الناس عليه وعدمه وعند احتياج الناس وعدمه ، وفي الحديث « يقول ابن آدَمَ مَالِي مَالِي وإنما مالك ما أكلت فأَمريت أو أَعطيتَ فأغنيت » فالحصر هنا للكمال في الاعتبار من حيث النفع المادي والنفع العرضي .

النوع الثاني : ما تحصل تلك الإقامة به وبما يكمله مما يتوقف نفعه عليه كالأرض للزرع وللبناء عليها ، والنار للطبخ والإذابة ، والماء لسقي الأشجار ، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف ونحو ذلك ، وهذا النوع دون النوع الثاني لتوقفه على أشياء ربما كانت في أيدي الناس فضنت بها وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أو خوف أو وعورة طريق .

النوع الثالث : ما تحصل الإقامةُ بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضاً لما يراد تحصيله من الأشياء ، وهذا هو المعبَّر عنه بالنَّقد أو بالعُمْلة ، وأكثر اصطلاح البشر في هذا النوع على معدني الذهب والفضة وما اصطلح عليه بعض البشر من التعامل بالنحاس والوَدَع والخرزات وما اصطلح عليه المتأخرون من التعامل بالحديد الأبيض وبالأوراق المالية وهي أوراق المصارف المالية المعروفة وهي حجج التزام من المصرف بدفع مقدار ما بالورقة الصادرة منه ، وهذا لا يتم اعتباره إلاّ في أزمنة السلم والأَمن وهو مع ذلك متقارب الأفراد ، والأوراق التي تروجها الحكومات بمقادير مالية يتعامل بها رعايا تلك الحكومات .

وقولي في التعريف : حاصلاً بكدح ، أردت به أن شأنه أن يكون حاصلاً بسعي فيه كلفة ولذلك عبرت عنه بالكدح وذلك للإشارة إلى أن المال يشترط فيه أن يكون مكتسباً والاكتساب له ثلاثة طرق :

الطريق الأول : طريق التناول من الأرض قال تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] وقال : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } [ الملك : 15 ] وهذا كالحطب والحشيش والصيد البري والبحري وثمر شجر البادية والعسل ، وهذا قدْ يكون بلا مزاحمة وقد يكون بمزاحمة فيكون تحصيله بالسبق كسكنى الجبال والتقاط الكمأة .

الطريق الثاني : الاستنتاج وذلك بالولادة والزرع والغرس والحلب ، وبالصنعة كصنع الحديد والأواني واللباس والسلاح .

الطريق الثالث : التناول من يد الغير فيما لا حاجة له به إما بتعامل بأن يعطيَ المرء ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه غيره ويأخذَ من الغير ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه هو ، أو بإعطاء ما جعله الناس علامة على أن مالكه جدير بأن يأخذ به ما قُدِّر بمقداره كدينار ودرهم في شيء مقوَّم بهما ، وإما بقوة وغلبة كالقتال على الأراضي وعلى المياه .

والباطل اسم فاعل من بطل إذا ذهب ضياعاً وخسراً أي بدون وجه ، ولا شك أن الوجه هو ما يرضي صاحب المال أعني العِوض في البيوعات وحب المحمدة في التبرعات .

والضمائر في مثل : { ولا تأكلوا أموالكم } إلى آخر الآية عامة لجميع المسلمين ، وفعل : { ولا تأكلوا } وقع في حَيز النهي فهو عام ، فأفاد ذلك نهياً لِجميع المسلمين عن كُل أَكل وفي جميع الأَمْوال ، قلنا هنا جمعان جمع الآكلين وجمع الأموال المأكولة ، وإذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل أن يكون من مقابلة كل فردٍ من أفراد الجمع بكل فردٍ من أفراد الجمع الآخَر على التوزيع نحو ركب القوم دوابهم وقوله تعالى : { وخذوا حذركم } [ النساء : 102 ] { قوا أنفسكم } [ التحريم : 6 ] ، واحتمل أن يكون كذلك لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله : { ولا تلمزوا أنفسكم } [ الحجرات : 11 ] وقوله { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] ، واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله : { وقِهم السيئات } [ غافر : 9 ] ، والتعويل في ذلك على القرائن .

وقد علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني أي لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل ؛ بقرينة قوله : { بينكم } ؛ لأن بين تقتضي توسطاً خلال طرفين ، فعُلم أن الطرفين آكل ومأكول منه والمال بينهما ، فلزم أن يكون الآكل غيرَ المأكول وإلاّ لما كانت فائدة لقوله : { بينكم } .

ومعنى أكلها بالباطل أكلُها بدون وجه ، وهذا الأكل مراتب :

المرتبة الأولى : ما علمه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلاً كالغصب والسرقة والحيلة .

المرتبة الثانية : ما ألحقه الشرع بالباطل فبيَّن أنه من الباطل وقد كان خفياً عنهم وهذا مثل الربا ؛ فإنهم قالوا : { إنَّما البيع مثل الربا } [ البقرة : 275 ] ، ومثل رشوة الحكام ، ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ؛ ففي الحديث : " أرَأَيْتَ إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه " والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي : هي خمسون حديثاً .

المرتبة الثالثة : ما استنبطه العلماء من ذلك ، فما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل ، والعلماءُ فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب مِن المالكية وتفصيله في الفقه .

وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في قضية عبدان الحضرمي وامرىء القيس الكِنْدي اختصما لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فنزلت هذه الآية والقصة مذكورة في « صحيح مسلم » ولم يذكر فيها أن هذه الآية نزلت فيهما وإنما ذكر ذلك ابن أبي حاتم .

وقوله تعالى : { وتدلوا بها إلى الحكام } عطف على { تأكلوا } أي لا تدلوا بها إلى الحكام لتتوسلوا بذلك إلى أكل المال بالباطل . وخص هذه الصورة بالنهي بعد ذكر ما يشملها وهو أَكل الأموال بالباطل ؛ لأن هذه شديدة الشناعة جامعة لمحرمات كثيرة ، وللدلالة على أن معطي الرشوة آثم مع أنه لم يأكل مالاً بل آكلَ غيره ، وجُوز أن تكون الواو للمعية و { تدلوا } منصوباً بأن مضمرة بعدها في جواب النهي فيكون النهي عن مجموع الأمرين أي لا تأكلوها بينكم مُدلين بها إلى الحكام لتأكلوا وهو يفضي إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الرشوة خاصة فيكون المراد الاعتناء بالنهي عن هذا النوع من أكل الأموال بالباطل .

والإدلاء في الأصل إرسال الدلو في البئر وهو هنا مجاز في التوسل والدفع .

فالمعنى على الاحتمال الأول ، لا تدفعوا أموالكم للحكام لتأكلوا بها فريقاً من أموال الناس بالإثم ؛ فالإدلاء بها هو دفعها لإرشاء الحكام ليقضوا للدافع بمال غيره فهي تحريم للرشوة وللقضاء بغير الحق ، ولأَكل المقضي له مالاً بالباطل بسبب القضاء بالباطل .

والمعنى على الاحتمال الثاني لا تأكلوا أموالكم بالباطل في حال انتشاب الخصومات بالأموال لدى الحكام لتتوسلوا بقضاء الحكام ، إلى أكل الأموال بالباطل حين لا تستطيعون أكلها بالغَلب ، وكأنَّ الذي دعاهم إلى فرض هذا الاحتمال هو مراعاة القصة التي ذكرت في سبب النزول ، ولا يخفى أن التقيد بتلك القصة لا وجه له في تفسير الآية ، لأنه لو صح سندها لكان حمل الآية على تحريم الرشوة لأجل أكل المال دليلاً على تحريم أكل المال بدون رشوة بدلالة تنقيح المناط .

وعلى ما اخترناه فالآية دلت على تحريم أكل الأموال بالباطل ، وعلى تحريم إرشاء الحكام لأكل الأموال بالباطل ، وعلى أن قضاء القاضي لاَ يغير صفة أكل المال بالباطل ، وعلى تحريم الجور في الحكم بالباطل ولو بدون إرشاء ، لأن تحريم الرشوة إنما كان لما فيه من تغيير الحق ، ولا جَرم أن هاته الأشياء من أهم ما تصدَّى الإسلام لتأسيسه تغييراً لما كانوا عليه في الجاهلية فإنهم كانوا يستحلون أموال الذين لم يستطيعوا منع أموالهم من الأكل فكانوا يأكلون أموال الضعفاء قال صَنَّان اليَشْكُري :

لَوْ كَانَ حَوْضَ حِمَارٍ ما شَرِبْتَ به *** إِلاَّ بإذن حِمارٍ آخِـــرَ الأَبَدِ

لكِنَّه حَوْضُ مَنْ أوْدَى بإخوتـــه *** ريبُ المَنُونِ فأمسى بَيْضَةَ البَلَدِ

وأما إرشاء الحكام فقد كان أهل الجاهلية يبذلون الرُّشا للحكام ، ولمَّا تنافر عامر بن الطفيل وعَلْقَمة بن علاثة إلى هرم بن قطبة الفزاري بذل كل واحد منهما مائة من الإبل إن حكم له بالتفضيل على الآخر فلم يقض لواحد منهما بل قضى بينهما بأنهما كركبتي البعير الأَدْرَم الفَحْل تستويان في الوقوع على الأرض فقال الأعشى في ذلك من أبيات :

حَكَّمتُموه فقضى بينَكُــم *** أَزْهَرُ مثلُ القَمر البَاهِرِ

لاَ يَقْبَل الرَّشْوَةَ في حُكمه *** ولاَ يُبالِي غَبن الخاسر

ويقال إن أول من ارتشى من حكام الجاهلية هو ضَمرة بن ضمرة النَهْشلي بمائة من الإبل دفعها إليه عباد بن أنف الكلب في منافرة بينه وبين معبد بن نضلة الفقعسي لينفِّره عليه ففعل ، ويقال إن أول من ارتشى في الإسلام يَرَفَأُ غلامُ عمر بن الخطاب رشاه المغيرة بن شعبة ليقدمه في الإذن بالدخول إلى عمر ؛ لأن يرفأ لما كان هو الواسطة في الإذن للناس وكان الحق في التقديم في الإذن للأسبق ، إذ لم يكن مضطراً غيرُه إلى التقديم كان تقديم غير الأسبق اعتداء على حق الأسبق فكان جوراً وكان بذل المال لأجل تحصيله إرشاءً ولا أحسب هذا إلاّ من أكاذيب أصحاب الأهواء للغض من عدالة بعض الصحابة فإنْ صح ولا إِخاله : فالمغيرة لم ير في ذلك بأساً ؛ لأن الضر اللاحق بالغير غير معتد به ، أو لعله رآه إحساناً ولم يقصد التقديم ففعله يرفأ إكراماً له لأجل نواله ، أمَّا يرفأ فلعله لم يهتد إلى دقيق هذا الحكم .

فالرشوة حرمها الله تعالى بنص هاته الآية ؛ لأنها إن كانت للقضاء بالجور فهي لأَكل مال بالباطل وليست هي أكل مال بالباطل فلذلك عطف على النهي الأول ؛ لأن الحاكم موكِّلٌ المال لا آكل ، وإن كانت للقضاء بالحق فهي أكل مال بالباطل ؛ لأن القضاء بالحق واجب ، ومثلها كل مال يأخذه الحاكم على القضاء من الخصوم إلاّ إذا لم يجعل له شيء من بيت المال ولم يكن له مال فقد أباحوا له أخذ شيء معيَّن على القضاء سواء فيه كلا الخصمين .

ودلالة هذه الآية على أن قضاء القاضي لا يؤثرُ في تغيير حرمة أكل المال من قوله : { وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم } فجعل المال الذي يأكله أحد بواسطة الحكم إثماً وهو صريح في أن القضاء لا يُحل حراماً ولا ينفذُ إلاّ ظاهراً ، وهذا مما لا شبهة فيه لولا خلاف وقع في المسألة ، فإن أبا حنيفة خالف جمهور الفقهاء فقال بأن قضاء القاضي يُحِل الحرام وينفذ باطناً وظاهراً إذا كان بحل أو حِرمة وادَّعاه المحكوم له بسبب معين أي كان القضاء بعقد أو فسخ وكان مستنداً لشهادة شهود وكان المقضي به مما يصح أن يبتدأ ، هذا الذي حكاه عنه غالب فقهاء مذهبه وبعضهم يخصه بالنكاح .

واحتج على ذلك بما روي أن رجلاً خطب امرأة هُو دونها فأبت إجابته فادعى عليها ، عند عليّ أنه تزوجها وأقام شاهدين زوراً فقضى عليٌّ بشهادتهما فقالت المرأة لما قضى عليها ، إن كان ولا بد فزوجني منه فقال لها عليٌّ شاهداك زوجاك ، وهذا الدليل بعد تسليم صحة سنده لا يزيد على كونه مذهب صحابي وهو لا يعارض الأحوال الشرعية ولا الأحاديث المروية نحو حديث « فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخُذْه فإنما أقتطع له قِطعة من نار » على أن تأويله ظاهر وهو أن علياً اتهمها بأنها تريد بإحداث العقد بعد الحكم إظهار الوهن في الحكم والإعلانَ بتكذيب المحكوم له ولعلها إذا طلب منها العقد أن تمتنع فيصبح الحكم معلقاً .

والظاهر أن مراد أبي حنيفة أن القضاء فيما يقع صحيحاً وفاسداً شرعاً من كل ما ليس فيه حق العبد أن قضاء القاضي بصحته يتنزل منزلة استكمال شروطه توسعة على الناس ، فلا يخفى ضعف هذا ولذلك لم يتابعه عليه أحد من أصحابه .

وقوله : { وأنتم تعلمون } حال مؤكدة لأن المدلي بالأموال للحكام ليأكل أموال الناس عالم لا محالة بصنعه ، فالمراد من هذه الحال تشنيع الأمر وتفظيعه إعلاناً بأن أكل المال بهذه الكيفية هو من الذين أكلوا أموال الناس عن عِلم وعمد فجرمه أشد .